كان علينا أن ننتظر قدوم «مندوبة» صندوق النقد الدولي إلى مصر مصحوبة بعدّة النهب التقليدية حتى يخرج اليسار المصري من سباته ويتخفّف قليلاً من أعباء «التحالف» مع اليمين بشقيه العلماني والديني. قبل ذلك، وقبل أن يدلي أيضاً عصام العريان بدلوه المبتذل في الشأن اليساري، بدا أنّ ثمّة صعوبة في محاولة المرء تقديم صورة معينة عن إسهام اليسار هناك في بلورة اتجاهات مستقلة ومنفصلة عن الاصطفافات السياسوية الحاصلة. هو لم يتوان عن إسناد كلّ القوى التي زعمت أنّها بصدد القطيعة مع النظام القديم، لا بل كان «في مقدمة هؤلاء» طيلة الحقبة التي أعقبت إسقاط مبارك وتولّي المجلس العسكري للسلطة. غير أنّه اكتفى بعد ذلك بالتراجع إلى الخلف والتنظير لتحالف هجين لم يكن ممكناً له أن يستمر أكثر ممّا فعل. من الممكن أحياناً أن يتقاطع اليمين واليسار في منعطفات تاريخية كالتي سبقت «الثورة» ولحقتها. طبعاً لا يحتاج المرء إلى من يخبره عن استثنائية هذه اللحظة، وعن انعدام قيمتها أصلاً خارج السياق الذي أنتجها والذي هو سياق التهجين وابتلاع التناقضات الفعلية. وهذا أمر لا يجب أن يوضع على جدول أعمال من ينظّر للقطيعة الثورية أو من يدعو إليها (خارج إطار تحنيط الثورات وتنميطها). نعلم اليوم أنّ معظم الثورات التي نهضت على فكرة القطيعة كانت وليدة تحالف تاريخي بين كتل سياسية وشعبية مؤدلجة وقادرة على أن تكون رافعة للنضال السياسي وموضوعاً له في الآن ذاته. وهذا يتطلب بالدرجة الأولى قدراً من الانسجام الأيديولوجي ومن الوعي باستحالة بلورة صيغة نضالية لا يكون الوعي الطبقي، أو الوعي بالتموضعات الطبقية ركناً من أركانها. وهو ما لم تلتفت إليه معظم القوى التي صنعت الحراك الاحتجاجي في المنطقة بالقدر الكافي. ولو كان الأمر عكس ذلك لما شهدنا هذا القدر من التراجع عن التحالفات التي رافقت المرحلة الانتقالية في كلّ من مصر وتونس. ثمّة عودة فعلية في هذين البلدين عن التموضعات الهشّة والملفّقة التي فرضتها الإرادة الكولونيالية وملحقاتها النفطية (مستعمرتا قطر والسعودية تحديداً)، وأرادت عبرها تذويب الفروقات بين الطبقات الاجتماعية أو بين من يمثّلها داخل القوى السياسية. هنالك اليوم في تونس من يرغب في إعادة الاعتبار إلى فكرة «الخصم الطبقي»، حتى لو بدت تلك الرغبة مصحوبة بقدر من الشطط الأيديولوجي. وهو شطط لا بدّ منه إذا ما أتى في سياق معين هو سياق الفرز بين القوى الملتصقة بمصالح الطبقات الشعبية وتلك التي تدعي التصاقها. ليس صعباً كثيراً أن يختار المرء بين الاثنتين. وإذا ما وقع الاختيار حقّاً فستكون جذريته من عدمها مشروطة بامتداداته الفعلية داخل المجتمع. خذوا مثلاً ما حدث في صفاقس وسيدي بوزيد قبل فترة. من وقف إلى جانب الاحتجاجات هناك ودعم مطالب أصحابها في التشغيل والحقّ في العمل والاضراب والطبابة وإدانة التنكيل بالعمال ونقاباتهم، بدا أنّه يقف في المكان الصحيح، ومن لم يفعل ذلك أو من ساند السلطة «الفاشية» في قمعها للاحتجاجات وضع نفسه تلقائياً في الجهة المعاكسة، أي في صفّ من يقفون في مواجهة الجزء الأكبر من الشعب إن لم يكن «كلّه». وبمثل «سهولة» الفرز ما بين الموقفين كانت سهولة التسمية أيضاً. الأمر هنا لم يحتج إلى تخمين، فالقوى التي ساندت الاحتجاجات تنتمي في معظمها إلى التيار اليساري الراديكالي الذي أطلق الموجة الأولى من الحراك التونسي (حزب العمال الشيوعي، الديموقراطيون الوحدويون، الاتحاد التونسي للشغل... الخ). أما القوى التي وقفت في وجهها فهي تنتمي في معظمها أيضاً إلى الترويكا الحاكمة التي مثّلت طيلة الفترة الماضية الجناح اليميني داخل حركة الاحتجاج التونسية. بات لدينا إذاً معيارية يمكن الاحتكام إليها لدى مقاربة المؤشرات الفعلية للحراك. وهي غير المؤشرات الصّورية التي استغرق العمل بها طيلة العام ونصف العام الماضيين من عمر التجربة. ولأنّ العمل بالقشور وبالأقنعة الملونة للثورات قد انتهى، كان لا بد من الانتقال إلى حيث يقبع الانقسام الجدّي، والى حيث تكون السياسة فعلاً: يمين ــ يسار. في مصر أيضا ثمّة سياسة بدأت بالعودة إلى ميدانها الفعلي. بخلاف تونس، لم تستطع القوى السياسية الراديكالية المصرية الاستفادة من زخم الإضرابات القطاعية والعمالية التي عمّت البلاد من أقصاها إلى أقصاها. وبدا لوهلة أنّ الفرصة لتجذير الانقسام على أسس فعلية قد جرى تفويتها كالعادة، إلى أن أتت قضية المفاوضات بين الحكومة الحالية وصندوق النقد الدولي حول القرض.لكن دعونا نفترض عدم حدوث هذه القصّة من أساسها، من كان ليأخذ حينها القضية الاجتماعية ــ الاقتصادية على محمل الجدّ؟ وهل كان بالإمكان أصلاً تناولها لو اقتصر حاملها الاجتماعي على القطاعات العمالية والنقابية والفلّاحية المتروكة لحالها ولتدبّر شؤونها بنفسها؟ على اليسار المصري أن يطرح هذه الأسئلة على نفسه قبل معاودة التقاط الخيط الذي أتاحته له قضية القرض، وعليه أيضاً أن يفكّر جدياً في «تعفّفه» عن الأخذ بيد العمّال الشجعان الذين أشعلوا مصر بالإضرابات والاحتجاجات. عليه أن يفعل كلّ ذلك حتى يعود ممكناً استئنافه ومن معه من قوى بديلة فكرة القطيعة التي قامت على أساسها «الثورة»، وحتى لا يظهر بمظهر من يخون الطبقات التي يزعم تمثيلها والدفاع عن مصالحها ومكتسباتها. والحال أنّه قد خانها بالفعل. خانها لأنّه أذعن (ولو مؤقتاً) لشروط المرحلة الانتقالية ولاعتباراتها السياسوية التي لا تتعامل مع فعل الاحتجاج إلا بمنطق النافل والفائض عن الحاجة. هكذا ترى القوى التي «أذعن لها اليسار» فعل الاحتجاج والإضراب والتظاهر، أي موضوعاً للاحتقار والتوظيف السياسي فحسب. لكن حتى لو جرى وقتها توظيف الإضرابات في المناكفات بين أجنحة السلطة المختلفة، كان سيبدو مردوده شكلياً جداً. والسبب في ذلك بسيط وواضح: الاحتجاج القاعدي يمتاز بصلابة تصعّب على أي فعل سياسي عملية احتوائه أو ترويضه. الأرجح أنّ السلطة ستبقى أعجز من أن تعي ذلك (بحكم تكوينها الطبقي)، لكن عندما ينتقل العجز ذاك إلى القوى التي تتموضع إلى جانب القطاعات العمالية في مواجهة السلطة الطبقية نصبح أمام مشكلة جدية. وهذه المشكلة لن تحلّ بالبيانات الإنشائية المدبّجة ضد صندوق النقد الدولي (على أهميتها اليوم) وإمّعاته في النظام المصري، ولا بالعودة إلى تجميع فصائل اليسار بعد انفضاض كرنفال التحالف المخزي مع أجنحة اليمين المختلفة. بإمكان القيادات الجديدة داخل اليسار اليوم أن تستعيد المبادرة. والطريق إلى ذلك يمرّ بجملة أمور، منها مثلاً أن يعوا أنّ عودتهم لقيادة المعارضة الفعلية للسلطة الطبقية الحالية ستكون مستحيلة ما لم يبدؤوا التفكير جدياً بمنطق الكتلة التاريخية. وما فعلته الإضرابات القطاعية والعمالية هو أنّها فتحت لهم المجال للتفكير بذلك، تماماً كما يفعل اليوم آخرون في تونس والأردن والمغرب و... الخ. لن أناقش كثيراً في أسباب تفويتهم لهذه الفرصة. ربما كانوا يعوّلون فعلاً على فكرة بناء تحالفات عابرة للتموضعات الطبقية مع اليمين والوسط في مواجهة حكم العسكر، وربما اعتقدوا أنّ «الصيرورة الثورية» ممكنة في مواجهة العسكر فحسب. غير أنّ كلّ ذلك أصبح من الماضي. اليوم ما عاد بالإمكان مواجهة العسكر كما كانوا يفعلون بالأمس لأسباب عديدة أهمها أنّ هؤلاء لم يعودوا في الواجهة. لقد ابتلعتهم السلطة الطبقية الاخوانية وأعادت تقيؤهم من جديد على نحو يجعل منهم أكثر قابلية للسيطرة والاستخدام. لفتني جداً مثلاًَ مشهد التظاهرات التي قادها اليسار في مواجهة الحكم الجديد يوم 30 آب الماضي. لم يسبق أن كان اليسار المصري أكثر مباشرة في تصويبه على ما يعتقد أنّها السلطة الفعلية: التكوين الطبقي «لحكم الإخوان المسلمين». هم لم يقولوا ذلك صراحة في شعاراتهم لكن ما قيل عبرها من ذمّ للإخوان ولرغبتهم في الاستحواذ على كلّ السلطات الممكنة كان كافياً لفهم الطبيعة الذرائعية التي حكمت العلاقة بين «الجماعة» واليسار الراديكالي الذي شارك في صناعة «الثورة». يبدو أنّ «الاشتراكيين الثوريين» (وكذا «التحالف الشعبي الاشتراكي») الذين دعوا إلى التصويت لمرسي في الجولة الثانية من الانتخابات في مواجهة مرشح المجلس العسكري حينها، قد أدركوا متأخرين فداحة ما فعلوه. بدا حينها أنّهم قد صوّتوا لمرشح الضرورة ضد مرشح الفلول، إلا أنّهم انحكموا في الحقيقة للعبة قذرة قادتهم شروطها إلى تغليب «الوجه المدني» للسلطة الطبقية على الوجه العسكري لها. الآن تغيّرت قواعد اللعبة مع تسيّد الذراع «المدنية» ــ الدينية للنظام المشهد برمّته. لقد غدت السلطة اليوم عارية من أيّ قناع. هنا ارتبك اليسار ووجد أنّ شعاراته المناوئة للعكسريتاريا كتكوين طبقي رأسمالي ما عادت ملائمة للمرحلة. بات هؤلاء في مواجهة من ظنّوا أنّه «الوجه المدني للسلطة». في الحقيقة، الإخوان ليسوا كذلك. خطابهم العنيف ضدّ الإضرابات العمالية يقول ذلك، وكذا رغبتهم في الاستحواذ على كامل الثروة التي كانت تحوزها عصبة مبارك. لا أعتقد أنّ اليسار في مصر عاجز إلى هذا الحدّ عن فهم الدينامية الجارية اليوم، لكنه سيبدو كذلك لو استمرّ في تفويت مزيد من الفرص. أمامه اليوم خياران: إما أن يكون على رأس كتلة تاريخية قوامها العمال المصريون الشجعان ووجهتها منع الإخوان (وكذا الرأسمال الكومبرادوري المتحالف معهم) من معاودة التدخّل الدولتي لمصلحة الأغنياء ضد الفقراء، أو أن يحلو له دور الإسناد حقّاً، فيصطفّ هذه المرة مع اليمين القديم الذي بدأ الإخوان بتهميشه فعلاً ضد اليمين الجديد (وهو إخواني بالتعريف). إذا اختار الأول سيكسب نفسه وسيكون على طريق بناء كتلة جماهيرية حاضنة لمشروعه الراديكالي، أما إذا اختار الثاني «فسيكسب أيضاً». سيكسب مزيداً من الانفضاض عنه وعن مشروعه، وسيستحقّ حينها الصيت الذي ألصقه به خصومهم اليمينيون: «مجرّد سنّيد».
* كاتب سوري