إلى الناشطة كفاح ديب: حرة أينما كنت

فتحت خلافة الأخضر الإبراهيمي كموفد دولي إلى سوريا بديلاً من أنان موضوعاً مقلقاً يجري التحدث به بخفوت وهدوء ولكن بثبات متقن (لدى مطلقيه) يعطي مؤشراً إلى احتمال أن يدفع بعضهم سوريا إلى اتفاق طائف ما، يستوحي النموذجين العراقي واللبناني دون أن يشبههما، لكون الإبراهيمي كان عراب اتفاق الطائف اللبناني، الذي يرفض السوريون أيّ صيغة مماثلة له، جملة وتفصيلاً.
ولكن بعيداً عن الركون إلى الصدفة التي تجعل الرجل مجرد مهندس للطائف اللبناني ومحاكمته على هذا الأساس، فإنّ التصريحات الأولى التي صدرت عن الإبراهيمي يصعب قراءتها بغير هذا الاتجاه نسبة إلى تاريخ الرجل، إذ قال: «هناك من يقولون إنّه يجب تجنّب الحرب الأهلية في سوريا، لكنّني أعتقد أننا نشهد الحرب الأهلية منذ وقت غير قصير. المطلوب هو وقف الحرب الأهلية، وهذا الأمر لن يكون بسيطاً». حين لا يرى الإبراهيمي في سوريا التي ينتفض شعبها منذ سنة ونصف بوجه الاستبداد سوى حرب أهلية يتقاتل فيها الإخوة على السلطة، فذاك مؤشر مقلق لرجل يحمل نظرة استشراقية مضاعفة، تجعل الحل اتفاقاً بين طوائف (أو إخوة حسب لغته!) بدل أن يكون صراع حرية/ استبداد، وذلك لأنّ الحل بين الطوائف يحصر مباشرة باتفاق طائف!
مؤشر آخر قد يعطي مقاربة لما يُفكّر فيه بشأن سوريا، إذ قال وزير الخارجية الروسي لافروف بعد تعيين الإبراهيمي مباشرة: «الأقلية التي تجمعت خلف ظهر الأسد على أمل أن يدافع عن حقوقها هي أيضاً جزء من الشعب السوري... ولهذا السبب، فإنّ الجانب الروسي ليس من باب العبث أشار عدة مرات إلى أنه قبل أن يتم التوافق على معايير الدولة السورية المستقبلية، من الضروري التوصل الى اتفاق حول ضمانات وثيقة للحفاظ على حقوق الأقليات العرقية والدينية... وبعد ذلك فقط يمكن مناقشة الأمور المتبقية... إنها مسألة مبدئية... روسيا منذ بداية الأزمة حذرت من عدم جواز التعامل بسطحية مع المشكلة العميقة للتناقضات داخل الإسلام، التي نضجت في سورية أيضاً... وخطر كبير أن هذا الأمر يطفو... فضلاً عن تأزّم المسألة الكردية في الأسابيع الأخيرة».
هنا يبدو واضحاً جداً ماهية الحل الذي يبحث عنه الروس. فعبارة لافروف «اتفاق حول ضمانات وثيقة للحفاظ على حقوق الأقليات العرقية والدينية»، تتماهى تماماً مع التصريحات الغربية اليومية والمتكررة منذ بداية الأزمة السورية التي تطالب المعارضة السورية بضمان حقوق الأقليات، الأمر الذي يعطي مؤشراً إلى أنّ الطرفين المتصارعين دولياً (واشنطن وموسكو) وإقليمياً (السعودية وتركيا وإيران) قد يدفعان الأطراف السورية باتجاه صيغة طائف ما تضمن مصالحهم من جهة (والخلاف الآن يتوقف على حجم المصالح التي سيقطفها كل طرف)، وتضمن عدم نهوض دولة ديموقراطية حقيقية في سوريا تؤثر على تلك المصالح مستقبلاً.
من هنا يمكن استنتاج أن إطالة أمد الأزمة السورية، والصراع العسكري الذي دخلت فيه الأطراف السورية، والذي جُرّ إليه السوريون بعنف النظام المطلق أولاً، وبانسياق جهات من المعارضة وراء أجندة غربية كان تسليح الانتفاضة جزءاً من أجندتها، هما أمران مقصودان تماماً، ويهدفان فعلياً إلى إنهاك القوى الداخلية السورية والمجتمع المدني الذي يرفض أيّ صيغة طائفية. وذلك مع دفع الحالة الاجتماعية السورية نحو التقوقع في طوائفها، وهو ما بات يحصل فعلياً في الداخل السوري. بالعودة إلى كلام لافروف السابق، سنجد أنّ كلمات مثل «نضجت» و«يطفو» تدل على أن ثمة من عمل ويعمل على إنضاج الأمر السوري لهذه اللحظة، ويعمل على ترسيخها في اتفاق طائف يعلم الجميع أنّ الشعب السوري يرفضه. ولأنّهم يعرفون ذلك، فإنّ عسكرة الصراع بإشراف طرفي الأزمة دولياً (واشنطن/ موسكو) دون منح أي من الطرفين القدرة على الحسم بغية إنهاك كل الأطراف الرافضة، وإخراجها من ساحة الفعل السوري تدريجاً، تكون جزءاً مما يحصل. ولم تكن مبادرة كوفي أنان إلا تغطية لما يحصل على الأرض، وتمهيداً ربما لما سيطرحه الإبراهيمي لاحقاً.
في توصيف الحالة السورية لدى هؤلاء الداعين إلى اتفاق طائف سوري، يرون أن سوريا حكمت بعلوية سياسية تشبه المارونية السياسية في لبنان، وأنّ السلطة السورية تفرض صيغتها المدمرة لأي حل، والمشابهة لتلك التي طرحتها السلطة المارونية، أي «ما لنا لنا، ومالكم لنا ولكم»، مع الفارق أنّ النظام السوري ما زال قوياً في حين أن النظام اللبناني كان ضعيفاً جداً وحيادياً وغير تدخلي في شؤون مواطنيه كما النظام السوري. المقاربة من أساسها تبدو خاطئة، لأن سوريا لم تحكم يوماً بعلوية سياسية، بل حكمت دوماً بصيغة معقدة ومتعددة الوجوه، كان أفضل من وصفها الكاتب رايموند هينبوش، حين قال: «النظام عبارة عن «تزاوج أو تعايش حزب _ جيش»، وليس مجرد حكم عسكري (rabinovich1972). كذلك فإنّ الطائفة العلوية، التي تمثل أقلية، كانت تسيطر عليه، لكنه عابر للطوائف (van dam 1981). تقع ديكتاتورية الأسد الشخصية في قلب هذا النظام، ولكن قوته تستند إلى مؤسسات معقدة (perthes1995)، وقد تم وصفه كنظام لبورجوازية الدولة (perthes1995)، ولكنه يخرج عن ذلك بضمه لقاعدة قروية لا يستهان بها (van dam 1981). لذا، فإن أياً من التفسيرات النمطية للنظام (الجيش، الطائفة، الطبقة)، لا يمكنه بمفرده أن يقبض بشكل كاف على الطبيعة المعقدة والمتعددة الوجوه لهذا النظام» (هينبوش، رايموند: سورية، ثورة من فوق، ترجمة د. حازم نهار، مراجعة د. رضوان زيادة، دار الريس، طبعة أولى: تشرين الأول (نوفبمبر) 2011، ص 38).
إذن لا يمكن القول بأي حال من الأحوال إنّ النظام السوري هو نوع من علوية سياسية، رغم أن هذا النظام يحمل شيئاً من سمات ذلك، ولكنه لا يختصر إلى ذلك. ربما مرد هذا الخلط إلى أنّ النظام في أوقات الأزمة يتقلص فعلاً إلى حدود العلوية السياسية المدعومة من أقليات أخرى، كما هو حاصل الآن وكما حصل في أزمة الثمانينيات، دون أن يعني ذلك أنه كذلك. وهنا يغدو النموذج السوري بعيداً عن النموذج اللبناني، ولكن لا يعني ذلك ابتعاد اتفاق الطائف وفق من يسعى لذلك، لأن سوريا من حيث شكل النظام وقوته أقرب إلى نموذج عراقي، من حيث شمولية السلطة واعتمادها على مكوّن طائفي وحزبي بعثي (متشابه في البلدين)، إضافة إلى المكونات الطائفية والعرقية التي تتشابه جزئياً في كلا البلدين. المقارنة بين الطائف اللبناني والطائف العراقي تكشف أن النسخة اللبنانية فرضت من تحت. فتاريخ البلد يحوي أكثر من حرب طائفية، وجاء الاتفاق كنتيجة لإنهاء حرب أهلية مدمرة دامت سنين طويلة، في حين أنّ النسخة العراقية فرضت من فوق، أي بفعل قوى استعمارية أرادت ذلك لإبقاء البلد ضعيفاً وهشاً وقابلاً للتحكم فيه، من خلال إغراقه داخلياً بمشاكل طائفية تمنع بناء نسيج اجتماعي وطني تبنى عليه الدولة التي تعمل على مركزة الاجتماع الوطني باتجاه وطنية جامعة، لصالح دولة هشة مرتهنة طوائفها للخارج لن تقوم لها قائمة إن دخلت في إطار اتفاق طائف، لأن جزء من مهمات أي اتفاق طائف هو صنع الطائفية السياسية وتحوّلها إلى كرة ثلج تتراكم في الداخل لتنفجر كل فترة على توقيت مصالح القوى الخارجية، أي إن أي حكم طائفي سينتج طائفية سياسية تعمل على تدمير النسيج الاجتماعي الوطني وتقف عائقاً أمام تطوره، وارتهاناً سياسياً دائماً للخارج، وهو ما يعني بقاء الدولة هشة وعاجزة. وهذا ما يراد لسوريا، أي أن تكون عاجزة عن استعادة دورها الإقليمي الذي بناه الديكتاتور الأب، وهو الذي تعمل القوى الدولية والإقليمية على تفكيكه تحت ستار دعمها لحرية الشعب السوري في دولة ديموقراطية لا يريدها أي منهم.
هنا يكفي النظر إلى حال لبنان والعراق حتى ندرك أيّ دول هشة ينتجها اتفاق سياسي كهذا. فهل من الصدفة أن الحكومتين تؤيّدان نظام الاستبداد السوري؟ وهل من الصدفة أن الحكومتين ضعيفتان ومرتهن قرارهما لقوى خارجية؟ وهل من الصدفة أن تأييد الحكومتين لنظام دمشق نابع من بنية طائفية أساساً؟ وهل من الصدفة أن النظام السوري يتجرّأ على انتهاك سيادة البلدين دون أن تتخذ أي من الدولتين أي إجراء ما؟ هل ثمة عجز أكثر من ذلك؟ وهل هناك ما يغري في نماذج مماثلة للاقتداء بها؟ قطعاً لا، إلا إذا كانت ارتهاناً لقوى خارجية، وهو ما يُعمل عليه من خلال احتواء التيارات السياسية المعارضة والنظام من قبل تلك القوى الدولية لفرض اتفاق طائف من فوق، إذ نرى أن المجلس الوطني السوري يدور في الفلك الغربي/ التركي/ السعودي/ القطري، وجزءاً من معارضة الداخل بات عملياً يدور في الفلك الروسي/ الإيراني، مع بقاء قوى وطنية خارج هذين الإطارين، ولكنها عاجزة وضعيفة فعلياً وقليلة التمثيل السياسي، رغم أنها ذات الشعبية الأكبر، لجهة مطامح السوريين وما يريدونه من وطن حر. هنا قد تعمل القوى الدولية على إنهاك الداخل وإنهاك قوى المعارضة التابعة لها (مدنياً وعسكرياً) ليصار إلى قبولهم اتفاق الطائف هذا، لأننا على الأرض السورية بتنا نشهد جيشاً نظامياً يعتمد في قواه الضاربة على بعد طائفي ما ومدعوم روسيّاً، و«جيشاً حراً» ذا قوام طائفي واحد مدعوم من الغرب بقيادة واشنطن. إنّ اتفاق واشنطن وموسكو على صيغة كهذه، يكفي لحدوث أمر كهذا، خاصة حين يجري تهديد الطرفين (المعارضة والنظام) بوقف السلاح لهما، وهو ما بتنا نشهد بعضه، إذ نشرت تقارير مكثفة عن ضغط القوى الغربية والعربية على الجيش الحر لتغيير سلوكه وتصرفاته تحت طائلة حرمانه من السلاح، وهو ما يعني إجباره على الاندراج ضمن أيّ صيغة تريدها تلك الدول، لأن عدم مدّه بالسلاح يعني ببساطة مقتله، والأمر نفسه ينطبق على الجيش النظامي.
القوى المعارضة الوطنية تقع عليها مسؤولية العمل على رفض هذا الخيار بأي شكل من الأشكال، لأن القبول به يعني الانتحار الوطني والوقوف بوجه كل الشعب السوري وتدمير كل منجزات انتفاضته، وذلك عبر اجتراح حلول سياسية تكون قادرة على الخروج من عنق الزجاجة وانسداد الأفق، لصالح السياسة التي ينبغي أن تكون موجودة دائماً لكي لا يصار إلى وضع الانتفاضة بين خيارات أحلاها مر، وليس الذهاب إلى اتفاق طائف مدمر سيبقى وصمة عار وخزي على جبين أيّ معارضة تقبل به، إلا أحد تلك الخيارات.
* شاعر وكاتب سوري