مع استمرار وتصاعد سفك الدماء السورية بوحشية قل نظيرها، من قبل النظام الشمولي الحاكم خصوصاً، بات الخوض في الشأن السوري لا يخلو من شبهة التورط في الجانب المعتم من المشهد، حتى وإنْ كان الأمر متعلقاً بالتعبير المشروع عن وجهة نظر معينة، مِن قبل مَن يعتبرون أنفسهم مِن «أولياء الدم»، وخصوصاً من قبلنا نحن العرب غير السوريين! ومع ذلك، ولأن الصمت قد يكون أكثر سلبية وعرضة للإدانة، فقد بات الكلام، والنقدي منه، ضرورة لا مناص منها. إنَّ الدافع للتعبير عن هذا النوع من الحذر والتحوطات هو شيوع ما يمكن وصفه بالآراء ذات النزوع الشمولي التي عبر عنها كتّاب يحسبون أنفسهم إلى جانب الثورة السورية وهذا أمر مشروع، ولكنَّ غير المشروع هو أنهم يحاولون احتكار هذه الصفة ويطلقون أحكاماً معيارية على مخالفيهم حتى في داخل إطار التأييد للثورة السورية ومناصرتها. لقد بلغ الأمر بعض مدياته حين أصبح التشكيك «في الأهلية الأخلاقية» للمخالفين والمختلفين نهجاً وممارسة ذائعين. لكأنَّ اللغة العربية أمحلت من صيغ انتقادية هادئة أخرى غير التشكيك في أخلاق الناس المخالفين والمختلفين، صيغ انتقادية كثيرة من قبيل التعبير عن الدهشة والرفض ووصف المخالفين بأنهم مخطئون، متسرعون، مضلَّلون، أو عاجزون عن فهم ما يحدث... إلخ!   في هذا السياق، كتب ياسين الحاج صالح في»الحياة» قبل أيام ما يأتي، ضمن مناقشته لأخلاقيات الثورة، وتعرضه بعبارات تشكيكية من قبيل « قيل بأنّها...»، لبعض الممارسات الوحشية المنسوبة إلى عناصر المعارضة السورية المسلحة من قتل وتمثيل بالجثث وإلقاء بالأسرى من البنايات الشاهقة، فيقول «الذي لا يدين النظام ويطالب بإسقاطه فوراً فاقد للأهلية الأخلاقية لنقد الثورة أو التحفظ على أشد أفعالها سوءاً». يضعنا الكاتب هنا أمام معادلة خاطئة ولا تخلو من الابتزاز حين يطالب من يريد تسجيل نقده ورفضه لهذه الممارسات الوحشية بأنْ يكون مطالِباً بإسقاط نظام الأسد فوراً، ليحق له، من ثم، توجيه النقد لما قيل إنّها أعمال قتل منسوبة للمعارضة المسلحة. هذه المعادلة تنطوي على جملة مصادرات، فهي تلغي حق النقد غير المشروط لأيّ ممارسات همجية وغير إنسانية أياً كان مصدرها دفاعاً عن الحياة والإنسان. وهي ثانياً، تعلق هذا النقد الصحي والمشروع بشرط الموافقة على دقائق منهج سياسي معين يعتمده فصيل واحد من فصائل المعارضة السورية، وهي هنا المؤيدة والداعية للتدخل العسكري الأجنبي من بين عدّة فصائل بعضها يقاتل النظام بالسلاح أو النشاطات السلمية دون أنْ يدعو الى التدخل العسكري الأجنبي.
وإذا ما ركزنا على  نمط التفكير الذي أنتج هذه المعادلة الكئيبة التي تضر بالثورة السورية أكثر من أي طرف آخر، فسنجد أنه نمط شمولي واستبدادي لا يختلف كثيراً في العمق عن نمط تفكير ديكتاتورية البعث السوري التي تشكك أيضا في وطنية وأخلاقية أي مواطن يرفضها لأنه _ في منطقها _ يرفض «الوطن» وكافة مشمولاته بعد أن صادرته وكافة مشمولاته منذ عقود. إن هذا النمط من التفكير، إذا ما استمر بالدوران والحركة، فسينتج عاجلاً أو آجلاً المآلات والمصائر الشمولية السلطوية ذاتها، ويرتفع درجة جديدة في بؤسه الفكري والسياسي وصولاً إلى التشكيك في الأهلية الأخلاقية لكل من لم ينضم إلى المجلس الوطني السوري أو غيره من فصائل المعارضة السورية، ثم سيرتقي درجة أخرى فيصبح تشكيكاً في كل من لا يؤمن مئة في المئة بالمنهج السياسي لهذا المجلس والقيادة التي اختطته وبأمينه العام، وبهذا نكون قد أخرجنا الشعب السوري من شمولية البعث إلى شمولية المجلس الوطني أو أي طرف آخر قد يعتمد هذا النمط من التفكير.
ربما كانت هذه المقدمة ضرورية لمناقشة مفصل آخر من مفاصل الجرح السوري غزير الدماء؛ فقبل عيد الفطر بعدة أيام، أطلقت إحدى الجهات السورية المعارضة، هي هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديموقراطي، مبادرة سياسية  تهدف «لوقف العنف وتحقيق تغيير ديموقراطي جذري في البلاد» كما ورد في متنها. تتأسّس هذه المبادرة على قاعدة فشل النظام الحاكم في إخضاع الحركة الثورية الشعبية «بالقوة رغم كل ما مارسه من استخدام للقوة العارية المفرطة وما خلّفته من حواضن للعنف، ندعو الى التوافق على هدنة مؤقتة بين جميع الأطراف التي تمارس العمل المسلّح وفي مقدمتها قوى النظام، تبدأ قبل عيد الفطر، وتتمثّل بعدم إجراء أي عمل عسكري...»، وطالب «جميع الأطراف بإطلاق سراح جميع المعتقلين خلال أسبوع من بدء سريان الهدنة، والسماح لهيئات الإغاثة بإيصال المعونات الغذائية والطبية وتسهيل معالجة الجرحى في المستشفيات العامة والخاصة». ودعت «الأمم المتحدة ممثلة ببعثتها أو بمن ترتئيه، أن تشرف على تنفيذ هذه الخطة بعد إجراء تعديلات على حجم المراقبين وصلاحياتهم»، رغم أن الجهة المصدرة لهذه المبادرة سجلت أن النظام السوري لم يلتزم بمبادرات سابقة كمبادرة الجامعة العربية ومبادرة كوفي عنان ومبادرة «جنيف»، ورغم أنّها دافعت عن لجوء الشعب السوري إلى السلاح دفاعاً عن النفس لكونه «اضطر إلى حمل السلاح وتشكيل ظاهرة الجيش الحر، وهذا أوجد نوعاً من توازن الردع ما خلق العنف والعنف المضاد الذي يشكل خطراً على الشعب، وهذا التوازن جعلنا نقدم هذه المبادرة»، مشيراً إلى أن هذه «المبادرة موجة إلى جميع القوى ومن بينها الجيش الحر لأنه أصبح قوة موجودة كما أنها موجهة إلى الدولة لوقف العنف باعتبارها القوة صاحبة السلطة الأكبر». ولكن هذه المبادرة المهمة جوبهت بالإهمال القريب من محاولة الاغتيال بسلاح الصمت من قبل الإعلام السوري والعربي والعالمي. ومن الطبيعي أنْ يكون لكل طرف أسبابه لرفضها وإهمالها، ولكن الواقع هو أنَّ هذه المبادرة أجهضت ولم تحقق أي هدف لها، ربما باستثناء أنها أسست لنوع جديد وشجاع من التفكير في الحلول السياسية الهادفة أولاً وقبل أي شيء آخر لوقف سفك الدماء. هذا ما يمكن أن يثمر عاجلاً أو آجلاً مبادرة أو مبادرات أخرى من هذا النوع لتحقيق هذا الهدف على اعتبار مفاده أنَّ استمرار المذبحة أمر إجرامي وغير ممكن الاستمرار. فليتوقف القتال أولاً من خلال هدنة أو أيّ صيغة أخرى، ثم يتم الاندراج في مجموعة من التفاصيل العملية التي يتم الاتفاق عليها بين أطراف الصراع دون شطب أو إقصاء ومع كامل الحق في مناقشة وتقرير رحيل الديكتاتور وتغيير النظام جذرياً.
إن الغرب وحلفاءه لا يسمحون لهذا النوع من المبادرات بالتوسع والنجاح، والنظام الشمولي في دمشق لا يقل عناداً عن الطرف الآخر في اعتماد الحل الأمني الذي تحول إلى حرب رهيبة ووحشية تسحق كل شيء. وبعد أنْ أهمِلَت مبادرة هيئة التنسيق في أيامها الأولى، عادت إحدى الجهات المعارضة في الخارج، وهي المجلس الوطني»، لتسجل موقفاً لا يخرج عمّا سمّيناه نمط التفكير الشمولي بل هو من صميمه. فالمجلس الوطني اعتبر مبادرة هيئة التنسيق خروجاً عن الإجماع الوطني، ومساواة بين الضحية والجلاد. وسجل إدانته لخلو المبادرة من «إدانة واضحة للنظام رغم جرائمه ومجازره الوحشية على امتداد الأرض السورية، ولم تُحَمِّل النظام وأركانه مسؤولية الدماء التي أريقت». كذلك اعتبر المجلس مبادرة هيئة التنسيق تراجعاً عن الإجماع الوطني الذي تحقق في اجتماع المعارضة السورية في القاهرة. وأخيراً، وبلهجة لا تخلو من التهديد والوعيد، يسجل بيان المجلس الوطني أن هذه المبادرة تجعل الجهة التي أصدرتها «في معزل عن باقي قوى المعارضة السورية، ويضعها في انسجام مع الأطراف التي سبق أنْ دعمت النظام وأطلقت مبادرات لإنقاذه، مثل روسيا وإيران، وأنَّ شعبنا سيقول كلمته في هذه المبادرة وغيرها من المحاولات التي تسعى للالتفاف على ثورة الشعب السوري وتقويض ما حققه في طريقه لاسترداد حريته وكرامته».
إن لهجة الاتهام والتهديد في ردِّ المجلس الوطني على المبادرة لا ينبغي أنْ تحجب عنا حقيقة المحاولة التي قام بها البيان لخلط الأوراق، وقمع أي محاولة لفتح كوة في جدار الدم والتدمير. ونحن لا يمكننا الدفاع عن مبادرة هيئة التنسيق بكل ما ورد فيها، وعن المسكوت عنه بين سطورها، ولكننا لا يمكننا أيضاً أنْ نرفضها تماماً بدعوى أنها تسعى لإنقاذ النظام. أي نظام هذا الذي تسعى لإنقاذه مبادرة تعلل وتدافع عن امتشاق السلاح ضده؟ وهل المقصود بها هو إنقاذ النظام أم إنقاذ الشعب السوري من ماكينة الحرب والقتل الرهيبة؟ ثمَّ أي ثورة تلك التي يخشى عليها البعضُ من محاولات الالتفاف المزعومة وهي تطوق النظام من جميع الجهات وتجبره يومياً على تقديم التنازلات، فيما تريد بعض الأطراف استمرار المجزرة حتى تسقط الثمرة بواسطة التدخل العسكري الأجنبي في حجر القوى الأجنبية المعادية وليس في حجر الشعب السوري؟ فهل يستقيم والحالة هذه الكلام عن التشكيك في أخلاقيات الناس، وخاصة من رفاق الخندق، والمساواة بينهم وبين جهات دولية أخرى كروسيا وإيران؟ وماذا بخصوص الجهات العربية والدولية التي تزيد أوار الأزمة اشتعالاً عن طريق ضخ المزيد من المال والسلاح والتضليل الإعلامي؟
لقد أصبحت الأمور الآن أكثر وضوحاً من ذي قبل، وليس أمام الشعب السوري وثورته سوى خيارين: وقف القتال فوراً وإطفاء المحرقة والترتيب مباشرة لمرحلة انتقالية نحو نظام ديموقراطي جديد، أو الاستمرار به وإحراق الأخضر وصولاً لاحتلال البلاد. وتلك نتيجة يتحمل مسؤوليتها الخطيرة جميع الرافضين لوقف القتال، سواء كانوا في خندق النظام الشمولي أو في خندق المعارضة المسلحة وغير المسلحة!
* كاتب عراقي