عقب خروج الجيش السوري من لبنان، وافول عهد «الادارة السورية» في 2005، خرجت اصوات من قوى «البريستول» والتجمّع السياسي الذي اشتهر باسم 14 اذار، لتطالب حزب الله بفك تحالفه مع دمشق، والدخول في «مشروع الدولة» حسب تعبيرها، والتسليم بشروط اللعبة الجديدة وبموازين القوى الجديدة في البلد.
انقسمت هذه الاصوات بين اطراف تريد «نزع السلاح» فوراً وتسليمه للجيش وتفكيك منظومة المقاومة وانهاء هذا الملف كلياً. وهذا الطرح وإن بدا ساذجاً من حيث الشكل ولا يعرف او يقدّر او يهمه معنى ارتباط هذا السلاح بالصراع العربي ــ الاسرائيلي، عبّر عن نفسه بوضوح ولم يكن معنياً بشكل من الاشكال بأيّة تسويات حول قناعاته في هذا الملف. أما الطرف الثاني، فقد وصل الى مواقفه الحادة، التي تقفز حول طموحات الفريق الاول تدريجياً على نحو قرأ من خلاله انّ موازين القوى بعد خروج سوريا لم تتغيّر على صعيد عمل المقاومة والحاجة اليها وقرار اهلها بالدفاع عن هذا الخيار مهما كلّف الامر. ذلك وإنّ كانت اللعبة على مستوى السلطة قد تغيّرت جذرياً، وباتت قوى 14 اذار ممسكة بكل شيء بعدما فازت في الانتخابات النيابية في 2005، على قاعدة «الفسطاطين» الشهيرة التي اطلقها اسامة بن لادن في معرض تقسيمه العالم بين الخير والشر، واستعملها الرئيس سعد الحريري في توصيف من وقف معه ومن وقف ضده في هذه الانتخابات بين قاتل لرفيق الحريري وبريء من دمه.
بدأ الامر مع التحالف الرباعي، عندها قال هذا الفريق إنّ احداً لا يريد المساس بسلاح المقاومة، وإنّ المشكلة بأسرها تكمن في موقف الحزب من النظام في سوريا، ومن نظرته إلى عملية بناء الدولة واستعادتها بعد ثلاثين سنة من الوصاية. وكانت هذه «اللازمة» بدورها تعلو وتخفت على ايقاع السياسات الخارجية والتجاذبات الاقليمية وبعض التسويات الآنية التي اجبرت هذا الفريق على أن يقع في ازدواجية خطاب تمحورت حسب الظروف بين مقولة إنّ هذا السلاح سيبقى الى أن يجري تحرير فلسطين، وبين انه سلاح «غدر» مصوّب نحو الداخل لإخضاعه وفرض اجندة حزب الله في السياسة الخارجية والدفاعية تحديداً. بقية القصة معروفة ومؤتمر الدوحة الذي اعقب حركة السابع من ايار، نظّم الى حدّ ما هذا الخلاف بتوافق اقليمي وقبول دولي الى حين سقوط الاتفاق «السعودي ــ السوري» أو الـ«سين _ سين» لادارة الصراع في لبنان على نحو لم يكتب له العيش، مع بداية مرحلة جديدة ومعطيات جديدة افتتحتها الثورات والانتفاضات العربية.
في المسألة السورية، وفي موقف «المعارضات السورية» من حزب الله، وتحديداً موقفه من الازمة ورؤيته لها، نجد تقاطعاً كبيراً مع مواقف قوى 14 اذار بشقيها، العدائي الصريح الواضح، والاخر المرن الذي من شأنه ان يتصاعد مع بداية بروز وتظهير موازين القوى في سوريا وتقدير اتجاهاتها الواضحة.
الموقف المتشنّج الذي يباشر اتهام حزب الله في «الدم السوري» وبالتبعية المذهبية لإيران والنظام السوري ليس جديراً بالنقاش، مع انّه يملأ الشاشات الممولة سعودياً وخليجياً على نحو عام. وقام بعضهم بتوعّد الحزب بالزحف نحو لبنان بعد الانتهاء من نظام الاسد للقضاء عليه! ومن الواضح انّ عصب هذا الخطاب يستند إلى الابعاد المذهبية والاشتغال بالغرائز، التي ادخلتها الدول العربية إلى قاموس خلافها مع ايران، من اجل تحشيد الرأي العام العربي خلفها، بعدما خسرته امام طهران في ملف الصراع العربي ــ الاسرائيلي. وعلى اهمية هذا العنصر في اللغة المستخدمة في المنطقة لا نجد في نقاش «مذهبة الصراع» ما هو جدير بالبحث والاحترام، على الاقل هنا والان، وله في الواقع مبحث آخر عنوانه انّ صراعنا على الارض ليس من اجل السماء.
المواقف الاخرى حاولت فتح قنوات حوار جدية مع الحزب، من موقع الاختلاف الثابت، ومن موقع الاحترام لتاريخ وانجازات هذا الحزب على صعيد لبنان والعالم العربي والإسلامي. كانت ابرز تلك الحوارات ــ الرسائل ما وجهه مثقفون لشخص الامين العام للحزب ولعموم موقف الحزب من الازمة السورية، وجل ما حاول هؤلاء تبيانه في موقفهم أنّ «حزب المقاومة» يجب ان ينحاز تلقائياً الى «ثورات الشعوب» ومطالبها، انسجاماً مع كونه حزب حرية وتحرير. وذيّلت هذه المواقف والمقالات بـ«ضمانات» جرى تقديمها للحزب بأنّ الشعب السوري سيكون مع المقاومة ويحميها في ظل اي نظام سوري جديد، وانّ من حمى المقاومة وساعدها هو الشعب السوري لا النظام الذي يتحالف معه الحزب، لكن سرعان ما بدا انّ نزعة العداء للحزب والمقاومة ومن خلفهما ايران تتصاعد وتغلب ما عداها من اراء، وتتخذ اشكالاً عدوانية راوحت بين الانتقاد التحريضي على المقاومة واهلها، وتقديم اوراق اعتماد لأعداء المقاومة والانتساب سلفاً إلى محور «الاعتدال العربي». وبدا أنّ نجاح «الثورة» في سوريا سيؤدي حكماً الى قطع العلاقات مع ايران وحركات المقاومة، على ما عبّر عنه السيد برهان غليون رئيس المجلس الوطني السابق في أحد تصريحاته الشهيرة بعيد انطلاق الاحداث في سوريا.
هذه المقاربة بين تجربة الحزب مع قوى 14 اذار تهدف إلى تبيان جوهر خلاف هؤلاء مع منطق المقاومة وثقافة الرفض والممانعة. وحزب الله، الذي لم يطلب ضمانات من احد في لبنان لا يطلبها بالتأكيد من احد في المعارضة السورية، لكن عندما نرى التطابق بين الدول الراعية للطرفين، ونقرأ في جوهر المطلوب من حزب الله، تظهر حقيقة تلك الحرب التي تخوضها قوى عربية واقليمية ودولية في سوريا، حيث إنّ القرقعة في مكان والهدف الذي بدأ يتجلّى في حرب تموز في مكان آخر، وهو رأس المقاومة.
* صحافي لبناني