لا شك بأنّ الخطاب الأخير لرئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان الذي اراد من خلاله القول بأنّه على قاب قوسين من الانتصار في سوريا والصلاة في مسجد الامويين وزيارة قبر صلاح الدين، هو دلالة على طموحاته العثمانية التي بدأت تتصاعد منذ الحرب على سوريا بوتيرة ملحوظة وتخلق له اشكالات داخلية كثيرة بدأت تتغلغل في النسيج الداخلي التركي. هل يمكننا القول إنّ تركيا اضحت واحدة من ضحايا الربيع العربي؟ وهل غرر بها الغربيون واقنعوها بأنّه يمكنها ان تشكل البديل الاسلامي الديموقراطي للمنطقة العربية؟ وهل وقعت ضحية طموحات أحمد داود اوغلو، كسينجر تركيا، الذي اقتنع بأنّه سيقود المنطقة العربية السنيّة بوجه ايران الشيعية ويعيد مجد سليمان القانوني الذي حارب الفرس؟ لقد دلت كل التحليلات السياسية منذ سنوات سبقت الربيع العربي إلى أنّ الوضع في الدول العربية مهترئ ولن تصمد الانظمة في وجه التغييرات العالمية التكنولوجية المعولمة للمعلومات وناقلة الديموقراطية الى الشعوب. إذ اضحى القمع السائد اكذوبة لا تقتنع بها الا الدول الامنية، واصبح الشباب العربي مهيأ للانقضاض على هذه الانظمة ولن تصمد سوى دول قوية تمارس حداً من الديموقراطية كتركيا واسرائيل وايران.ماذا حصل للسياسة الشرق اوسطية الطموحة لتركيا والتعايش بين الاسلام والديموقراطية؟ ماذا حل بالشراكة مع سوريا التي توسّعت لتشمل منطقة تجارة حرّة تضمّ لبنان والأردن؟ ماذا حلّ بالعقود الهادفة إلى بناء الطرقات والجسور وخطوط الأنابيب والمرافئ والمطارات في ليبيا ودول الخليج؟ لماذا شعرت السعودية بمنافسة تركيا لها على زعامة السنّة، بعد ان اعتقدت بأنّها تستعملها في صراعها ضد سوريا وفي حربها معها؟ ولماذا شعرت مصر بعد زيارة اردوغان لها قبل الانتخابات في العام الماضي بأنّ زعامة الاخوان في العالم العربي هو حقها منذ المنشأ، وليس لأخوان تركيا الحق في زعم امتلاك تأثير على الاسلام السنّي؟ كيف يمكن لتركيا ذات التعددية المذهبية والقومية ان تدخل نار الصراع المذهبي في سوريا، وتستعمل لغة مذهبية في الدلالة على ديانة رئيسها واللعب على الوتر العلوي ــ السني الذي دفع بكل اسلاميي الارض للزحف الى سوريا، على غرار ما جرى ابان الاحتلال الروسي لأفغانستان؟ وهل صوّت الاتراك للعدالة والتنمية فقط لكونه اسلامياً وسنياً، ام لأنّه سجل تقدماً هائلاً وتطورات هامة اقتصادية وتنموية لتركيا عبر سياسة صفر مشاكل مع المحيط العربي؟
لقد توسع الدور التركي قبل الربيع العربي، اذ سعت تركيا الى حلّ بعض النزاعات في المنطقة، فدخلت كوسيط بين سوريا وإسرائيل بعد حرب 2006. كما حاولت إلى جانب البرازيل تقديم اقتراحات لحلّ مشكلة برنامج إيران النووي، لكن لم تلق تجاوباً من الولايات المتحدة الاميركية.
كذلك حاولت فض الخلاف مع ارمينيا واقامة سلام معها. وبدا رئيس الوزراء التركي مستعداً لحوار جدي حول الاكراد في شرق الاناضول وحزب العمال الكردستاني. حتى في افغانستان لعب دوراً في العلاقة مع طالبان، لكن العلاقات ساءت مع اسرائيل اثر قتلها ناشطين اتراكاً بعد مبادرة سفينة مرمرة لرفع الحصار عن غزة، ورفضت تركيا مجرد الاعتذار عن القتل. اما طريق سوريا فأقفلت على الاستثمارات التركية في السعودية والخليج، بسبب موقف أنقرة المعادي للنظام، وتراجعت العلاقات التركية ــ الايرانية بسبب الأزمة السورية. كذاك العلاقات مع العراق، إذ تراجعت الاستثمارات التركية في اعادة الاعمار وبناء الجسور، ونشبت ازمة بينهما بسبب روابط تركيا الوثيقة بالحكومة الإقليمية الكردية المستقلة شمالي العراق. وضربت استثماراتها في ليبيا اثر الحرب التي نشبت هناك في 2011 مع اقتلاع معمر القذافي.
لماذا لم تأخذ تركيا دور الوسيط بين المعارضة والنظام في سوريا، لا سيما مع احتدام المعارك؟ ولماذا لم تقدم على خطوة تسووية مع ايران من اجل وضع حد لسفك الدماء بل تصرفت كطرف داعم ومدرب لعناصر الجيش الحر وتحولت الى مركز الحرب على سوريا؟ ما هي مصلحة تركيا في كل ذلك: هل هو الطموح للسيطرة على سوريا عبر اعطاء الاخوان المسلمين السلطة والمونة عليهم في التشكيل الحكومي سياسياً واقتصادياً ولا سيما انّ سوريا بوابة تركيا على الخليج والممرات البحرية وعلى الاردن وفلسطين كقضية؟ وتشكل سوريا بالنسبة لتركيا طريق اعادة العلاقة مع اسرائيل كشريك في تصدير الغاز منها ومن الخليج الى اوروبا من اجل احتلال موقع تجاري في المنطقة وضرب اقتصاد روسيا المصدرة للغاز والهائها سياسياً بالثورات في جمهورياتها الاسلامية.
لا يبدو التخلي عن كل ما سبق من مكتسبات اقتصادية وسياسية مجرد فشل في السياسة الخارجية، بل يعد تغييراً استراتيجياً املاه التغيير القادم مع الربيع العربي. هل يجب أن تراجع تركيا سياستها تجاه سوريا، بدلاً من الانضمام إلى الحرب التي تشنها واشنطن (وإسرائيل) ضد طهران ودمشق؟ اسئلة ربما تكون متأخرة في ظل اندفاع اردوغان الى لعب دور انغمس فيه وجعل من تركيا ملجأ لكل اسلامي متطرف او معتدل قادم من الغرب او من الخليج للقتال في سوريا.
مشهد سوريالي اذا ما قيس بالنسبة للتاريخ القريب في علاقة البلدين، وفي تأثير الوضع السوري على الامن التركي. إذ شرعت سوريا حدودها لحزب العمال الكردستاني كرد فعل على سياسة الحكومة التركية التي اعادت عقارب الزمن الى ما قبل 1998 واتاحت فرصة ذهبية «للكردستاني» لإعادة تعويم نفسه على الساحة التركية.
اما خطاب اردوغان المذهبي تجاه الآخر السوري، فلقد اصاب النسيج الاجتماعي التركي، إذ إنّ علويي تركيا تعرضوا للشتم والى بعض المضايقات. اما اتهامه لحزب الشعب الجمهوري المعارض بأنّه بعثي فأتى مغايراً لادعاءات الديموقراطية التي لطالما تمسك بها.
ربما بانتهاجه هذه السياسة، انما يحاول أردوغان ان يكسب اصوات الاتراك جميعاً حتى المترددين من اجل التصويت له في الانتخابات الرئاسية، إذ يشكل السنّة الاغلبية العددية في تركيا. وربما يحاول ضخ الحماسة بحزب العدالة والتنمية واعتباره حامياً لمصالح الاتراك. لكن هناك من يرى الامور من منظار مختلف: اولاً هناك تهور ينعكس على القومية التركية عبر الحرب مع الاكراد، وثانياً الخوف على الديموقراطية والعلمانية التي بدأ مؤيدوها يشعرون بالخطر، لا سيما بعد سيطرة الحكومة على الجيش والتضييق على المثقفين والصحافيين المعارضين، وإلصاق التهم ببعضهم الآخر.
لا يبدو السلوك السياسي للحكومة التركية مبرراً الا اذا كان لدى تركيا معلومات عن ضربة عسكرية ضد ايران لا تقودها اسرائيل بل الولايات المتحدة، لأنّ الستاتيكو الذي اوجده الصراع على سوريا بين الدول الاقليمية والدولية غير قابل للتغيير اذا لم يحدث تدخل اجنبي، والا فالخسارة كبيرة على تركيا اذا لم تتدارك وتغيّر اليوم مسارها
السياسي.
* باحثة واستاذة في علم الاجتماع السياسي