شكلت ردود الأفعال اللامنطقية في بلدان «الربيع العربي» رداً على فيديو لا يتجاوز الأربع عشرة دقيقة باسم «براءة المسلمين» صدمةً أكثر من الفيلم نفسه. فمن أجل فيلم غير مترابط المشاهد، ساذج التقنية، مبتذل التمثيل (دُبلج إلى المصرية إمعاناً في زيادة الاحتقان القبطي ــ الإسلامي)، حُرقت الأعلام الأميركية وهوجمت سفارتها في دول عديدة (ونتج عنها مقتل السفير في ليبيا).
والتساؤل يتعاظم مع سرعة انتشار الحرائق في فصل الربيع، من حرّك بهذه السرعة وهذا التنظيم آلافاً من المسلمين الذين لم يروا شيئاً، مثلما لم يقرؤوا سابقاً كتاب سلمان رشدي أو يشاهدوا الرسوم الكاريكاتورية، هل هي العفوية؟ ولماذا يصرّ العرب على تقديم أنفسهم كـ«أفضل» مسوّق لـ«أسوأ» منتج؟ هل أحبطوا رسالة الفيلم أم أثبتوها، من وجهة نظرهم، في ذكرى كارثة حاولت ربط الإسلام بالإرهاب وقادت إلى تدمير أفغانستان والعراق؟
يشكل الفيلم صفعةً قويةً لبائعي الأوهام في الثورة السورية ممن استغلوا المنابر الإعلامية والإمكانات المالية الضخمة المتاحة أمامهم والتي أصرّت على تقديم الثورات في بلدان «الربيع العربي» على أنها ثوراتٌ ناجزة، وأنّ النظام الديموقراطي قد أنجز أخيراً بفضل «الإسلامويين النيوليبراليين»، وصدّرت وهماً شاعرياً يعتبر التخلص من «رأس النظام» بمثابة التخلص من «النظام» نفسه؛ وأنّ الوعي الشعبي ونبض الشارع وإرادته قادرة وحدها على بناء دولة ومؤسسات مدنية وعسكرية. وبدلاً من تصدّر السياسي والمثقف للمشهد الثوري على غرار كل الثورات، كان المثقفون والسياسيون السوريون يختبئون خلف الشارع السوري مفرطين في تبسيط وتسطيح الواقع الاجتماعي والسياسي السوري، كالقراءة الطائفية للثورة، أملاً في كسب الشارع في أنانية وشخصانية تتعامل مع المنتفضين وكأنّهم يموتون لأجل شخصهم الكريم، والجميع لا ينفكّ يردّد، على طريقة البعث، ذات العبارة بأنّ «الشعب السوري قد قال كلمته»، حقاً قال؛ فماذا بعد!
دفع معارضو الخارج، الإخوان المسلمون منهم بالدرجة الأولى، الثورة إلى الزاوية التي يعرف النظام كيف يخنق فيها خصمه، عبر تأسيس مجلسٍ «وطني» دون أي برنامج أو رؤية تتجاوز مسألة التخلص من رأس النظام والحلول محله، وعبر تدويل الصراع وتوظيف المال السياسي في الدفع باتجاه العسكرة مستغلين عنف النظام وجرائمه، والوعود الفارغة بالتدخل العسكري القريب والمنطقة العازلة، والتلاعب الإعلامي والخلط المتعمّد بين الإسلام المعتدل الذي ميّز مسلمي سوريا والإسلام السياسي ــ الجهادي الذي سوّقته السعودية والغرب وحكومة ريغان منذ حربهم ضدّ السوفيات في أفغانستان؛ وهو النموذج الذي يمنح الدول العظمى ذرائع لا تحصى للتدخل حيثما أرادت بحجة حماية «الأمن القومي» و«الحرب الاستباقية» و«الحرب على الإرهاب». ولا يتورع هذا النموذج العابر للحدود عن خطف أي مدني في العالم، حسب الجنسية المغضوب عليها بسبب فيلم أو رسم أو أغنية أو مشروع قانون أو تصريح...، وإعدامه أو مقايضته حسب الضرورة، وهو النموذج الذي بات من النفاق إنكار وجوده في سوريا «ضمن» تيارات الثورة المتعددة دون «تضخيمه» على طريقة من جَانَب الثورة العداء منذ اليوم الأول، فوجد في هذه الظاهرة راحةً لنفسه وضميره مبرراً تأييده سياسة التدمير الذاتي التي يقودها النظام.
ومهما أطلقت هذه الفئات والكتائب المتطرفة على نفسها من تسمياتٍ خادعة، فإنها تُمثل على أرض الواقع ثورة مضادة ضمن الثورة الحالية نظراً لأثرها المدمر على وحدة النسيج الاجتماعي السوري الهشة بفعل شعاراتها من جهة، وبفعل ممارسات بعض الكتائب المسلحة من جهةٍ ثانية وتماهيها مع ممارسات النظام من خطفٍ لمواطنين بذريعةٍ محضرة مسبقاً وهي تهمة «شبيح»، و«استنطاق» اعترافات شبيهة بالاعترافات التي تحاول قناة الدنيا تسويقها على أنّها الثورة، ومن ثم إعدامهم أو «بيعهم» لذويهم!
ورغم الحملة الإقصائية المنظمة التي يقودها الإسلامويون برعاية إعلامية ضخمة ويشارك فيها بحماسة بعض العلمانيين «المرتدين» ضدّ العلمانيين والعلمانية، وضد أي مثقف يتجرأ على «النيل من هيبة الثورة»، وضدّ أي صوتٍ أو قلم لا يخشى من الثورة بقدر ما يحرص عليها ويخشى انتكاسها... إلا أنّ هؤلاء يتجاهلون عمداً أنّ المثقفين السوريين والعلمانيين في «الداخل» قد حسموا أمرهم باكراً في الوقوف مع الثورات العربية في وقتٍ كان اصطيادهم سهلاً على النظام لقلةٍ عددهم مقارنةً مع تعداد أجهزة الأمن السورية وتقنياتها، بل وكانوا الناقل الموضوعي الأول للوعي الثوري الجديد الذي فجره البوعزيزي، إذ تجلى ذلك في عددٍ من الاعتصامات التي دعوا إليها ونظموها أمام السفارات التونسية والمصرية والليبية. كما كانوا المنظمين الأوائل للتظاهرات ومبدعي أدوات الاحتجاج السلمية. حدث ذلك قبل تهميشهم إعلامياً وميدانياً واعتقالهم ومطاردتهم من قبل أجهزة الأمن، ومن ثم تشتتهم بين المؤتمرات المتكاثرة ومحاربتهم بعضهم بعضاً عبر التخوين والتشكيك وإعادة إنتاج أمراض المعارضة السياسية السورية التي مازالت تعيش «مراهقة سياسية».
إن كانت أربع عشرة دقيقة قد هزت بلدان الربيع العربي، فإنّ مصير سوريا يقتضي القول بأنّ الثورة تستحق من مثقفيها وسياسييها العمل بصدق وحرصٍ ونقدٍ بنّاء لتنقيتها وإنجاحها بعد أن علقت عجلاتها في تعقيدات الوضع الدولي والداخلي وسط نزيف الدم المستمر الذي يطغى على «الواقع» السوري، دون أن يجعل منه فيلماً يُحرّك ضمائر الحريصين على «دماء المسلمين» الذين تحركت أموالهم وإعلامهم وأدعيتهم لسكب النار على الزيت وحرف ثورة السوريين عن شعاراتها وعسكرتها لتغدو ميداناً لصراعٍ شيعي ــ سني وتصفية حساب خليجي ــ غربي مع إيران وحزب الله فوق المقابر السورية المتزايدة.
ما لم تقله رسالة الفيلم التافه: عزيزي المثقف والسياسي السوري لا تختبئ خلف «كلمة الشعب السوري» وإنما واجهه عندما ينحرف عن ثورته وخذ بيده إلى حيث تنتصر «له» لا «به»، كي لا نبقى تحت رحمة «ردّات الفعل» فالطريق إلى بناء الديموقراطية طويلة وشاقة وما هذه الثورة سوى أول الغيث في صحراء الاستبداد!
* باحث سوري