ما أطلقته الانتفاضة السورية من الأسئلة أكثر بكثير مما طرحه مفكرو العرب ومثقفوهم على مدى قرون. وما هدمته من البديهيات والمقدسات ووضعته أمام ساحة النقد أكثر بكثير من كل البديهيات التي عمل نقاد العرب على نقدها ووضعها على طاولة التشريح. لكل سؤال في الساحة السورية سؤال نقيض له، وليس للسؤالين أي جواب، لأنّنا في سوريا في مرحلة انعدام اليقين، انعدام اليقين وانطلاق الشك تجاه تلك الأسئلة وأجوبتها، وليس تجاه الانتفاضة التي هي اليقين الوحيد الذي يمكن الاستناد إليه، رغم كل الطعنات التي تلقتها من خصومها أولاً، ومن مشايعيها الذين تستروا على أخطائها كثيراً إلى أن بدأ الخطأ يفيض وما عاد يمكن السكوت عنه، رغم تحذيرات كثيرة أطلقناها منذ الشهر الرابع للانتفاضة.أطلقت الانتفاضة السورية كمّاً هائلاً من الأسئلة، يصعب علينا الإحاطة به، وما كمّ الأسئلة المطروح هذا إلا نتاج سكوت المثقفين والمفكرين عن إعمال مباضع نقدهم فيه طيلة عقود طويلة، إما لخوف من السلطان وإما لعقم فكري أطال المتن والهامش معاً.
أسئلة يطلقها خصوم الثورة تجاه أنصارها، وأسئلة يطلقها المحايدون تجاه الطرفين، وأسئلة يطلقها أنصار الثورة الذين انقسموا بين سلميين ومؤيدي العسكرة، وأسئلة يطلقها اليمين الثوري تجاه اليسار الثوري، وهنا يحتج يساري متسائلاً: ومتى كان اليمين ثورياً؟ ويرد يميني: متى كان اليسار الثوري ضد السلاح؟ ألستم مؤلهي غيفارا ولينين وفيدل كاسترو، وكلهم كانوا من أنصار العنف الثوري بمواجهة الرأسماليات والدكتاتورية؟ يرد اليساري: وما نوع هذا الكفاح المسلح الذي يجلب كل مجاهدي العالم إلى سوريا؟ وما علاقة هؤلاء بالثورة؟ يرد اليمني: هل لك أن تقول لي أين استشهد غيفارا؟ ولماذا يحق ليساريي العالم النضال في كل مكان لنقل الثورة، ولا يحق في الوقت نفسه للمجاهدين الجهاد في أي مكان؟ يرد اليساري: ولكن غيفارا واليسار من خلفه لم يحتمي يوماً بالمدنيين بل كانت ثوراته تنطلق من الجبال والغابات؟ وهل تساوي هذا بذاك؟ يصرخان ولا يعود أي منهما يكلم الآخر.
أهم ما في الأسئلة المطروحة ليس في ماهية الأسئلة فحسب، بل في مدى البديهيات التي عرتها ووضعتها أمام مبضع النقد، بدءاً من الإيديولوجيات التي تتهافت الواحدة تلو الأخرى في ساحة الانتفاضة، إلى الأفكار الكبرى ومنتجيها، إلى المقدسات الفكرية التي لم يصلها النقد مسبقاً (مقاومة... ممانعة... سيادة...) وليس انتهاءً بالمثقف الذي لم تعرّ الانتفاضة أحداً كما عرّته، سواء كان مؤيداً لها أو مناهضاً لها، يسارياً أو يمينياً.
على صعيد البديهيات التي حطمتها الثورة السورية وأطلقت حولها نقاشاً لن ينتهي، ثمة أسئلة من نوع: هل يمكن الاستبداد أن يكون ممانعاً؟ وهل يمكن مقاومة جذرها الأساس يقوم على بنية طائفية أن تكون أساساً لمشروع مقاوم؟ ما الذي يبقى من المقاومة كفكرة وطنية حين ينحاز حزب الله طائفياً إلى النظام السوري وتنشق حركة حماس طائفياً عن النظام السوري؟ وهل يعني هذا نبذ فكرة المقاومة أم نقدها وتصويب أخطائها؟ كيف يمكن الحديث عن فكرة السيادة الوطنية في الوقت الذي تتلاعب فيه سوريا بأمن لبنان (قصة ميشال سماحة) ويطلق جيشها النار العابرة لحدود سوريا مع الأردن ولبنان وتركيا؟ وفي الوقت نفسه، هل يحق لدول مجاورة أن تتدخل في الداخل السوري عبر تسهيل نقل الأسلحة والمسلحين ولو كان الهدف لدعم الثورة؟ وإن كان الجواب نعم، ماذا لو قامت طهران بدعم ثورات مسلحة في الخليج غداً؟ وماذا عن تدخل درع الجزيرة بقيادة السعودية لقمع ثورة البحرين؟ وهل يمكن لمستبد سعودي قطري قمع ثورة البحرين أن يدعم شعباً سورياً حراً بمواجهة دكتاتوره؟ وهل يمكن لمثقف عربي وسوري حصراً أن يدعم الثورة السورية من الدوحة، في الوقت الذي يصمت عن ثورة مظلومة في البحرين، لا تبعد عنه سوى كيلومترات؟ وما الذي يتبقى حينها من مفهوم المثقف الذي يقف ضد فكرة القمع والظلم أينما شاء؟ أليس هذا مثقفاً متلوناً حتى لو كان مع ثورته السورية، لأنّ واجب المثقف أن ينتمي إلى فكرة العدالة أينما كانت وأن يقف ضد الظلم أينما حل؟ أليس لهذا السبب نحب نحن العرب مثقفين من نمط نعوم تشومكسي وساراماغو وغويتسلو... لأنّهم وقفوا مع العدالة الفلسطينية ضد الظالم، دون أن يمنعهم ذلك من الوقوف ضد انتقاد حكوماتهم في كل وقت؟
صديقي يسألني دائماً: كل انتفاضة تقدم فكرها، أين الفكر الذي قدمته الانتفاضة السورية؟ هنا يمكن القول، يكفي ما أطلقته الانتفاضة من أسئلة سابقة وغيرها حتى تكون انتفاضة حقيقية. يكفي حجم المطلقات التي عرتها والبديهيات التي هتكتها. الانتفاضة السورية تقدم فكرة هدم كل المقدسات والأصنام التي عبدناها سابقاً: أصنام السلطة التي وصلت حد منع السوريين من تعزية بعضهم بعضاً في الجنازات، والمعارضة التي اكتشفنا أنّها تقاتل لأجل مناصب وعاجزة عن التوافق، والثقافة السائدة التي اكتشفنا أنّها تبرر كل شيء سواء مع أو ضد، إذ لم تزل ثقافة سكونية، عاجزة عن رؤية الألوان كلها داخل طيف الموالاة أو داخل طيف المعارضة، لتكون (السلطة والمعارضة) نتاج ثقافة متهافتة كتلك. وهذا أهم ما تفعله الانتفاضة السورية: أي الهدم وتأسيس الأرضية الجديدة فكرياً لنشوء ثقافة جديدة لا ترتهن لشيء سوى للضمير المعرفي الحر الذي وحده يصنع سلطة ومعارضة تليق بنضال السوريين وتضحياتهم.
واهم من يظن أنّ الانتفاضة السورية ستحل كل مشاكل السوريين المزمنة والمتراكمة منذ قرن من الزمان، لأنّنا نحتاج سنين من العمل لكي نصل خطوة الانطلاق الصحيحة، وما تفعله الانتفاضة هنا ليس أكثر من فتح الباب على مصراعيه لننتقل من اللاطبيعي إلى الطبيعي، من اللاواقع الذي حشرنا فيه الاستبداد إلى الواقع بكامل عريه وأخطائه. وهذا ليس بقليل لمن يدرك طبيعة الاستبداد السوري وشدته وقسوته ومدى ما فعله في الداخل السوري من تخريب وهتك على مدى عقود.
حجم الأسئلة المطروح وانعدام اليقين تجاهها وتجاه أجوبتها، هما ما يجعلان عمر الانتفاضة السورية طويلاً، وهما ما يجعلانها الأكثر عمقاً بين انتفاضات العرب، لأنّه ربما على نتائجها سيكون الربيع ربيعاً حقاً أو ينحرف باتجاه التدجين الذي تسعى القوى الدولية لإدخال الربيع فيه، وما هذا التكالب الدولي على الانتفاضة والشعب السوري إلا دليل دامغ على صحة ما سبق.
* شاعر وكاتب سوري