هي ليست المرة الاولى في التاريخ التي تشهد فيها قلعة حلب على مرور جماعات قادمة من خارج اسوار الوطن بهدف القتل والتدمير، فحلب شهدت أبشع الجرائم في هجوم المغول عليها ثلاث مرات وما حمل قدومهم من دمار وقتل. إذ احتل المغول المدينة تحت قيادة «هولاكو» بالتعاون مع حاكم أنطاكية «بوهيموند السادس» وذبح الناس حينها بوحشية. ومرة ثانية قام القائد المغولي «تيمورلنك» بذبح الكثير من السكان ويقال إنّه أمر ببناء تلة من جماجم السكان استخدم فيها 20000 ألف جمجمة. واليوم حلب تشهد زحفاً للمغول الجدد تحت اسم السلفيين والتكفيريين والقاعدة، وما أشبه اليوم بعهدة الحكومة التركية الحالية (صاحبة الضمير العثماني) بعهد بوهيموند السادس حاكم انطاكية. حلب الواقعة على أبواب الاناضول وعلى كتف لواء الاسكندرون (الذي كان يسمى قبل احتلاله من قبل العثمانيين بميناء حلب) وتداخلها مع محافظة إدلب التي يعمل فيها «المجاهدون» تحت راية الخلافة الاسلامية، تصبح معركة القاعدة فيها في عقدة بين تركيا والداخل السوري. معركة حلب تختلف عما يجري في مختلف المناطق السورية، فهي تشكل بحد ذاتها حالة منفردة في ازمتها. هي ليست صراعاً بين حكومة ومعارضة فعلى الارض ليس للموالاة والمعارضة وجود، على الارض هناك صوت المعركة بلغة الرصاص. حلب هي نموذج للتدخل الخارجي، لمن طالب به ويعتقد أنه لم يتحقق، فدول العالم التي تسمى بالدول العظمى تقاتل بسلاحها وبدماء غيرها. هي ابتعدت عن تكاليف الحرب المباشرة واستبدلتها بالدخول في قلب المجتمع والمدن والقرى عن طريق مجموعات يطلق عليها ألقاب وصفات مرتبطة بالدين الاسلامي، ولكنها في الحقيقة ليست إلا مجموعات متنقلة من القتلة مهمتها تدمير كيانات المجتمع تحت مسميات دينية. في 2006، كانت حلب عاصمة الثقافة الاسلامية فهي تمتلك عراقة من التراث تمتد لعشرة آلاف سنة من عصور ما قبل التاريخ إلى يومنا هذا، وهي تحمل في مدينتها مختلف الآثار والمساجد والكنائس والشواهد التاريخية. هذا التاريخ يتصل مع قوة حلب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. هذان الخطان بين التاريخ والحاضر يعطيان مدينة حلب هويتها المميزة، فهل هذه الهوية حاضنة لتلك المجموعات أم انّها هدف لها؟ وهل الامر يتوقف عند حدود حلب أم يتعداها إلى خارج أسوارها؟اول هدف لهذه المجموعات هو ضرب كيان الدولة السورية تحت مسمى الجهاد في سبيل الله، وهذا ما لم يمكن لاحد إنكاره وخاصة بعد التقارير الميدانية لمراسلين عرب وأجانب من قلب هذه المجموعات وبشكل مباشر مع الشخصيات القيادية فيها والقادمة من مختلف دول العالم. والاهم هو أهل حلب أنفسهم الذين تحدثوا بما شاهدوه من هذه الجنسيات المختلفة. والهدف الاخطر هو ضرب أي محاولة لقيام ثورة حقيقية في سوريا، هم لم يسرقوا محاولة «الثورة» ولكنهم عملوا على قتل هذه الثورة وكل تغيير يعطي قوة لهذه الدولة من أي جهة كانت إن كان من جهة الحكومة أو قوى المعارضة. الحل في هذا الجزء من الازمة السورية ليس على طاولة الحوار التي تدعو إليها مختلف الاطراف، فعلى أي أساسٍ تحاور الشيشاني والليبي وهل يحق لهم بالاصل التحاور مع أي جهة كانت في سوريا؟! هذا الجزء من الازمة يتعامل معه بطريقتين، الاولى هي المعركة العسكرية والثانية هي توقف الدعم الاقليمي لهذه المجموعات، والامران يرتبطان بالواقع الميداني على الارض الذي هو بالنتيجة جزء من اوراق التفاوض التي ستذهب إليها مختلف الاطراف الازمة السورية الداخلية والخارجية. هل حلب هي معركة الحسم؟ قد يكون على المستوى العسكرية لها تأثير هام ولكن الازمة السورية مركبة ومعقدة أكثر من أن تنتهي مع انتهاء معركة في مكان معين. أزمة في بنية المجتمع ومؤسسات الحكومة والحياة السياسية والاقتصادية وصولاً إلى الصراع على الغاز والنفط في المنطقة وتشكيل النظام العالمي الجديد، ومن هنا لا ننتظر الخلاص من بعد حلب على مستوى الازمة ككل وإنما ربما جزء منها.
الخسائر في سوريا تمتد إلى كل المحافظات وتصيب كل إنسان، وحلب إحدى المدن التي تعاني من هذه الخسائر والدمار على المستويين البشري والعمراني، فالكثير من أهاليها اتجهوا نحو مدن أخرى ومنهم من قطع الحدود نحو لبنان. في حلب مبان تراثية تهدمت بكاملها على الارض، وقتلى الشهرين الماضيين تضاعفوا بنحو كبير في كل يوم يمضي في عمر أزمتها، وكثر من يتحملون مسؤولية ما وصلت إليه البلاد. كل في موقعه عليه جزء من الاخطاء والخطايا التي لا تغتفر، فالفاسد على الحدود هو ذاته الداعي إلى التدخل الخارجي، كلاهما ضرب وحدة المجتمع وكيان الدولة.
تكلمنا عن غزوات المغول وتدميرهم، لكن علينا ان نتكلم عن قوة حلب التي كانت تخرج منها من بعد تلك الحروب وكيف كان أهلها هم من يأخذون زمام المبادرة بإعادة مركزها ووجودها القوي في دولتها ومنطقتها الجغرافية. والايام المقبلة، مهما طال الوقت، تنتظر أن يعيد أهل حلب هذه التجربة التاريخية ويسجلوا مرة جديدة خروجهم من معركة المغول الجدد بقوة اكبر من ما كانت عليها حتى قبل الازمة. ذلك خاصة بعد تدهور جزء هام من صناعتها بعد فتح السوق السورية أمام المنتجات التركية والتي كان لها تأثيرٌ كبير على دورتها الاقتصادية، وهي من الامور التي يجب أن تعالج بعد ازمتها لما سببته الحكومات السابقة من ضرر بحق هذه المدينة.
* كاتب لبناني