«فلتأخذ ما تشاء فلتملك ما تريد، نحن كلّنا ملك لإيفيتا». هذا هو كان ردّ الجمهور الأرجنتيني على عرض الجنرال ليوناردي لسيرة فساد الرئيسة الأسطورية للأرجنتين، التي حكمت البلاد في خمسينيات القرن الماضي، وكانت قد خرجت من بيئة وضيعة، وبعد زواجها بالرئيس خوان بيرون أصبحت معبودة الجماهير وملهمتها، وحين أصبحت بدورها رئيسة لم يمهلها مرض السرطان وقد قتلها ولم تبلغ الـ33 عاماً من العمر.
ولأنّ الشعب العاشق لمعبودته رفض فكرة موتها، فقد قام الأرجنتيون بتحنيطها ووضعها في نعش زجاجي شفاف في مجلس الشيوخ رغم كلّ الحقائق المثبتة التي انكشفت بعد غيابها عن سرقتها لملايين الدولارات واقتناء أغلى الملابس والمجوهرات ومن مال الفقراء ذاتهم الذين جعلوا منها قديسة. رفض الأرجنتينيون أن ينكروا حبّهم لإيفيتا أو أن يقايضوه بحقيقة أن المعبودة ليست سوى ساحرة جميلة لا تختلف عن أي من الأنماط السياسية الفاسدة التي اكتوى بنارها فقراء الأرجنتين ومسحوقوها... لكنّه الحب الأعمى للجمهور والكاريزما الخارقة للزعيم.
ليس الشعب الأرجنتيني وحده من عايش تجربة القائدة الملهمة والساحرة الخارقة، فما زالت شعوب بأكملها تعايش التجربة يومياً وتمتهن المعاناة بسعادة، بل تغرق حرفياً في المزبلة دون أن تحتج، بل تستنكر على المحتجين احتجاجهم، ما دام اتهام السلطة بالفساد قد يطاول المعشوق. فلا بأس بالموت البطيء ولا بأس بالعيش الذليل والقرف الذي لا نهاية له ما دامت الغاية من الوجود هي حبّ القائد وعائلة القائد والمحيطين بالقائد، فالحبّ هو من الأشياء التي لا تخضع لمنطق أو عمليات حسابية، بل هو هبة يضعها الخالق في قلب من يشاء. فالجماهير تخرج من بيوتها المعتمة والرطبة حيث ينهشها الفقر والعتمة لتعبر أزقة بائسة تأكلها الحفر ومجاري الصرف الصحي من أجل أن تهتف لزعيم ليس على جمال إيفيتا ولا حتى على قدر الأوهام التي كانت تزرعها، وهي توزع الألعاب البلاستيكية الرخيصة على بيوت فقراء الأرجنتين. كانت إيفيتا تبذل بعض الجهد، لكنّ «إيفيتاتنا» لا يعنيهم أمر جماهيرهم بالمطلق، ثمّ إنّهم لا يحتاجون إلى كم من البراعة لإخفاء فسادهم، فهم يسرقون علناً ويتبادلون الاتهامات بالفساد من على شاشات التلفزيون ومباشرة أمام شعب كلّ همه أن لا تهان كرامة زعيمه أو أن تشوّه صورته. فنحن لا نحتاج أن ننتظر موتهم لتتكشف لنا قصورهم الفاخرة وحساباتهم البنكية الطائلة ومحسوبياتهم ورهاناتهم وعقاراتهم، لكنّنا نحبهم، ولا بأس إن غرقنا جميعاً في المزبلة الكبرى التي كانت وطناً.
ما نحتاجه فعلاً هو أن نخرج من حالة العشق و«التسطيل» أمام هذه الكائنات التي لا تحتاج إلى تحنيط بعد موتها، فهي أصلاً مُحنّطة، ما دمنا جميعاً نعيش حالة موت سريري أمام حضرتهم المباركة ببخور المذهبية والطائفية والعشائرية وكل موبقات القرن الثامن عشر الذي لم نتجاوزه. فالمشهد يتجاوز هيام الضحية بجلادها على طريقة متلازمة استوكهولوم ليصل إلى حدّ الاختلال العقلي الصريح الذي يستدعي معالجات نفسية. فحين تغرق عاصمة ما بطوفان من أكياس النايلون الأزرق والأسود وبروائح لا يتحملها أي من أصناف الثدييات المعروفة ثمّ يستمر الغرام المتوحش بتلك الكائنات الغائبة عن النظر وعن السمع، فهذا يعني شيئاً خطيراً هو الخروج عن الحالة الإنسانية السوية في ما يُعرف بظاهرة التحوّل، وليس في الأمر مبالغة. فالجمهور الذي ينتظر الكوليرا أو أنّ الكوليرا تنتظره من المفترض أن يفعل شيئاً، كأن يتوقف عن ممارسة حبّه الأعمى لجلادي أطفاله. وإن لم يفعل، وهو لن يفعل، فلا بأس بالموت على مذبح إيفيتا، فما ذنب إيفيتا إذا كان عشّاقها «مهابيل».
* كاتب لبناني