دفعني ألبير داغر («الحرب في سوريا كحرب جديدة»، الأخبار، 6 أيلول 2012) إلى هذه التأملات في الدلالات المفهومية والاستراتيجية والجيوسياسية للحرب السورية في سياقها الإقليمي والدولي. وأنا أفضّل، هنا، استخدام مصطلح أراه أكثر دقة في وصف الجديد في «الحرب الجديدة» في سوريا، هو «حرب ما بعد الحداثة». «ما بعد الحداثة» تعبير شامل عن الانحطاط الفكري للرأسمالية العالمية الشائخة التي أصبحت حدود الحداثة الفكرية والقانونية والاجتماعية والثقافية، تقيّدها عن اضطرارها لاستخدام المخلّفات الرجعية من نزعات ما قبل الحداثة، ووسائل الحداثة، في ديماغوجية شاملة فانتازية لرؤية تمزج بين العدمية والكلبية والبراغماتية، هي رؤية ما بعد الحداثة، حيث يمكن نسف المنطق الداخلي والنسق التاريخي للخطاب، وممارسة الهذيان الذي يجمع، مثلاً، بين مبادئ الديموقراطية الليبرالية والمبادئ التكفيرية للجماعات الأصولية والإرهاب في أطروحة واحدة، كما هو الحال في الأطروحة الغامضة للمعارضة المسلحة السورية. استلهم داغر، في عرض أكاديمي موجز وغني، باحثين غربيين تأملوا، خصوصاً، الحرب اليوغوسلافية في التسعينيات، بوصفها حرباً من طراز جديد، يستعيد، في بعض جوانبه، طُرز حروب العصور الوسطى (تعبئة الهويات ــ العصبيات الفرعية، والميليشيات المكوّنة من متعصبين ومرتزقة ومجرمين، واستهداف المدنيين بالقتل والتهجير والفرز السكاني). وذلك، في تخطٍّ ما بعد حداثيّ للحروب الحديثة التي تشنها جيوش منظّمة منضبطة باسم سيادة جماعات وطنية مؤطّرة في دول وطنية أو ميليشيات مؤسسة على النزوع الاستقلالي الوطني أو الأيديولوجيا الشمولية كما في حركات التحرر الوطني.
لكن حروب ما بعد الحداثة، كما يوضّح داغر، تتميّز عن سابقاتها القروسطية، بطابعها الدوليّ من خلال التدخل الكثيف للشبكات فوق الوطنية التي تربط قوى وأفراداً من خارج بلد الحرب وداخله، ولمساعدات المهاجرين المنتمين إلى العصبية المحاربة بـ«الأفكار والأموال والمتطوعين»، والتمويل الخارجي، بما يؤدي إلى «نشوء اقتصادات حرب مرتبطة بالخارج».
ويرى داغر، الحرب السورية، من خلال هذا الإطار النظري، فيجد أنّها حرب دولية تهدف إلى «فرط الجماعة السياسية الوطنية القائمة، وإعادة تشكيلها من جديد، بل قد تكون إعادة التشكيل هذه سبب انفراط الدولة الوطنية نفسها، وتفتُّتها، أو إحلال كيانات جديدة محلها». هذا ما قد يحصل في سوريا من خلال تحشيد هوية فرعية مذهبية تعتمد، كوسيلة للتعبئة، تظهير الهويات الفرعية الأخرى وإقصاءها، بالدعم الدولي الغربي، والتمويل الخليجي، والدينامية التدخلية لشبكات مهاجرين مشجّعين ومنخرطين في التحشيد المذهبي المحلي؛ وهؤلاء، كما نعرف، من المهاجرين السوريين المرتبطين بالاستخبارات الدولية وحركة الإخوان المسلمين، ومن المقيمين، عادة، في الغرب والخليج. وهي ليست مصادفة.
لا تفوت داغر، الإشارة إلى العوامل الداخلية التي فتحت ثُغراً في جدار الدولة الوطنية السورية، وأهمها السياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي طبّقها النظام السوري في العقد الأخير ــ ومعظمها جاءت كتوصيات صندوق النقد الدولي ــ وأدت إلى انفكاك جماهير الريف عن النظام، وتكوّن الاستعداد لديها للتفاعل مع التحشيد المذهبي. وبسبب نهج النظام القمعي اللاعقلاني ومنعه السياسة والنشاط الحزبي التقدمي والنقابي المستقل، وقع فلاحو الأرياف في قبضة المقاولين المحليين للحرب الدولية. وأنا لا أوافق داغر (ولا مرجعه شلهوب) في أنّ اتباع السياسات النيوليبرالية في سوريا، كانت جزءاً من تحضيرات خارجية مسبقة وتآمرية. كلا. في رأيي أنّ أوساطاً واسعة من النخبة الحاكمة السورية كانت قد تعفّنت بالفساد، وكوّنت ثروات ونمت لديها طموحات لكسر قيود القطاع العام والسياسات الاجتماعية، والتحوّل نحو الاندراج في فئات رأسمالية لا يمكنها، في الشروط السورية، إلا أن تكون كمبرادورية. وفي رأيي أنّ هذا الميل هو الذي وقف وراء تشجيع سياسات الانفتاح على الإمارات وقطر وتركيا، واللهاث وراء استرضاء الدول الغربية. أعني أنّنا، هنا، لسنا أمام اختراق تآمري، وإنما أمام تكوّن داخلي لفئات اجتماعية كمبرادورية من قلب الحزب وجهاز الدولة. ولكن هذه الفئات هي التي شكلت وتشكل حاضنة الاختراقات الأمنية والانشقاقات والتردد في الدفاع عن الدولة وغياب حزب البعث عن المعركة، وسوى ذلك مما شاهدناه ونشاهده من تردي الكفاءة السياسية والأمنية السورية في إدارة الأزمة والحرب.
كيف ترافق هذا الاتجاه الكمبرادوري الانحلالي، في عشريات القرن الجاري، مع اتجاه مضاد، بنائي وتحرري، تمثل في نشوء مجمع عسكري صناعي وإعادة هيكلة القوات المسلحة في استراتيجية دفاعية جديدة فعالة وتصعيد الدعم اللامحدود للمقاومات في لبنان وفلسطين والعراق، في ما يمكن تسميته الحرب خارج الأسوار؟
في رأيي أنّ وراء ذلك ثلاثة أسباب رئيسية: أولها أنّ الفئات الكمبرادورية بقيت على هامش الاستراتيجية الدفاعية، ولم تتحوّل إلى موقع القرار في صلبها. وثانيها، أنّ سوريا دولة مستقلة، ويعتمد استقلالها في ظلّ المتغيّرات المتلاحقة على أدوارها التدخلية الإقليمية المتمحورة حول العداء لإسرائيل، وثالثها، أنّ العلاقة الخاصة مع حزب الله، موضع الإعجاب الشديد للرئيس بشار الأسد، خلقت، عنده، الأوهام بإمكانية استنساخ نموذج الحزب الذي يستعد لمواجهة إسرائيل، ويطوّر قدراته في هذا المجال، بمعزل عن الداخل النيوليبرالي الكمبرادوري. ومع تحفظنا على نموذج حزب الله هذا حتى في لبنان، لم يدرك الأسد أنّ الحزب يستند إلى عصبية طائفة في بلد هو في الواقع كونفدرالية طوائف، وليس دولة وطنية مركزية كسوريا التي لا يمكن الفصل فيها بين السياسات الدفاعية والسياسات الاقتصادية الاجتماعية والثقافة المجتمعية والأيديولوجيا، إذ لا بد أن تكون كلها متعاضدة لضمان صلابة دولة المقاومة ونجاحها. وأنا لا أزال عند قناعتي بأنّه ما لم يحدث ذلك التعاضد بين القوات المسلحة والقوى المنتجة، وفي مقدمها قوة العمل الفلاحية والصناعية والحرفية، والنخب التقدمية والثقافة المدنية والأيديولوجيا العروبية العلمانية، فإنّ الدولة الوطنية السورية ستظل مهددة.
غير أنّ ذلك ليس محور اهتمامنا هنا، فنحن وعدنا القارئ بجملة من التأملات حول الجديد في الحرب على سوريا.

■ ■ ■


الحرب على سوريا لا تندرج فقط في باب «الحرب الجديدة» ــ «حرب ما بعد الحداثة»، ولكنها مثالها الجديد الصافي؛ إذ هي لم تشتمل، ولن تشتمل، في رأيي، على أي عنصر من عناصر الحرب التقليدية، لا على النموذج العراقي بالاحتلال، ولا على النموذج اليوغوسلافي أو الليبي بالقصف الجوي والصاروخي إلخ. كذلك فإنّها تختلف، كلياً، عن سوابق التدخل الإمبريالي ضد الأنظمة التقدمية بوساطة العصابات أو الانقلابات، كما حدث مراراً في القرن العشرين.
استبعاد التدخل العسكري المباشر ليس، هنا مجرد خيار بسيط. صحيح أنّه لا يمكننا إغفال توازن القوى الجديد الناشئ جراء عدة عوامل متداخلة، منها الذكرى القريبة لكلفة الحرب العراقية، وامكانية توسّع الحرب السورية إقليمياً لتشمل إسرائيل، وحضور الصعود الروسي، والأزمة المالية التي تغرق فيها الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون، إلى آخره من العوامل التي تجعل التدخل الحربي في سوريا، مغامرة. إلا أنّني أرى أنّ استبعاد ذلك التدخل والاعتماد على جيش من المتشددين والمرتزقة والمجرمين تحت راية دينية مذهبية، يندرج اليوم في استراتيجية بعيدة المدى، لا تزال عناصرها المفهومية والعملانية تتشكّل، ولكنّها تمثّل الخيار المستقبلي للحروب الإمبريالية، بحيث يمكننا القول إنّ النموذج الكامل لحرب ما بعد الحداثة يتبلور اليوم في سوريا. ومن عناصر هذا النموذج، بالإضافة إلى ما ذكر أعلاه، ما يأتي:
أولاً، التجييش الهوياتي الجماهيري المكثف والمتواصل، خارج إقليم الحرب نفسه، ضد الدولة المستهدفة. وهذا ما نلاحظه في هوس التحركات المنظمة للإخوان المسلمين ــ بمن فيهم أعضاء حركة حماس ــ في العالمين العربي والإسلامي، المستهدفة شيطنة النظام السوري بطروحات ديموغوجية والتحريض على الحرب. ويبدو أنّ قيادة هذه التحركات قد تولتها أخيراً الرئاسة المصرية الإخوانية. وهو ما يخدمها بالطبع داخلياً في تفكيك المعارضة الاجتماعية والديموقراطية الناشئة في مواجهة «حكم المرشد».
ثانياً، التجييش الإعلامي غير المسبوق المستهدف بناء صورة مفبركة بالكامل عن واقع الحرب في سوريا. ولن أسترسل في هذه النقطة التي تم إشباعها من قبل باحثين وكتاب عديدين.
ثالثاً، الحرب الأيديولوجية المكثفة المَجْدوْلة من فكرويات مذهبية وليبراليات انتخابية، وتستهدف تحطيم أيديولوجية الدولة الوطنية السورية العروبية والعلمانية، وربطها بالاستبداد، وتسخيف أفكار التحرر الوطني والتنمية والمقاومة، والتهوين من مركزية الصراع مع إسرائيل (في النقطة الأخيرة، نلاحظ أنّ الرئيس المصري محمد مرسي يواظب على التحريض الغاضب على سوريا بدلاً من إسرائيل، بينما رئيس الوزراء التركي يريد الصلاة في الجامع الأموي المحرر من نظام بشار الأسد، وليس في المسجد الأقصى المحرر من الاحتلال الإسرائيلي).
في هذه المجالات الثلاثة، تبدو الدولة السورية، عاجزة عن الفعل المضاد خارج حدودها. فباستثناء التيارات القومية واليسارية، الضعيفة أصلاً، التي لم تبذل دمشق في السابق، كما الآن، جهوداً جدية للتواصل معها أو دعمها، لا توجد كتل جماهيرية مضادة للحرب على سوريا، سوى الشيعة والمسيحيين، وهو ما يزيد من قدرة الإخوان على التحشيد المذهبي، مع الأخذ بالاعتبار الحالة الفريدة للجماعة الوطنية الشرق أردنية التي تخشى من أخونة مشروع الوطن البديل، وتمانع بالتالي خيار التدخل في سوريا.
لكن الشلل السوري يبدو شاملاً في المجالين الإعلامي والأيديولوجي. وهما مجالان متعاضدان. إذ إنّ تردد النظام السوري في تظهير حاسم للأيديولوجية العروبية الاجتماعية العلمانية المضادة للأيديولوجية الإسلاموية ــ الليبرالية، يربك الخطاب السوري المقيّد هنا سواء بارتباكه الداخلي أو بتحالفه مع إيران التي تعتبر موجة الأخونة والسلفية «صحوة إسلامية»، وتواصل مساعيها للتقرب من الإخوان المسلمين الذين يشكّلون الرافعة الأيديولوجية للحرب على سوريا. وقد انعكس الشلل الأيديولوجي السوري في الخطاب السياسي والإعلامي لدمشق التي تعتمد الآن، بعد حجب فضائياتها، على منابر حليفة ميّالة للخطاب الإيراني.
نستطيع، إذاً، أن نستخلص الجديد في الحرب على سوريا كنموذج غير مسبوق، في الآتي: (1) التحشيد الهوياتي الإقصائي داخلياً، (2) وعلى المستوى الإقليمي بالقدر نفسه، (3) الدعم الخارجي الإقليمي والدولي، سياسياً واستخباراتياً ولوجستياً ومالياً وتسليحياً، لمقاولي حرب محليين، وجيش من المرتزقة والإرهابيين، (4) وذلك، بالترابط مع شبكة دولية من المهاجرين الذين تنتظمهم أجهزة استخبارية وحركة عقائدية سياسية دولية هي الإخوان المسلمين، (5) الحرب الإعلامية، (6) والحرب الأيديولوجية.
وفي رأينا أنّ هذا النموذج يشكّل خياراً أميركياً للحروب المقبلة ضد دول أخرى متمردة في الشرق الأوسط وروسيا والصين.


■ ■ ■


الأرضية الأساسية التي ينطلق منها هذا الخيار تكمن في التحوّل الاستراتيجي الذي أعلنه الرئيس الأميركي باراك أوباما في إسطنبول والقاهرة، نحو التخلي عن العداء للإسلام السياسي، لمصلحة التفاهم معه. وهو ما ظهّرته، بوضوح، تطورات ما يسمّى الربيع العربي.
قادت الواقعية السياسية المناقضة لحقبة المحافظين الجدد في ولايتي جورج دبليو بوش، إلى فكرة شديدة البراغماتية وشديدة الفعالية معاً، وهي المصالحة مع الإسلام السياسي السنّي الأغلبي في العالم العربي، وتوظيفه في مجالين، هما: إعادة إنتاج أنظمة الهيمنة الأميركية في العالم العربي، واستخدام قدراته الفكرية والتحريضية والدعائية والقتالية في ضرب القوى المناوئة لتلك الهيمنة.
بذرة هذه الفكرة نبتت في العراق المحتل الذي أدمت مقاومته الجيش الأميركي وإدارة بوش معاً، ونجحت في تحويل قسم من قوى المقاومة العراقية إلى حلفاء موضوعيين للاحتلال من خلال التحشيد المذهبي ضد الشيعة. ومن المفارقة أنّ أولى قوى الإسلام السياسي التي اندرجت في هذا الخط، تمثلت في تنظيم «القاعدة» الذي تتوافر لدينا اليوم معلومات عن قيام المحتلين الأميركيين، منذ 2006، بغض النظر عن دخول عناصره إلى العراق، وتقديم التسهيلات غير المباشرة لتحركات أعضائه ونشاطاتهم. إذ تمكنوا من تحويل معظم العمليات القتالية الجارية في البلد من استهداف المحتلين إلى استهداف الشيعة، وتحطيم الطابع الوطني للمقاومة، بينما كانت تجري عملية موازية لاستجلاب العناصر العشائرية السنيّة المندرجة في حركة المقاومة إلى تكوين حركة سياسية مناهضة للمقاومة وللحكومة الشيعية معاً. وبطبيعة الحال، ما كانت هذه التكتيكات لتنجح لولا التحشيد المذهبي المقابل لتنظيمات الإسلام السياسي الشيعي المدعومة من إيران. وبالمحصلة، تحوّلت الهزيمة العسكرية الأميركية في بلاد الرافدين، إلى هزيمة للمجتمع والدولة في عراق لم يستطع حتى الآن انجاز وحدته ونهوضه، كما يحدث، عادة، عند انتصار المقاومات.
لكن الفكرة انتقلت، مع إدارة أوباما، من تكتيك محلي يستهدف تغطية الانسحاب من الورطة العراقية بأقل خسائر، إلى استراتيجية. وهنا، تطلّب الأمر التفاهم مع الحركة الرئيسية في الإسلام السياسي السني، أي حركة الإخوان المسلمين التي تتميز بأنّها حركة دولية ومتجذرة في مجتمعاتها وبنى دولها، وتتبع قيادة مركزية واحدة. وقد تأسس ذلك التفاهم وفق النموذج الذي قدّمه إخوان تركيا في حزب العدالة والتنمية، الذين مارسوا الحكم في ظل الأطلسية، وليس بالتعارض معها، وبالتوافق مع النموذج النيوليبرالي، وخفض الصراع مع إسرائيل من صراع ضد الاحتلال إلى معارضة للممارسات الاحتلالية.
أربع نقاط أساسية للتفاهم الأميركي الإخواني تبلورت نظرياً، وتجسدت، في ما بعد، سياسياً. هي:
أولاً، التوافق على نهج اقتصاد السوق النيوليبرالي.
ثانياً، التوافق على عدم تخطي التعاطف المعترف به على المستوى الأوروبي والتركي مع الفلسطينيين، إلى المساس بالستاتيكو القائم مع إسرائيل، سياسياً ودفاعياً.
ثالثاً، التوافق على تحييد الخليج من أي تغييرات سياسية دراماتيكية، من شأنها المساس بالأنظمة الخليجية وعلاقاتها النفطية والعسكرية والأمنية والاقتصادية بالغرب.
رابعاً، الديموقراطية الانتخابية، بما يسمح بتجديد نخب الحكم وخفض مستويات الفساد وتحسين الأداء الاقتصادي وإدارة الفقر والبطالة بوسائل أخلاقية لا تمسّ المنظومة النيوليبرالية.
من الملاحظ أن حركة الإخوان المسلمين، سواء أتلك التي تولت السلطات، كما في مصر وتونس والمغرب، أم تلك التي تتحضر لذلك، لم تخرج عن، ولا تطرح، من حيث المبدأ، تجاوز تلك التفاهمات. غير أنّها لم تستطع، ولن تستطيع في رأيي الوفاء بوعد هامشي قدمته للغرب، ويتعلق بالحريات، الفكرية والسياسية والمدنية. ولا يمثل ذلك الوعد الذي طالما طُرح في مناقشات سرية وعلنية بين الإخوان والأميركيين، على كل حال، جزءاً من التفاهمات الرئيسية بينهما. فالطرف الأميركي يتفهم أنّ من غير الممكن الاستمرار في السياسات النيوليبرالية المعادية للفئات المتوسطة والشعبية، من دون قدر من القمع السياسي، كما أنّ المنافسة بين الإخوان وقوى الإسلام السياسي الأكثر تشدداً كالسلفيين والتكفيريين، يُلزم الإخوان التخلي التدريجي عن اعتدالهم للفوز في معركة التشدد. وأخيراً، إنّ الدعم السعودي القَطري الحاسم لمنظمات الإخوان وأنظمتهم، والشبكات الإخوانية في الخليج، يدفعان بالوجدان الإخواني نحو الوهابية. وهنا، يمكننا أن نسرد قائمة سوداء من التعديات الجسيمة على الحريات الأساسية، التعديات التي مارسها السلفيون، برضى الإخوان المسلمين، في تونس ومصر. ومن المنتظر أن نشهد المزيد منها في الفترة المقبلة. لكن في سوريا حيث الحرب دائرة، من المستحيل الفصل بين الإرهابيين التكفيريين والإخوان المسلمين في الممارسات الإجرامية التي يرتكبها «الثوار» بحق المسيحيين والعلويين والإسماعيليين والدروز، والمخالفين في الرأي.
تؤدي الحركة الإخوانية، إذاً، الدور المركزي في تجديد العالم العربي وإخضاعه للهيمنة الرأسمالية الغربية، وتؤلف حكوماتها مع السعودية وقَطر خصوصاً، اللبنات الأساسية للنظام العربي الجديد. وستقع على عاتق هذا النظام الإخواني الخليجي، منذ الآن، الأعباء الأساسية للمهمات اللازمة لضمان الهيمنة الرأسمالية الاستعمارية الإسرائيلية، في ثلاثة محاور، هي:
أولاً، ضمان الإبقاء على حركة الجماهير العربية في إطار يستبعد الثورة الاجتماعية.
ثانياً، ضمان محاصرة المشروع القومي الإيراني، وتوفير المناخ العام الضاغط باتجاه ضربه.
ثالثاً، تجنيد المحاربين من التيارات السلفية الجهادية والتكفيرية وعناصر القاعدة الخ، ضد الدول والقوى المتمردة على الخضوع للهيمنة الأميركية الإسرائيلية، كسوريا وحزب الله، وكذلك، إدامة منع العراق من التوحّد والنهوض، واستمرار حاجته للتفاهم مع الولايات المتحدة.
كل هذه المهمات الكبرى يمكن القيام بها، بصورة كفوءة، بوساطة قوى محلية منظمة، هي قوى الإسلام السياسي التي تحظى بقاعدة شعبية راسخة يلحمها إطار ديني مذهبي يؤلّف بين الفئات الرأسمالية الكمبرادورية والفئات المهنية والفئات المفقَرة والمهمّشة، في قوة سياسية انتخابية وازنة، ترتبط بشبكة متشعبة مع الحركات السلفية والسلفية الجهادية والتكفيرية، وتجمعهما معاً العصبية المذهبية المتخطية للحدود الوطنية.
وتترابط قوى الإسلام السياسي، بفروعها الدعوية والسياسية والجهادية، ترابطاً عضوياً، جماعياً وفردياً، بالسعودية وقَطر (اللتين تمثلان قوة الخليج النفطي المرتبط عضوياً بالإمبريالية الأميركية)، وتتمتعان بالقدرة على توفير الدعم السياسي والمالي والتسليحي والإعلامي لقوى الإسلام السياسي، وتوفير اللُّحمة الأيديولوجية لها جميعاً من خلال تمظهرات الوهابية.
وتتعاضد هذه القوى تعاضداً عضوياً اليوم مع دولة إقليمية كبرى، يحكمها الإسلام السياسي أيضاً، هي تركيا، العضو المخلص والفعّال في حلف شماليّ الأطلسي، الذي تحفّزه نزعات الهيمنة العثمانية على المشرق العربي.
وبالمحصلة، فقد اكتشفت الرأسمالية العالمية في عصر أزمتها الكبرى، وخصوصاً طليعتها الإمبريالية الأميركية ــ تحديداً ــ في عصر انحطاطها الاقتصادي والسياسي والثقافي والأخلاقي، في الإسلام السياسي السنّي، قوّة حليفة جبارة مموّلة ذاتياً، ومشحونة بمحفزاتها الأيديولوجية الذاتية، وتتربع على قوة انتخابية شعبية واسعة، وتملك جيوشاً لا تنضب من المقاتلين الانتحاريين الخارجين من خزّان الفقر والتهميش، والمستعدين لخوض القتال، منتقلين من ساحة إلى أخرى، من دون معوّقات وطنية أو لوجستية الخ.
هناك العديد من المصادفات السوسيو ــ ثقافية التاريخية التي وضعت الأقسام الرئيسية من الأقليات الدينية والمذهبية في المشرق العربي، في الجبهة المعادية للهيمنة الأميركية ــ وهي مصادفات تحتاج إلى درس خاص في مقال خاص لاحق ــ لكنّها مصادفات سعيدة، بالنسبة إلى الإمبريالية، تلك التي جعلت من الأغلبية السنيّة في موقع يمكّن أنظمة الإسلام السياسي السنّي وقواه من النجاح في التحشيد المذهبي لقوى جماهيرية متسعة وراءه، وامتلاك القدرة، بالتالي، على التموضع في وظيفة استراتيجية هي التحوّل الذاتي إلى جيش الإمبريالية الأميركية الرئيسي وقوته الضاربة المتحركة في المرحلة المقبلة.
هذه الإمكانية التاريخية لاستدعاء بربرية القرون الوسطى في معارك الإمبريالية الأميركية من الآن وصاعداً، تشكل الفكرة المركزية لحروب ما بعد الحداثة، وتكشفها كاتجاه قروسطي يتسق تماماً مع الإفلاس المادي والروحي والفكري للإمبريالية في شيخوختها. وهذه الإمكانية تُختبَر اليوم في سوريا على نطاق تجريبي واسع، قبل اعتمادها. وفي رأيي أنّ هذا هو السر في أنّ الأميركيين يبدون مترددين بشأن الحسم أو التسوية في سوريا؛ يتقدمون خطوة جريئة بالإشراف على النقل الآمن المنظّم لمقاتلي القاعدة من اليمن إلى سوريا، ويتراجعون خطوة في تسليح هؤلاء بأسلحة نوعية مثل صواريخ ستنغر، ثم يقدمون لهم المعلومات الاستخبارية لضرب مرافق عسكرية سورية حساسة، بينما يتركونهم للموت في ظروف أخرى. وهذا التردد مجرد مثال من أمثلة معروفة للجميع. إنّهم يختبرون الفكرة الاستراتيجية الناضجة فعلاً. ولذلك، تراهم يصمتون على همجية المقاتلين السوريين والعرب والأجانب من مختلف الفصائل الإسلامية التي تذبح على الهوية وتنهب وتنكّل بالقرى المسيحية والعلوية والأحياء المدنية السنيّة سواء بسواء، وتتذابح في ما بينها أيضاً. وهذا الصمت اللاأخلاقي هو صمت الاختبار الذي تنبغي أن تكون نتائجه واضحة في مطلع إدارة أوباما الثانية.
حرب سوريا، إذاً، ليست نهاية المطاف. والمقارنة بينها وبين حرب يوغوسلافيا مثلاً، تصحّ جزئياً فقط. سوريا اليوم مختبر لنمط الحروب المقبلة، المطلوب خوضها لإخضاع الشرق الأوسط نهائياً للهيمنة الإمبريالية، ومنع تكوّن نظام دولي يقوم على التعددية القطبية.
في لبنان، صدر بالفعل البيان السلفي الجهادي رقم 1 ضد الشيعة. وهو أتى في ذروة تنامي قوة السلفية اللبنانية وتماهيها مع الليبرالية السنيّة المتمثلة في تيار المستقبل، وتموضعها في عمليات إمداد الجهاديين في سوريا بالسلاح والرجال والخدمات اللوجستية والاستخبارية بتمويل وتشجيع من السعودية.
ولا يخفي بيان السلفيين في إلقائه الحجة الشرعية على الشيعة، استهدافاته السياسية؛ فهو يخيّرهم بين الولاء لحزب الله أو الموت ذبحاً. وإذا كان حزب الله لا يزال يسعى إلى استيعاب الفتنة المذهبية في لبنان من خلال الصمت وابتلاع الاستفزازات، بل وبالانتهازية السياسية ــ التي تتبع الانتهازية السياسية الإيرانية ــ في مساعي إدامة الصلات مع الإخوان المسلمين، وخصوصاً حماس، فإنّ التطورات، في حينه، ستتجاوز سياسات الحزب وقدراته.
تتمثل قوة حزب الله في منظومة دفاعية استخبارية وصاروخية موجهة ضد إسرائيل. هنا، يظهر تفوّقه الأساسي. لكن ماذا عن السيارات المفخخة التي يمكن أن تستهدف المدنيين والمؤسسات المدنية؟ وماذا عن عمليات الاختطاف والقنص واشتباكات الشوارع؟ بصراحة، تملك الجماعات السلفية، في هذه المجالات، التفوّق والقدرة على المبادرة. يكفي لذلك إحداث تغيّر نوعي في موازين القوى في سوريا لمصلحة الجهاديين، عندها سيسقط الستاتيكو السياسي القائم الذي يحول دون الفتنة التي ستأخذ شكل حرب ما بعد الحداثة على النموذج السوري: تحشيد مذهبي وجيش من السلفيين والمرتزقة وتمويل خارجي كثيف وتجييش مذهبي إقليمي ودعم وتغطية دوليان وتحريض مذهبي شامل على مستوى الأمة، وحرب إعلامية وتواصل، في كل ذلك، مع شبكات مهاجرين في الغرب والخليج. كيف يمكن حزب الله أن ينأى ــ بقدراته العسكرية المخصصة للمقاومة ــ عن كل ذلك؟ بخوض المعركة؟ بالانفصال الجغرافي ــ الديموغرافي؟ بالتوصل إلى تسوية على أساس تنازلات جدية في مسألة السلاح؟
في فلسطين السنيّة ــ سواء داخلها أو في مخيمات الفلسطينيين في البلدان المضيفة ــ تحوّل التجييش ضد النظام السوري (انطلاقاً من تقاليد عداء أسستها فتح واستكملتها حماس أخيراً ــ إلى تجييش مذهبي معاد للشيعة وتكفيري ووهابي معاد للعلمانيين. وفي تقرير استقصائي عن حجوم القوى السياسية في أكبر مخيم للاجئين والنازحين الفلسطينيين في الأردن، وهو مخيم البقعة، وُجِد أنّ قوة اليسار والقوميين تقترب من الصفر، بينما تسيطر القوى الإسلامية على المخيم. وهي بالترتيب: السلفية الجهادية، ثم الوهابية، وأخيراً حماس.
في مناخ كهذا، ليس مهماً أن يكون هناك شيعة بين الفلسطينيين. تسيطر حماس في غزة، وتعمل على تحويلها إلى دويلة مستقلة، وفي الضفة الغربية، يمكن إشعال الشرارة من خلال الربط بين فساد السلطة الفلسطينية وعلمانيتها والصعوبات المعيشية والتحقيق في مقتل الرئيس الراحل ياسر عرفات، لإطلاق الفوضى تحت الاحتلال. في هذه الحالة، يمكن الإسرائيليين الانسحاب من مناطق الكثافة السكانية ما وراء جدار الفصل العنصري، وترْكها لإدارة حمساوية تضبطها تحت شعارات ديموغوجية تربط بين شرعية «المقاومة» والضرورات الواقعية والهدنة الطويلة.
لكنّ الفوضى الكبرى والحرب تينك اللتين ستقعان في الأردن الذي يمثّل الاستيلاء الحمساوي عليه ضرورة سياسية للبورجوازية الفلسطينية الخليجية الدولية، كما، لاحقاً، ضرورة حيوية للأجزاء المدارة حمساوياً من الضفة.
في الأردن، يمكن ممارسة طرائق حرب ما بعد الحداثة، وفق النموذج السوري بالكامل. صحيح أنّه لا يوجد شيعة، ولكن توجد عشائر يمكن اعتبارها وهابياً «جاهلية». هنا، يمكن استرجاع الأحكام الوهابية الصادرة بتكفير العشائر الأردنية في عشرينيات القرن العشرين، والتي كانت مظلة «شرعية» للغزوات الوهابية لشرقي الأردن. لكن التحشيد الأساسي سيكون إثنياً ضد «الأقلية» الشرق أردنية التي يُزعَم أنّها تستأثر بالسلطة على حساب «الأغلبية» الفلسطينية. هنا سيكون لشبكات المهاجرين الواسعة الانتشار، دور أساسي في تنظيم خارجي لانتفاضة ستحظى بدعم خليجي ودولي، سياسياً (بحجج الديموقراطية الليبرالية) ومالياً وإعلامياً وتسليحياً، وفوضى الحرب الأهلية، سيخلقها ويخوضها جيش من الجهاديين والمرتزقة في مواجهة الجيش الأردني الذي سرعان ما سيفقد قدراته لارتباطه بالتسليح الأميركي الذي سيتوقف بحجج إنسانية. والهدف واضح: تدمير الدولة الأردنية بما يسمح بتصفية القضية الفلسطينية شرقيّ النهر.
في مواجهة سيناريو كهذا تبرز، عادة، حجة سخيفة، وهي أنّ إسرائيل لن تسمح بالفوضى أو بسلطة فلسطينية في بلد على حدودها. لكن الفوضى ستكون داخلية بينما إسرائيل محيّدة. وفي الوقت نفسه، فإن تجربة ضبط أمن الحدود كما خبرتها إسرائيل مع الحكومة الحمساوية في قطاع غزة، تمنح الإسرائيليين، الاطمئنان بشأن المستقبل. اطمئناناً يعززه جدار عازل على طول الحدود الأردنية مع فلسطين المحتلة، يقع في صلب الخطط الإسرائيلية. ثم إن وجود فرصة جدية لتصفية القضية الفلسطينية، تستأهل قدراً من المغامرة التي يمكن تل أبيب المجازفة بها.
في العراق، توجد أسس عميقة لخوض الحرب على النموذج السوري. وهي تُخاض منذ الآن عبر سلسلة لا تتوقف من العمليات الإرهابية ضد الشيعة. ويمكن، في كل لحظة، تصعيد هذه الحرب إلى مواجهة شاملة تتأسس على مظلومية سنيّة هذه المرة، بما يؤدي إلى تفكيك العراق وإنهاكه ومنعه من استعادة القدرة على بناء دولته الوطنية من جديد. لكن حتى الآن، تستخدم الولايات المتحدة الإرهابيين في العراق، بما يضطر حكومته إلى اللجوء مجدداً إلى التعاون العسكري والأمني مع واشنطن، وخفض النفوذ الإيراني لمصلحة الخليج.
ويمكن تطبيق طرائق الحرب السورية على مستوى منخفض، ولكنّه مؤذٍ جداً، في إيران وروسيا وحتى الصين، من خلال سياق لتحالف الإسلام السياسي السنّي والليبراليين، وإن كانت أساليب القتال ستركز، في هذه البلدان، على العمليات الانتحارية بالدرجة الأولى، لكن في سياق سياسي شبيه بالسياق الذي افتتحته الحرب على سوريا.
التحالف العضوي مع الخليج والإسلام السياسي السنّي ليس عملية مؤقتة هذه المرة بالنسبة إلى الإمبريالية الأميركية في عصر انحطاطها الشامل، وإنما سياق كامل لحروب ما بعد الحداثة. وإذا كانت الولايات المتحدة، قد استخدمت جيوش الإرهابيين والمرتزقة في عدة حروب في القرن العشرين ضد بلدان التحرر الوطني، فإنّه لم تتح لها، في تاريخها، جملة من الظروف السياسية والسوسيو ــ ثقافية والجيوسياسية التي تمكنها من استخدام جيوش لا تنضب من المتعصبين الإرهابيين الجوّالين، المحرّضين ذاتياً والمموّلين من بلدان بالغة الثراء، والمنسجمين، كلياً، مع أهداف الإمبريالية في منطقة شاسعة من العالم، اتّفق أنّها هي نفسها المنطقة التي أصبحت اليوم الميدان الرئيسي للاستراتيجية الحربية الأميركية.