بالأمس اختطف آل المقداد مواطنين تركيين اتّخذوهم رهينة لاطلاق سراح ابنهم المفقود في سوريا. وقبله اعتصم أهالي المخطوفين الـ11 في سوريا أمام السفارة التركية في الرابية. كما اطلقت تهديدات ضد افراد القوة العسكرية التركية العاملة في الجنوب. تزامنت هذه الاحداث في لبنان مع توتّر العلاقة التركية ــ الايرانية على اثر التحوّلات في الصراع في سوريا واختطاف 48 ايرانياً على ايدي الثوار. طهران اطلقت التهديدات باتجاه انقرة. الوضع يُنذر بمواجهة مفتوحة بين البلدين كانت تركيا ترفضها وايران تتحاشاها. لماذا؟عندما وضع وزير الخارجية التركي أحمد داود اوغلو في كتابه «العمق الاستراتيجي» مبادئ السياسة الخارجية التركية الجديدة او «المتجدّدة»، اراد ان يكون تطبيقها سلساً. نظريته كانت ترتكز على ازالة كل عوامل التوتّر مع دول الجوار؛ حلّ المشاكل العالقة بالحوار؛ او تأجيل البحث فيها اذا تعذّر؛ تطوير سُبل التعاون. حتى مع ارمينيا كان الحوار يتقدّم، وإن ببطء. إنها سياسة «صفر مشاكل مع الجيران»، بحسب ما سماها داود اوغلو نفسه.
سياسة «تصفير المشاكل» هذه سقطت. كانت تصلح في زمن السلم في الشرق الاوسط، أو بالاحرى في زمن الصراعات العادية. أما اليوم فالوضع استثنائي. «الربيع العربي» اسقط كل الحسابات وقلب كل المقاييس. إن احداً لم يعد بإمكانه ان ينأى بنفسه عن الحدث، باستثناء حكومتنا «البطلة». ركِبت تركيا موجة التغيير في المنطقة من أجل مدّ نفوذها فيها، فدعمت الثورات بالمواقف. حصدت تطوّراً في العلاقات مع الانظمة الجديدة، ولكنّها انزلقت الى صراعات المنطقة.
حتى ذاك الوقت كان بإمكان تركيا عدم الدخول مباشرة في الصراعات. تونس ومصر بعيدتان جغرافياً، والانظمة فيهما سقطتا بسرعة. في ليبيا شاركت في دعم الثوّار تحت مظلّة مجلس الامن الدولي، وقد سقط نظام القذافي بعد بضعة اشهر من الصراع العسكري.
في سوريا الوضع مختلف. منذ البداية اعلن رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان انّ ما يجري في سوريا يشكّل جزءاً من الامن القومي التركي. ولهذا التصريح مبرراته الجيو ــ سياسية. فسوريا دولة مجاورة لتركيا، حدودها هي الاطول (822 كلم)، وهي البوابة الى الشرق الاوسط. الشاحنات المحمّلة بالبضائع التركية كانت تعبر الى الدول العربية عبر باب الهوا وحلب باتجاه درعا (الاردن) والبوكمال (العراق). وقد خسرت التجارة التركية كثيراً بإغلاق هذه المعابر بسبب الحرب الدائرة هناك. إذ انّ الطريق البحرية من المتوسط الى البحر الاحمر عبر قناة السويس طويلة ومكلفة. وبحسب مصادر مطّلعة، فإنّ وزير الخارجية التركي كان قد ناقش مع الحكومة المصرية إمكانية خفض الرسوم على البواخر التركية.
لهذه الاسباب حاولت الدبلوماسية التركية في بداية الثورة السورية ايجاد حلّ سريع لها عبر اجراء اصلاحات جذرية على قاعدة إشراك المعارضة فعلياً في الحكم وإبقاء بشار الاسد في السلطة لحين انتهاء ولايته. في تلك المرحلة، حتى ايران اسدت النُصح الى بشار الاسد، عبر رئيسها والأمين العام لحزب الله، بالحوار مع المعارضة. لكن تعنّت الاسد والاصلاحات الشكلية التي قام بها واتّخاذه خيار الحسم العسكري، أحرج تركيا، فأخرجها من دور الوساطة الذي كانت تلعبه. اضطرها ذلك لأن تكون طرفاً في الصراع الطويل إلى جانب المعارضة.
كان من الطبيعي ان يضع هذا الموقف تركيا في مواجهة حلفاء النظام السوري، وفي مقدمتهم ايران. الدولتان لم تكونا تريدان المواجهة. كانتا تفضّلان الحفاظ على «المنافسة الحضارية» على النفوذ في المنطقة (بحسب تعبير السفير التركي في لبنان)، أو بالاحرى تأجيل الصراع بينهما. فالجمهورية الاسلامية منهمكة في «معركتها النووية» الاستراتيجية ضد المجتمع الدولي، وليس من مصلحتها إقامة مواجهة مباشرة مع تركيا، وبالتالي دفع هذه الاخيرة نحو التحالف مع المعسكر السنّي ــ العربي الذي يواجه «الهلال الشيعي». كما أنّها بحاجة الى تركيا لفك الحصار الاقتصادي المفروض عليها. أما تركيا، من جهتها، فمصلحتها كانت في تطمين ايران إلى انّ سياستها الشرق اوسطية لا تهدّد مصالحها ونفوذها. من هنا كانت مبادرتها (مع البرازيل) لايجاد حلّ للملف النووي الايراني. كما انّ لها مصلحة في تطوير علاقاتها الاقتصادية مع ايران، بحيث وصل التبادل التجاري الى 10 مليارات دولار في 2011. ووقّعت اتفاقية تقضي ببناء انبوب غاز ينطلق من تبريز في ايران ليصل حتى خليج جيهان التركي على المتوسط.
التعاون السياسي والاقتصادي بين تركيا وايران لم يكن تحالفاً، إنما فرضته الواقعية السياسية للنظامين. في هذا الوقت كانت ايران تراقب عن كثب تطوّر الدور التركي في المنطقة، بخاصة في مناطق نفوذها الاساسية: سوريا والعراق ولبنان وفلسطين. فهي كانت قلقة من التقارب التركي ــ السوري. وتنظر بحذر الى النفوذ التركي في العراق انطلاقا من استثماراته الكبيرة في اقليم كردستان وتدخّله العسكري ضد حزب العمال الكردستاني، كما فوجئت بالدعم التركي لقطاع غزة.
قبل ان تتحوّل سوريا الى ساحة صراع، بدأت طلائع المواجهة التركية ــ الايرانية في لبنان من خلال زيارة زعيمي البلدين للبنان في 2010. فأسقط حزب الله حكومة سعد الحريري، بعد شهر على زيارة الزعيم التركي، ورفض أمينه العام طلب الثنائي داود اوغلو ــ بن جاسم عودة زعيم تيار المستقبل على رأس الحكومة المُقبلة.
في تشرين الثاني من 2011، ورداً على دعم انقرة للمعارضة السورية، هدّدت طهران بضرب الدرع الصاروخية لحلف شمالي الاطلسي في تركيا اذا ما تعرّضت لهجوم اميركي ــ اسرائيلي. واليوم يتجدّد التهديد اقتصادياً أمام التحوّل الكبير الذي يشهده الصراع في سوريا. فالمعارضة، مدعومة من أنقرة ومختلف العواصم الغربية، تخوض معركة السيطرة على حلب لتعلن فيها حكومة انتقالية وتُقيم فيها قيادتها العسكرية ــ مما يُنذر بتغيير موازين القوى السياسية والعسكرية لصالح المعارضة.
الصراع التركي ــ الايراني لا يزال في بداياته. ايران تخسر اوراقها الواحدة تلوَ الاخرى. فهي خسرت الورقة الفلسطينية بعد مغادرة قياديي حماس لدمشق ووصول الاخوان المسلمين الى الحكم في مصر. وها هي تدعم نظاماً سورياً يحتضر. لذلك تفقد الدبلوماسية الايرانية رباطة جأشها، فتُطلق تهديدات اقتصادية ضد تركيا ستكون هي الخاسرة فيها. فهذه الاخيرة ليست بحاجة الى النفط والغاز الايراني كالصين، ومصلحتها، على عكس روسيا، هي في إضعاف ايران في المنطقة وفي آسيا الوسطى والقوقاز.
أما في لبنان، فحزب الله ينزلق اكثر فأكثر في وحول السياسة اللبنانية الداخلية من خلال دعمه لحكومة عاجزة وحلفاء يختلفون على تقاسم «جبنة» الحكم. يحاول التعويض في الشارع عبر التهويل بالحال التي ستكون في البلاد بعد سقوط هذه الحكومة، وقد أعلنها صراحة السيّد حسن نصر الله بأنّ «الوضع أصبح خارج السيطرة». ولكن ألا يُدرك حزب الله انّه بذلك يدفع البلاد باتجاه الفوضى، فالحرب؟ جلّ ما نخشاه ان يحاول الحزب استعمال ورقة «الرهائن» كما في الثمانينات. فالواقع الجيو ــ سياسي في المنطقة مختلف تماماً. قوّة حليفيه الايراني والسوري في طور الافول، بينما الدور الاقليمي لمن يتّخذه عدواً له في صعود.
* باحث في شؤون الشرق الأوسط،
أستاذ في جامعة الكسليك