حطّت النجمة الأميركية أنجلينا جولي في بيروت في 12 أيلول 2012، بصفتها «سفيرة النيات الحسنة للمفوضية العليا لشؤون اللاجئين»، بعد جولة على مخيمات اللاجئين السوريين على الحدود الأردنية ــ السورية، وزيارات لبعض اللاجئين في لبنان. والتقت رئيس الحكومة نجيب ميقاتي والوزيرين وائل أبو فاعور وحسان دياب، ثم عقدت مؤتمراً صحافياً، كما يليق بزعماء الدول، ثم غادرت إلى تركيا للقيام بزيارات مماثلة للاجئين السوريين على الحدود التركية ــ السورية.للوهلة الأولى، لا بد للمرء إلا أن يحسد الرئيس ميقاتي والوزيرين على الدقائق التي أمضوها مع نجمة هوليوود العالمية، تماماً كما يحسد المرء الرئيس الراحل الياس الهرواي على استقباله عارضة الأزياء الألمانية كلوديا شيفر في قصر بعبدا قبل 15 عاماً، لكنْ ثمّة فارقان بين الزيارتين: أولاً أنّ الهرواي تجرّأ وطبع قبلة على خدي شيفر (وهذا ما لم يحصل مع الرئيس ميقاتي والوزيرين)، وثانياً أنّ لزيارة جولي خلفية كبيرة الدلالات السياسية مقارنة بزيارة شيفر.
ثمّة أسئلة بديهية تُطرح عن سبب عمل المشاهير في الأمم المتحدة، ولماذا يتصدّر النجوم شاشات التلفزة والفضائيات للدفاع عن قضايا سياسية واجتماعية بعينها دون أخرى، ولماذا أصبح النجم الهوليوودي «جود لو» مثلاً، وسيطاً أميركياً لدى حركة طالبان في أفغانستان؟ ولماذا يجعل النجم جورج كلوني مسألة دارفور همّه اليومي وعمله الأساسي كيفما اتجه؟ ولماذا يخرج ريتشارد غير على التلفزيون عشية الانتخابات الرئاسية الفلسطينية وينصج بالتصويت لرئيس معتدل؟ وكيف أعطى لنفسه حق تمثيل العالم، إذ أضاف: «أنا أتحدّث باسم العالم»؟
في الماضي، كان مشاهير السينما والغناء يعملون على ترفيه المشاهد والمستمع من أفلام هوليوود إلى ألبومات وحفلات الروك، وكان نشاطهم خارج الفن يقتصر على حضور حفلات افتتاح أفلامهم أو مناسبات اجتماعية أو خيرية أو مهرجان جائزة أوسكار، لكنهم في العقود السابقة أصبحوا زعماء سياسيين (نجم هوليود رونالد ريغان الذي أصبح رئيساً للولايات المتحدة وأرنولد شوارتزنيغر الذي أصبح حاكماً لكاليفورنيا).
في السنوات العشر الماضية، قفز عدد المشاهير الذين يعملون في السياسة أضعافاً مضاعفة، وباتوا نافذين في كل شاردة وواردة حول العالم. لقد أصبح المبنى الرئيسي للأمم المتحدة في نيويورك موقعاً عادياً ومنبراً يطلّ منه المشاهير، يتكلمون عن قضايا العالم وحقوق الانسان، أو حتى يروّجون لبضائع كمالية وعطور كما يفعل البعض في محلات بيع الأشرطة في بيروت مثلاً.
لقد أصبح للمشاهير نفوذ وسحر لا حدود لهما، إذ مَن سيقاوم التقاط صورة مع أنجلينا جولي أو مع جوني ديب أو براد بيت؟ وثمّة قلّة فقط تنافس المشاهير في الإيرادات، ففيما يتقاضى المشاهير مبالغ تصل إلى عشرين مليون دولار عن الفيلم الواحد، وأسماؤهم على كل شفة ولسان من أعالي التيبت إلى حضرموت، لا يزال بعضنا يحلم بأن يصبح مشهوراً كمفكّر أو كأديب مثلاً، لكن يتمهّل المرء ــ وخاصة المفكّر والأديب ــ عندما يجد منحى فاوستيّاً (أي عقداً مع الشيطان) وراء كل هذا المال وهذه الشهرة. فلسنا اليوم أمام حسّ الفنان الرافض المثقف الناقد الذي ميّز أهل الفن وأبعدهم عن أصحاب المال والسلطة في السابق (كرفض البعض لجائزة نوبل أو تهيّب ديغول من جان بول سارتر). الدليل؟ تصريحات المشاهير اليوم تصبّ لمصلحة السلطة ولدعم مشاريع قوانين ومواقف مؤذية يأخذونها من قضايا الشعب (كالضمان الصحي أو التلوث أو الحروب). آلاف الأمثلة يمكن العثور عليها بوسائل البحث الإلكتروني، في الصحف والمجلات واليوتيوب.
عشرات المشاهير يصّرحون في أمور شتّى لا يفقهونها، ليس فقط في السياسة، بل أحياناً في العلوم والطب، حتى إنّ البرلمان الروسي صوّت لإرسال نجمة روسية إلى المحطة الفضائية، كما صرّحت شارون ستون بأنّ الكافيين يسبّب السرطان.
قد يظهر المشاهير في أفلام ينقذون فيها العالم، لكنّهم في الحقيقة بشر عاديون قد يصرفون ساعات وهم يتحدثون عن أنواع النبيذ، ولا يملكون مؤهلات تجعلهم شركاء في صنع القرار أو إبداء الرأي في مسائل خطيرة.
في 2005 «دعم» بروس ويليس «الحرب على الإرهاب» بسلسلة مقابلات وتصريحات ابدع فيها بتفيكره الاستراتيجي، وجاء في أحدها أنّ سبب عدم العثور على بن لادن يعود إلى غياب مكافأة مالية لمن يقضي عليه. ولكي لا يبقى كلامه فارغاً أعلن فوراً أنّه يقدّم مكافأة من جيبه مليون دولار لمن يجلب رأس بن لادن (على طريقة أفلام الكاوبوي)، وإذ لقي عرضه ترحيباً واهتماماً إعلامياً عالياً، تشجّع وأعلن جائزة ثانية بمليون دولار لمن يجلب رأس أبو مصعب الزرقاوي، مسؤول تنظيم القاعدة في العراق. قد يقول البعض إنّ ويليس كان يغار من بن لادن لأنّ عدد مشاهدي الثاني على اليوتيوب أعلى بكثير من مشاهدي مقاطع أفلام ويليس، فاقتضى الأمر إطاحته.
لكن لنعد إلى أنجلينا جولي. قليلون يعلمون أنّ جولي أصبحت في 2007 عضواً في «مجلس العلاقات الخارجية» http://www.cfr.org/about/، وهو لوبي أميركي محافظ ونافذ ومهم في واشنطن، يشارك ويؤثّر في صناعة قرارات البيت الأبيض، ويزور أعضاؤه الدول العربية وغيرها، حيث يستقبلهم الرؤساء والملوك بوقار ومهابة. ومن أعضائه هنري كيسنجر ومادلين ألبرايت وجورج شولتز والصحافي فريد زكريا. وهنا لا أحد يفهم كيف تكون أنجلينا جولي بوجهها البريء الجميل وشخصيتها الهادئة جنباً إلى جنب مع كيسنجر، الذي ترك سلسلة حروب حول العالم لم تنتهِ بعد، أثناء توليه منصب وزير الخارجية الأميركية في عهد نيكسون.
لكن المجلس دافع عن عضوية جولي بالقول: «لا تنظروا إلى عضوية جولي كأنّ المجلس منح العضوية لباريس هيلتون» (عارضة أزياء وممثلة ثرية). والمفاجأة كانت أنّ كيسنجر كان أكثرهم سعادة بعضوية جولي، إذ أعلن في كلمة له أمام جمهور في نيويورك أنّ «الجلوس إلى طاولة مع أنجلينا جولي سيكون فرصتي الوحيدة لألتقيها شخصياً»، كما صرّح بحماسة غوردن آدامز العضو والخبير الاستراتيجي المعروف: «ضمّوها إلينا... وتصوروا أنّ معنا على الطاولة سيكون هنري كيسنجر وأنجلينا جولي! سيكون ذلك مبهراً للعيون».
في زيارة لي إلى معرض الكتاب في بيروت في كانون الأول 2004، حضرت الافتتاح الذي رعاه رئيس الحكومة آنذاك عمر كرامي، وإذ كان عدد الحضور قليلاً في القاعة، شرح البعض لدولة الرئيس أنّ هيفاء وهبي تفتتح جناح «البي بي سي» لتعلّم الانكليزية، وأنّ الناس ذهبوا إلى ذاك الجناح. فعلّق دولته مبتسماً: «لا يمكننا منافسة هيفاء».
والفارق مع أنجلينا جولي أنّها عضوة في مجلس أميركي مؤثّر في مستقبل العالم وفي احتمال سقوط ضحايا بالملايين، وكيسنجر ــ أحد أهم أعضائه ــ يعيش في أحلام يقظة حول نجمة سينمائية يعتقد أنّها ربما استطاعت إنقاذ أفغانستان مثلاً. ولم تخيّب جولي آمال معجبيها داخل المجلس، فمَن يستعمل محرّك البحث على صفحة الانترنت لهذا المجلس سيصاب بالذهول لظهور اسمها في عدد كبير من القضايا الدولية من الشرق الأوسط إلى دارفور والعراق وإيران والبنك الدولي. وآخر أفلامها «Salt» يتمحور حول التشهير بعدد من الدول (تتعرّض للاغتصاب والتعذيب على أيدي جنود في كوريا الشمالية، تناضل ضد مؤامرة روسية للقضاء على أميركا، وتجهض هجمات نووية على دول إسلامية... إلخ).
شاركت أنجلينا جولي في مؤتمر عقدته الأمم المتحدة في بغداد قبل سنوات، وقامت بجولة في «المنطقة الخضراء» المدجّجة بالسلاح وصرّحت التالي: «هناك الكثير من الكلام حالياً والكثير من التفاصيل التي يجب أن نجمعها وأنا أحاول أن أفهم ما هي هذه التفاصيل». لا أحد يلومها إذا لم تفهم كيفية إعادة بناء بلاد مدمّرة وتأهيل أكثر من مليون مهجّر داخلي في العراق.
* استاذ جامعي لبناني ــ كندا