لا شيء سوى القتل في الأفق السوري: القتل من اجل استنزاف سوريا وثنيها عن بعض سياساتها في الصراع الدائر في المنطقة وعليها. والقتل من اجل إخماد جذوة التغيير الذي يرى النظام انّه حصل مرة واحدة والى الابد (على الطريقة السوفياتية)، وان الحفاظ عليه يتطلب كل انواع التفرد والسطوة والتشدد والقسوة والتخوين. والقتل من اجل تغذية اتجاهات متطرفة ظلامية تستقوي بالخالق على المخلوق، في صيغة أين منها وثنيات ما قبل الرسالات وجاهليات ما قبل الحضارة (وما بعدها!). ويقترن الفعل ورد الفعل في المحنة السورية بكل انواع التشنج والالغاء والتصفوية. لا يكاد طرفا الازمة يستسيغان لفظة الحوار الا على سبيل المناورة، او انها قد افرغت من كل مضمون، او ارهقت بكل أنواع الشروط التي يغدو معها مشروع الحوار، لا مشروع تسوية وتنازلات متبادلة، بل سبباً اضافياً لمراكمة الحقد وتكديس السلاح، ومعهما أسوأ انواع الموت والتشريد والدمار والمذلة والارتهان...
وإنه لمن سخريات القدر، في هذا السياق، ان لا يتفق طرفا الصراع ومَنْ هم امامهما او خلفهما، إلا على نبذ سمة النزاع الاهلي عن الازمة السورية. يبدأ خطأ العلاج، كما في كل الامور، من سوء التشخيص. لن نقع، كما في النزاعات العديدة والمديدة، على حالة مشابهة من التباعد والتطرف رغم فداحة «الأثمان» التي يسترخصها النظام ومعارضوه تشبثاً بالرأي والموقع والارض والأدوار والارتباطات. رفض الطابع الاهلي او الداخلي للنزاع هو، بالنسبة الى النظام، تأكيد لإلقاء تبعة الأزمة على الخارج وتدخلاته. يصبح المعترضون «إرهابيين» و«مرتزقة» و«عملاء للقوى الاجنبية»، وتصبح إبادتهم مهمة وطنية وقومية تتقدم كل اعتبار وتمهد لكل «حوار». أما بالنسبة الى معظم المعارضة، فالصورة معكوسة تماماً: اختصار الصراع، بكل تعقيداته وتفاعلات الخارج فيه، باستبداد النظام ورغبته في التفرد والالغاء... مع إسقاط كل حيثية له في الداخل او في الخارج.
لا تتساوى المسؤوليات بالطبع في الوصول الى النتيجة الكارثية التي تعانيها سوريا والسوريون. ولقد بات من قبيل التكرار غير الضروري التأكيد أنّه بالنسبة إلى السلطة السورية مثلاً كان من مستلزمات مواجهة التدخل الخارجي، تحصين الوضع الداخلي. ولقد حصل العكس تماماً. فقد أسقطت السلطة كل مشروعية عن التذمر والشكوى والاحتجاج. تعاملت مع ذلك باعتباره امراً موحى به من الخارج. الكلام عن الحوار كان مجرد مناورة او رغبة في كسب الوقت، لإضعاف الخصم تمهيداً لتصفيته سياسياً وجسدياً...
احتدام الصراع مع طالع كل شمس، وتعاظم الخسائر والاثمان من كل نوع، وانعدام احتمال تحقيق انتصار سريع لأحد طرفي الازمة (ما لم يحدث تصدع مفاجئ في القوة العسكرية للنظام)، تُملي جميعها على الطرفين اعتماد مقاربة صحيحة للأمور، غير تلك التي تحكم مواقفهما حتى الان. والمقاربة الجديدة المتوخاة إنما تبدأ من التخلي عن اوهام الانتصار الذي حدد له الطرفان (وخصوصاً انصارهما في لبنان اكثر من سواه) اياماً او اسابيع! وهذه المقاربة يجب ان تنطلق من واقعة وواقعية الانقسام الذي يضرب المجتمع السوري، والذي اتخذ أبعاداً خطيرة مع التدخل الخارجي، وهو تدخل يستفيد منه الطرفان شكلاً، وتخسر فيه سوريا وشعبها بعد كل حساب، والى امد ومدى لا أحد يعرف حدودهما.
إنّ الجنوح الى الحوار يصبح بالتالي تعبيراً عن صحة المقاربة، وعن مسعى إلى السيطرة على الازمة وعلى العنف المجنون التي يرافقها، والذي سيحوّل سوريا، اذا ما تمادت الازمة، الى بلد منكوب ومشلول بكل ما في الكلمة من معنى. وقبل ذلك وبعده، فإنّ اعتماد الحوار، هو اليوم، موقف وطني يمليه اي توجه جاد وحقيقي للسيطرة على الازمة، ولوضع حد لنتائجها المدمرة على كلا الطرفين على نحو عام، وعلى سوريا بالدرجة الاولى.
لا يمكن ان يختلف الحكم على مواقف القوى المحرضة والداعمة، من الخارج، وهي قوى حليفة لهذا الطرف او ذاك من طرفي الصراع، الا بالطريقة نفسها. ولقد بات واضحاً، حتى لمن أصيب بالعمى، أن إدامة الصراع تبدأ من رفض الحوار او من التحريض على رفضه. ولا يمكن تصنيف ذلك في خانة الصداقة والحرص، بل في خانة خدمة مصالح ومشاريع ومخططات قوى خارجية، لم تُعرف يوماً بالدفاع عن قيم الحرية والديموقراطية وحقوق الإنسان وحقوق الشعوب...
ليس صديقاً للنظام ومعارضيه ذلك الذي يشجع على «الحسم» و«السحق» و«الإسقاط» والتصفية والإلغاء. إنه في احسن الحالات صاحب مشاريع اقليمية او دولية، الجزء الاكبر منها معروف ومعلن وممارس، وما خفي قد يكون أخطر واعظم.
الى ذلك، لا بد من دور لبعض قوى التغيير السورية، ممن تحالفت مع النظام سابقاً او التحقت به أخيراً، غير ذلك الدور السلبي الذي تمارسه إزاء الازمة وتفاقمها الخطير، الراهن والمتوقع. وتكاد تصدم تلك الخفة التي يتحدث بها البعض عن رغبة النظام في الحوار، «دون شروط»، فيما هو يعلن، وعلى اعلى مستوى، رفضه للحوار قبل تصفية «المجموعات الارهابية المسلحة»، التي لا يرى اصلاً صيغاً للمعارضة خارجها!؟ إن النظام السوري يحتاج الى اكثر من النصيحة من أجل إقناعه بضرورة السعي إلى السيطرة على الازمة، عبر الحوار ووعود التسوية الصعبة التي يمكن ان تنجم عنه، أي إنّ النظام يحتاج الى ممارسة ضغط حقيقي من اصدقائه قبل اعدائه وفق خطط وخطوات ملموسة، لا أن يجري على نحو مثير للشفقة تصويره راغباً في حوار لا يلبث هو نفسه أن ينفيه، مستهلكاً الادوار والاشخاص بطريقة لا يحسد ولا يُحسدون عليها.
نعم مسوؤلية كل اصدقاء سوريا، عرباً وعجماً واجانب، استحثاث السوريين سلطة ومعارضة، على التخلي عن اوهام الحسم والانتصار. إنها مسوؤليتهما بالدرجة الاولى، لوقف تلك الاندفاعة المجنونة نحو ذلك الدمار العظيم والخسائر التي لن تدفع ثمنها سوريا وحدها، وإن كانت هي التي ستدفع أفدحها على الإطلاق.
* كاتب وسياسي لبناني