أذكر أني كتبت يوماً مقالاً عن لبنان غداة جولة من جولات العنف المسلّح فيه. كان ذلك أيام قصف الجيش اللبناني لمخيم نهر البارد، واشتباكه مع مسلحي «فتح الإسلام» بغرض دحر هؤلاء منه. طبعاً من دحر وقتها هم المسلحون و... أهل المخيم الفقراء! يبدو لي النص بعد كلّ هذه الفترة مفتقراً إلى الجدّية وغير متماسك بالمرّة. ذلك أنّه أتى وقتها متزامناً مع نهم شديد إلى «كتابة استهلاكية» تستثمر في اللحظة ولا تحاول كثيراً قراءة ما بعدها.
اليوم وإذ يحاول المرء معاودة الانشغال بقضية المسلحين الاسلامويين، بعدما نقل هؤلاء نشاطهم إلى سوريا، فلا بد لعودته تلك من أن تكون حقيقية ومتخفّفة كثيراً من سذاجة البدايات واندفاعها. لنبدأ أولاً من الفرضية التي تصاحب أيّ محاولة لقراءة النشاط الاسلاموي المسلح: «أرض الجهاد». ثمّة مشكلة في إعطاء فرضيات مماثلة حيّزاً للاشتغال النظري. ما يحدث هنا أنّنا ننشغل فعلاً بتحليل الظاهرة وتفكيكها، لكنّنا ننسى في غمرة انشغالنا ذاك أمراً أساسياً يخصّ البيئة التي تحتضن تلك الظواهر. والأمر هنا يتمثل في حجم التحوّلات التي طرأت على البيئة تلك، ونقلتها من ضفّة إلى أخرى. تحوّلات لا يصدف كثيراً أن تحدث بهذه السرعة وبهذه الوتيرة أيضاً. بالمناسبة هذه الخاصيّة جديرة بأن تكون موضوعاً مستقلاً للدرس، وخصوصاً أنّها تقدم شرطاً مناسباً لفهم الآليات التي أفضت إلى هذا الكمّ من التفكيك في بنية مجتمعاتنا العربية. ولكن قبل الخوض في ذلك، لا بدّ من استخدام أدوات في التحليل تقطع جزئياً مع سردية «الثورات» المهيمنة على كلّ المشهد اليوم. لقد وجدت (وقد أكون مخطئاً) أنّ ملامسة الجذر الفعلي لقضية تصدير «العنف الكولونيالي» إلى المنطقة وإلباسه طابعاً محلياً لن تكون ممكنة، ما لم يبدأ الحفر «من الداخل». رواية «الثورات» لا تتيح للمرء ذلك إلا جزئياً. «فالعنف الكولونيالي» سابق عموماً لفكرة مناوأة النظم والديكتاتوريات. وإذا كانت هذه الأخيرة قد وفّرت له حاضناً للعودة إلى المشهد والتلاعب بمكوّناته، إلا أنّها لم تكن أبداً الأصل في نشوئه ولا في صيرورته الحالية. طبعاً ستجد هذه «الأطروحة» كثيراً من المعارضة لدى الفئات المنخرطة في الحراك الحاصل وغير المنضوية بالضرورة ضمن الإطار النيوليبرالي الذّيلي.
لا يزال هؤلاء يرفضون حتى الآن فكرة المزاوجة بين نقد الإجرام النظامي ونظيره غير النظامي. يجرمّون مثلاً قصف نظام الأسد للمدن والبيئات المعارضة ويعدّونه فعل إبادة (خصوصاً بعد دخول البراميل المتفجرة الملقاة من الطائرات إلى المشهد) وهم محقّون في ذلك، لكنّهم يغضّون الطرف بصفاقة شديدة عن عمليات القتل الطائفي والنّهب والسرقة والخطف والتهجير والفرز على أساس الهوية الجزئية. وعندما تواجههم بذلك يقولون لك: لكل «ثورة» انحرافاتها وأخطاؤها! لكن هذه الانحرافات (اقرأ: الجرائم) قد تواترت كثيراً في الآونة الأخيرة، وخصوصاً ضد «الأقليات» السياسية وغير السياسية، وبالتالي ما عاد ممكناً فهم «اشتغالها» ضمن الآليات التقليدية لفكرة التثوير. هنالك من يقترح اليوم معاودة الانشغال بالعنف المناوئ للنظم من موقع العداء للكولونيالية الجديدة وأدواتها النفطية وغير النفطية. بكلام آخر، يقول هؤلاء إنّ العنف الميليشياوي المسلح ذو بعد وظيفي، لأنّه يستخدم كأداة ضمن «المشروع الكولونيالي الجديد للمنطقة». طبعاً، ليس ثمّة من جديد في هذا الكلام إلا توقيته المصاحب لانقسام النخب وتوزّعها على مشاريع متقابلة، لكلّ منها مموّلها وبعدُها الوظيفي. ومع ذلك، يجب الالتفات جدّياً إلى الكلام ذاك، ولو من موقع نقدي. فأصحابه معنيّون مثلنا وأكثر بكسر هيمنة «السردية الثورية» والاشتباك مع مصادرة طبعتها النيوليبرالية لكل الاجتهادات المغايرة. هذا أولاً، أما ثانياً فصدور معظمهم عن فكرة «الممانعة» لا يعني أنّهم لا يزالون ملتصقين بالقشرة القديمة التي كانت لها. «الممانعة» التي كان يمثلها النظام السوري ذهبت إلى غير رجعة، لا لأنّ جذوة الممانعة للهيمنة الامبريالية قد انطفأت، بل لأنّ «حاملها الموضوعي» رسمياً لم يكن معنياً من الأساس بفكرة تجذيرها شعبياً، أو الأخذ بها أبعد بقليل من الرّطانة المحضة. هذه المعطيات بمجملها تجعل من هؤلاء أقرب إلى الممانعة بنسختها الأصلية منهم إلى الديكتاتوريات التي جعلت منها شعاراً ونمطاً مبتذلاً للعيش. وهو ما يحمل المرء على القول بأنّ التقاطع معهم ومع أطروحاتهم ممكن، لا بل ضروري أحياناً، إذا ما كان سيحفظ له (أي التقاطع) موقعه المستقلّ والمناوئ لكل من يحتقر الطبقات الشعبية ويستخفّ بإرادتها. الآن وبعد إثبات جدّية الطرح الذي تنهض عليه فكرة مناوأة العنف المضاد للنظم «من موقع وطني»، دعونا ننتقل إلى ما يطرحه علينا فعلياً. تقوم أطروحة القائلين بصيرورة العنف (لا يعترف هؤلاء بالطابع المضاد الذي بدأ به هذا الشكل من العنف) ضد النظم «عنفاً كولونيالياً» محضاً على فرضية تجريم عسكرة الحراك وردّ هذه الأخيرة إلى المكوّن الاستعماري فحسب. الفكرة جديرة بالنقاش عموماً، لكن من يطرحها يفعل ذلك من موقع نظري. سبق لمؤيّدين لعسكرة الحراك أن فعلوا «الأمر ذاته»، وسبق لي أيضاً أن تطرّقت إلى ذلك في ردّي على سلامة كيلة.
الأرجح أنّ مشكلتنا الرئيسية اليوم في سوريا هي في هذا التشخيص تحديداً: أي في التنظير لمسارات غير مطابقة فعلياً لما يحدث في الواقع. ويصحّ ذلك على مناوئي العسكرة، كما على المتحمسّين لها. طبعاً كلا الطرحين قابل للأخذ والردّ، إلا أنّهما بحاجة إلى مزيد من الجدّية. ولكي نكون جديين فعلاً، علينا أن نكفّ عن التنظير لمسارات مفارقة للواقع ولديناميته المتصاعدة. والواقع اليوم يقول عكس ما كان يقوله بالأمس. هكذا تشتغل ديناميات الحراك عموماً: لا تصغي إلا الى «منطقها الذاتي»، وهو غالباً منطق لا يحبّذ الواقعية السياسية، ولا يتعامل معها إلا عند الضرورة. والضرورة الآن بالنسبة إلى المسلحين بشقهم الاسلاموي «الطارئ» هي كيفية توظيف السياسة في خدمة مشروع التسلّح لا العكس. بهذا المعنى يمكن أن نفهم كيف آل «الحراك السلمي» الشعبي في حمص إلى حراك ميليشياوي لم يبق مسلّح أجنبي أو عربي إلا وامتطاه في ادلب وحلب.
ليس صعباً كثيراً أن يؤوّل المرء الأحداث التي فصلت بين المحطتين: الصراع ضد النظام بات ورطة حقيقية بالنسبة إلى المسلّحين، ووجود الأجانب بينهم اليوم قد يعينهم على تخطّي هذه الورطة. هي حاجة فرضت عليهم فرضاً إذاً! حاجة أملتها موازين القوى التي بدأت تختلّ و«تميل لمصلحة النظام» في أكثر من مكان. تأويل كهذا قد لا يكون في مكانه تماماً، إلا أنّه يجتهد قدر المستطاع في تفسير استعانة الحالة المسلّحة السورية بمقاتلين أجانب لا يعنيهم البلد ولا أهله في شيء. ربما يظنّ المسلحون السوريون أنّ هؤلاء تحت سيطرتهم فعلاً، وأنّ بالإمكان التحكّم بمسار انخراطهم في الصراع، لكن هنالك دلائل تشير اليوم إلى أنّ ظنّهم غير دقيق، والى أنّ خروجهم عن القواعد المتعارف عليها للصراع مع النظام ستأتي بمفاعيل عكسية عليهم وعلى بيئتهم المباشرة. وأولى هذه الاشارات تصدر اليوم من حلب، حيث التواجد الأكبر للمقاتلين الأجانب الذين بدؤوا يخرجون إلى الضوء جدّياً. وخروجهم ترافق مع ممارستهم أنماطاً من العنف لم يحصل أن مورست من قبل.
ثمّة بالفعل أدلّة متزايدة على ضيق البيئة «الحاضنة لعسكرة الحراك» بما يفعله أولئك المقاتلون. حتى لو لم يفعلوا شيئاً، فإنّ وجودهم في حدّ ذاته لا يتّسق مع بيئة اجتماعية محليّة عرفت كيف تتأقلم مع الصراع بين النظام والمعارضة، وان في أحلك الظروف. يوجد إذاً قدر من الصحّة في السردية الممانعة التي تردّ نشاط هؤلاء إلى رغبة الغرب في التلاعب بالهوية السورية وإحداث تصدّع حقيقي فيها. لكن الكلام على التلاعب بالهوية يستدعي أحياناً الذهاب في الاتجاه المعاكس. مثلاً عندما تواجه الممانعين بوقائع مغايرة تفيد بصدور هذا المسعى عن النظام أيضاً لا تلمس أنّ لديهم استعداداً لمناقشتك في ما تقول. قد يجارونك قليلاً، غير أنّهم سرعان ما يعاودون تذكيرك بأنّ خبرة النظام في ذلك ليست كخبرة الغرب وإمّعاته في المنطقة. وأغلب الظن أنّ كلا الأمرين صحيح، فالنظام استدعى فكرة الهويات الجزئية ووضعها في مقابل بعضها البعض منذ البداية، إلا أنّ طول باع الغرب في ذلك يدعوك إلى الشكّ في قدرة النظام على استدراجه إلى ملعب هو ملعبه بالأساس. تجربة الأفغان العرب في الثمانينيات تقول ذلك، وكذا جيش تحرير كوسوفو في التسعينيات. ليبيا أيضاً حاضرة اليوم بتفجير الناتو لبنيتها القبلية (من الجيّد أنّ ذلك بدأ يرتدّ على رأسه في أميركا الآن تماماً كما حصل في أفغانستان من قبل)، ومحاولته لاحقاً نقل التجربة إلينا عبر التدخّل الميداني «المحدود». كلّ ذلك يجعل من المرء متمسّكاً أكثر فأكثر بسردية تحاول أن تكون واقعية قدر الإمكان، وقريبة ممّا يحدث فعلاً على الأرض. رواية المتحمّسين لعسكرة الحراك لا تفسّر كلّ ما يحدث هناك، ورواية المناهضين «للعنف الكولونيالي» لا تفعل ذلك أيضاً. من يريد أن يعرف حقّاً ماذا يجري بين طرفي الصراع، وكيف جرّ هذا البلد جرّاً إلى مستنقع التشظّي وانفجار الهويات الجزئية ما عليه إلا المزاوجة بين الروايتين. ليس كلّ ما يقوله الممانعون الفعليون للهيمنة الامبريالية هذياناً في هذيان، وليست الدعوة إلى التسلّح من جانب البعض ضرباً من ضروب العمالة فحسب. العمالة «موجودة وبكثرة» وكذا «هذيان الممانعين»، لكنّهما أعجز من أن يحيطا سلباً أو إيجاباً بكلّ هذا التعقيد الذي ينطوي عليه الصراع. الأمر إذاً بحاجة إلى مزيد من التمحيص. فنحن في النهاية ازاء حراك شعبي عريض ومتفان لا يمكن اختزاله إلى مجرّد مؤامرة. لكنّه في المقابل اختار العسكرة فوجد نفسه من دون مقدمات في دائرة التوظيف السياسي. ولهذه الدائرة اليوم مشغّل واحد: الامبرياليات الغربية وأذرعها في المنطقة.
* كاتب سوري