استهجن البعض حين سمع شعارات نسوية تتردّد في تظاهرات «الحراك المدني» الناشطة في لبنان منذ أكثر من شهرين. إذ أثار الأمر أسئلة عن «علاقة النسوية بالنفايات والكهرباء»، والأخيران هما من مطالب الحراك الرئيسية.
أسئلة ليست خارجة على المألوف، ولكنها مستغربة في هذه الأيام التي تشهد فيها التظاهرات حالات تحرّش واعتداء على المتظاهرات، لم يكن آخرها ما شهدته تظاهرة الأحد 20 أيلول، إذ سُجّلت أربع حالات تحرّش واعتداء على الأقل، وثّقتها منظمة «صوت النسوة» وحركة «22 آب». ومن هذه الحالات قول أحد أعضاء الشرطة لزميله، خلال مرور إحدى المتظاهرات أمامهما، ما معناه أنه يريد اغتصابها. في حين امتنعت القوى الأمنية عن مساعدة متظاهرة، تعرّضت لاعتداء من قبل ثلاثة رجال من أعمار مختلفة.
كما شهدت تظاهرة 8 تشرين الأول، اعتقال القوى الأمنية لعدد من الناشطات ومعاملتهن «بطريقة أسوأ مما تعامل الحيوانات»، بحسب رواية الناشطة فاطمة حطيط لـ«الأخبار».
حطيط، التي قالت إن القوى الأمنية ضربتها بهمجية قبل اعتقالها، أشارت إلى سجن 11 شابة في زنزانة صغيرة «مترين بمتر»، وكانت إحدى الموقوفات فيها تتحرّش جنسياً بالمعتقلات. وأشارت إلى تعرّض مجموعة من السجينات الإثيوبيات لهذا التحرش، «الذي وصل إلى حد الاغتصاب». كما ذكرت قول أحد عناصر قوى الأمن لمعتقلة: «إنتو لو مش بنات شارع ما بتكونو مكبوبين هون».
تدلّ هذه الحالات، وغيرها، إلى مدى تكريس النظام الأبوي القائم في هيئته الطائفية العنصرية للذكورية، عبر إنتاجه لجهاز أمن يرى المرأة دخيلة على الحياة العامة، وبالتالي تستحق بشكل أو بآخر، ما تتعرّض له من مضايقات واعتداءات. وهذا يتجلى في مقاومة الدولة المساحات الفريدة من نوعها التي خلقها الحراك المدني للتعبير الجماعي والفردي والتي شاركت النساء في صنعها، من خلال فرضها حالات معيّنة على بنية ساحات التظاهر عبر أجهزتها الأمنية المفرطة بالذكورية وسردياتها الطائفية والعنصرية. وتهدف الدولة، بمقاومتها هذه المساحات، إلى تنميط التحرّك وتفريغه من محتواه المغاير لسردية السلطة والتي تضعه في موقع المواجه لها.
إن وجود المرأة في الساحات العامة ليس أمراً عابراً، لا معنى نسوياً له. إذ ترى الباحثة في جامعة «مدرسة الدراسات الشرقية والأفريقية» في لندن، صبيحة علوش، أن «حضور المرأة في غير المواقع والأدوار التي خصّصتها له إيديولوجية السلطة»، المتمظهرة تارةً بالمبادئ والأخلاقيات الدينية وتارةً بصراعات سياسية، وغالباً، في ظلّ النظام الطائفي الجامع للدين والسياسة، بالاثنتين معاً هو نوع من «التمرّد الجنسي». وترى أن هذا التمرد «لا يُشترط أن يكون عبر ممارسات جنسية، بل يكون عبر اختيار الفرد أسلوب أو نظام حياة يتعارض مع المفاهيم الملتصقة به/ا والمفروضة عليه/ ا».
وتعطي علوش أمثلةً على ذلك، منها تخلي عائلة عن ابنتها لأنها اختارت البقاء في الغربة للعمل بعد إنهائها لدراستها الجامعية، بدلاً من العودة إلى لبنان للزواج، وشابة أخرى حصل معها الأمر ذاته، لأنها كانت أول بنت في عائلتها الكبرى تتابع دراساتها العليا.

أصبح جسد المرأة
وهويتها موقعاً لممارسة «الثقافة المهيمنة»


قد لا يصحّ تعميم هذين المثلين على المجتمع اللبناني، لكن ممارسات كثيرة تحصل في لبنان تؤكد استمرار ممارسات السلطة لـ«الثقافة المهيمنة» هذه. وقد تكون قصة الشابة ليال الكياجي واحدة منها.
ففي 22 أيلول الفائت تداول عدد من وسائل الإعلام، خبراً عن إحالة الكياجي إلى القضاء المختص، لكشفها للموقع الإلكتروني «ناو»، وتحت اسم مستعار، هو قمر، أنها تعرّضت للاغتصاب من قبل المحققين، وذلك خلال توقيفها في وقت سابق بمركز حجز تابع لمخابرات الجيش. كما أحيلت معها شابة أخرى، قيل إن اسمها إ. ي.، بسبب ادعائها أيضاً بأنها تعرضت للاغتصاب في إحدى المستشفيات المدنية. وبحسب القضاء، اعترفت الشابتان بالكذب لأسباب تفاوتت بين «كسب عطف المحيطين ولتأمين وظيفة».
وكانت الكياجي، التي ناصرت الشيخ أحمد الأسير في عام 2013 حتى أنها ارتدت الحجاب لبعض الوقت، قد نشرت بعض المواقف المؤيدة له على مواقع التواصل الاجتماعي. واعتقلت، بحسب ما قالت لموقع «ناو»، بعدما اختلفت مع ابن أحد المسؤولين الأمنيين لأنه «اعتاد» أن يدخل محلها ويهينها أمام الزبائن بسبب ولائها للأسير. تقول ليال للموقع نفسه، إنه خلال أيام اعتقالها الخمسة اغتصبت مرتين من قبل المحققين، ومن ثم اتهمها غاصبوها بأنها «عاهرة»، مهدّدين بأنهم سيحققون في «نشاطها بالدعارة». وهو «اتهام» يصبّ في سياقات السلطة الأخلاقية الجاهزة وثنائياتها المطلقة.
قالت الكياجي إن المحامي نصحها حينها، ألّا تتحدث عن الأمر «لأنه لن يصدقها أحد»، فتكلمت بعد سنتين لتحال على القضاء وتعترف بحسب بيان رسمي لمديرية المخابرات «بأنها اختلقت تلك الرواية لكسب العطف، وتأمين فرصة عمل». أما الشابة الأخرى، فلم نسمع عنها شيئاً غير ما ذكره الخبر الأساسي الذي تداولته وسائل الإعلام في 22 أيلول.
لا يفوت قارئ المقابلة أن طرح موقع «ناو» للقصة لا يخلو من الاستغلال والتوظيف السياسي الرديء للحادثة. إذ ذكرت الكياجي في المقابلة، أنها تلقت رسالة تهديد من قبل «شخص معروف بانتمائه سياسياً إلى حزب الله» قبل أن تعتقل، ولم توضح علاقة الرسالة بالاعتقال، كما لم تذكر مضمون الرسالة. لسنا بصدد تأكيد هذا الادعاء أو نفيه، ولا البحث في نية الكياجي أو مصداقيتها، ولكن موقف الموقع السياسي القريب من «14 آذار»، يؤكد فرضية التوظيف السياسي، الذي يغيّب السؤال الرئيسي، ولعلّه الوحيد، الذي يجب طرحه هنا، وهو: هل تعرضت ليال الكياجي للاغتصاب أم لا؟
نعم، ليس هناك أي إثبات على أن الكياجي تعرضت فعلاً للاغتصاب، وذلك لأنه لم يتم التحقيق في الأمر أصلاً، ولكن لا بد من التذكير أن معظم أجهزة الدولة العسكرية والأمنية ليست ذات تاريخ نظيف حينما يتعلق الأمر بتعذيب المساجين واستغلالهم جنسياً.
هكذا يصبح جسد المرأة وهويتها موقعاً لممارسة «الثقافة المهيمنة»، التي تجعل من حالة اغتصاب محتملة قضية يكفي لإقفالها تصريح رديء يحمل «اعترافاً» من «الضحية» بالكذب، ويجعل من التحرّش أداة شرعية لتهديد الناشطات لإخراجهن من ساحات النضال. ولكن هذه التكتيكات أثبتت وستظلّ تثبت فشلها في ترهيبهن ومنعهن من التظاهر والمطالبة بحقوقهن وحقوق الشعب، خصوصاً في ظلّ التحرّك الشعبي الذي زعزع، ولو قليلاً، المنظومة الأبوية الطائفية العنصرية التي تحكمنا، وخلق مساحاتٍ للعمل السياسي خارجة، إلى حدٍ ما، عن أطر تلك المنظومة.
* من أسرة «الأخبار»