نادرة كانت مقاطع الفيديو التي ظهرت خلال عمر الأزمة السورية، والتي لم يتعمد مصوروها أن نخرج بعد مشاهدتها بانطباع ما؛ إلا أن مقاطع قليلة هدفت لتسجيل أحداث معينة دون نية دعائية مسبقة، سمحت بتفحص أكثر هدوءاً لبعض ما حدث، بعيداً عن الدعاية الإعلامية أو الكذب المتعمد. رصد أحد هذه المقاطع لحظة تحوّل الاحتجاجات في سوريا إلى حركة ترك المنطق فيها مكانه للغرائز (http://www.youtube.com/watch?v=3IDlWHuRbRE ). بعد تلك اللحظة، كان من الصعب أن يحدث غير الذي قد حدث فعلاً.
المكان هو بلدة الصنمين والتاريخ كان يوم الجمعة في 25 آذار 2011، وخلفية الحدث هي أنّ القيادة السورية كانت قد اجتمعت في اليوم الذي سبقه، بعد نحو أسبوع على بدء الاحتجاجات في درعا وبعض مدن وبلدات الساحل السوري، وأعلنت عن حزمة قرارات إصلاحية. ابتهج سوريون كثر مساء يوم الخميس ذاك، في 24 آذار، بما رأوه نصراً سريعاً وفعالاً لحركة شعبية وليدة نجحت بممارسة ضغط على الحكومة السورية وألزمتها تغيير أولوياتها. إلا أنّ أحداث اليوم التالي، يوم الجمعة، أصابت الجميع بالذهول، وأطاحت إلى غير رجعة شعور التفاؤل الواعد، والذي خالج وجدان الكثيرين ليلتها؛ تفاؤل بوضع البلد على سكة إصلاح نظيف، دونما دماء أو خراب أو تدخل من أحد، وتفاؤل بقدرة الناس على تأطير حركة الاحتجاجات تلك، وتطوير آلياتها مستقبلاً.
أفاق البلد يوم الجمعة على أخبار غير سارة، أتت من درعا على وجه الخصوص، وتحدثت عن تململ ومن ثم تظاهرات خرجت بعد صلاة الجمعة. سابق زخم الأخبار الواردة تعاظم الخشية من انهيار ما إلى أن وصلت أنباء عن مجزرة في بلدة الصنمين، وكان عدد القتلى مخيفاً. تم بُثت مقاطع فيديو لاحقاً تظهر أهل الصنمين وهم يفرون مع سماع أصوات إطلاق الرصاص، وبات كثيرون منا يومهم مدركين أنّ لا إصلاح بعدها، ولا هم يحزنون، بل شقاق وألم وخراب.
شكلت تلك الحادثة بعينها، وحوادث يوم الجمعة ذاك في العموم، لغزاً محيّراً. تراوحت تبريرات خروج الناس للشارع يومها بين عدم الثقة بالحكومة ووعودها، مروراً بضحالة ما تم الإعلان عنه في اليوم السابق، إلى الغضب من احتفال الناس علناً في دمشق بحزمة الإصلاحات، فيما كان أهل درعا يشيّعون قتلى لهم. إلا أنّ شريط فيديو قصيراً ظهر في شهر أيار، بعد ستة أسابيع تقريباً على الحادثة، وأظهر الدقيقتين اللتين سبقتا إطلاق النار، كان له أن يزيل الستار عن دوافع مهمة، يمكن وصفها بالجوهرية، وراء تحوّل الاحتجاجات إلى حركة كان من السهل العبث بها لاحقاً، وحرفها عن مسارها المعلن.
يظهر الشريط حشداً هائجاً يحاول اقتحام مقر لوحدة أمنية أو عسكرية في الصنمين، عبر الهجوم على الباب الحديدي وقذف مقر الوحدة بالحجارة، وينتهي الشريط بغياب الصورة عند سماع إطلاق نار كثيف، يفترض أن يكون من داخل المقر على الحشد. يمكن أن يثير الشريط جدلاً طويلاً بالطبع حول كون عناصر المقر في حالة دفاع عن النفس، وفيما لو كان من الجائز استعمال النار في حال كهذه، ومدى قدرة العناصر على ضبط أنفسهم، إلخ. إلا أن الحوار الذي التقطه الشريط، والذي دار بين مصور الشريط وشخص آخر بجانبه، وربما شخص ثالث، كان أكثر أهمية بكثير. يجمل الحوار مبررات خروج تظاهرة ذلك اليوم، وتكاد تلك المبررات تجمل، بدورها، محركات الأزمة في سوريا بأكملها في تلك اللحظة من الزمان.
يبدأ الحوار في المقطع استكمالاً لحديث سبق تسجيله. يبدي المتحدث امتعاضه، على ما يبدو، من تضخيم السلطات لأعمال شغب يراها هو بسيطة، ومن ثم يجيب على تساؤل أحدهم حول وجود عناصر داخل المقر بالإشارة بثقة إلى أنّ الأغلبية قد خرجت في مهمة مؤازرة إلى السويداء التي كانت تنتفض، على حد قوله، كما كانت دمشق ومناطق الجزيرة، ويقول آخر إنّ «الشعب فاير». ثم يدور حديث عن مسألة وجود موظفين في الصنمين (يمكن أن يستفيدوا من زيادة الرواتب التي كان قد إعلن عنها مساء اليوم الذي سبقه، على الأرجح)، وتم حصر طبقة الموظفين بالضباط العلويين وأنّ الأمر «منهم وفيهم». أخيراً، يبرر المتحدث خروج التظاهرة في ذلك اليوم بالتحديد بالقول إنّه لو لم تخرج الناس، لتم اصطيادها ومعاقبتها واحداً تلو آخر.
يعكس الجزء الأول من الحديث شعوراً ظاهراً بالإجحاف، لعلة عدم التناسب بين العقوبة والجرم المرتكب. يترك هذا عند الناس عادة شعوراً بالظلم، ولكن الأمر مرتبط، في هذه الحالة الخاصة على ما يبدو، بمحاولة قمع الحركة الاحتجاجية، مما أضاف شعوراً ما بالتحدي. يتكامل هذا الشعور مع ما دار في الجزء الثالث من الحديث والذي يظهر عدم ثقة بالدولة وانفصالاً تاماً عن أجهزتها، على مبدأ «نحن» و«هُم». البعد الطائفي جلي هنا، والفكرة التي يُستند إليها ليست فقط أنّ أبناء الطائفة العلوية هم المستفيدون الوحيدون من الدولة ووظائفها وخيراتها؛ لا بل إنّ الدولة قد قامت في اليوم السابق برشوة هؤلاء عن طريق زيادة رواتبهم.
الحديث هنا، بطبيعة الحال، عن فئة معينة متسلطة ومستفيدة أكثر منه عن أبناء مذهب مختلف تجب محاربتهم لأسباب فقهية. ومع أنّ تمييز هذا واجب عن الهتافات المتطرفة الداعية إلى قتل العلويين وتهجير المسيحيين والتي رددها البعض في بداية الثورة، إلا أنّ الأمر في المحصلة واحد: معظم من خرجوا للشارع رأوا أنّهم إنما يستردون بلدهم من فئة غريبة (مجوسية) احتلته. لم يكن الشعور بالكره والانفصام التام عن مجموعة بشرية أخرى تقطن الحيّز نفسه وليد اللحظة، وإنما تم طهيه عبر سنوات من التحريض ضد «المجوس» ومحاولتهم حرف أبناء السنة عن دينهم، حسب الادعاء، وضد فساد الطبقة الحاكمة واستئثارها بالثروة وتحميل العلويين، وخصوصاً من يمت بصلة ما لرئيس الجمهورية، مسؤولية ذلك. وقد تمت تغذية هذا الشعور منذ بدء الاحتجاجات بادعاءات عن وجود مقاتلين من حزب الله والحرس الثوري الإيراني، وأنباء عن قيام أقرباء لرئيس الجمهورية بالهروب مع أموالهم أو تهريبها خارج البلاد. شعور الكره هذا، والإحساس بضرورة الدفاع عن النفس، كانا من أهم العوامل وراء تطور الاحتجاجات بالتدريج إلى الشكل المتدين العارم الذي نراه الآن.
وبخلاف الأسباب التي دعت الناس إلى الخروج للشارع في بدء الاحتجاجات، وبعضها تمت الإشارة إليه أعلاه، يبين الجزء الرابع من الحوار بجلاء السبب الرئيس لاستمرار الناس بالتظاهر بعد إعلان حزمة الإصلاحات في 24 آذار، وهو الخوف من العقاب. أياً كانت العوامل والمشاعر قبل ذاك اليوم، فإنّ الغالبية الساحقة من الذين خرجوا في يوم 25 آذار قد خرجت لهذا السبب. لم يروا أمامهم إلا طريقاً واحداً: الاستمرار بالخروج للشارع ودفع أكبر عدد ممكن من السوريين للقيام بالأمر عينه، أياً كانت الطريقة، بغية التخلص من الحكم الحالي؛ لا لأنّه لا يستطيع أو لا يريد الإصلاح، أو أنّه قد فات أوان ذلك كلّه، ولا لأنّه قد أخطأ بالتعاطي مع الاحتجاجات، أو فضل الحل الأمني على السياسي، أو غير ذلك، بل خوفاً من الحساب. الفكرة كانت، ولا تزال: أياً تكن الخسائر، فإنّ سقوط النظام سيعني إمكانية تحميله وحده مسؤولية كل ما جرى.
وبالعودة للجزء الثاني من الحديث، فإننا نلمس أملاً يائساً بالنصر. صاحب نوع كهذا من الآمال يدرك عادة أنّه في ورطة، وهو مستعد للتمسك بأي نبأ يبعد عنه شبح الهزيمة، وبالتالي العقاب. لم تكن المناطق المذكورة منتفضة عن بكرة أبيها يومها، كما يشي الحديث، ولم يكن المقر يفتقر للقوات المسلحة، كما يتبيّن من كثافة إطلاق النار في نهاية الشريط. مع مرور الأيام، اتخذ هذا الأمل شكل تسليم الأمر لله، مع الثقة والأمل أنّه سينصر هذا الفريق من عباده، لا ذاك، وتعاظمت درجة هذا التسليم كلما بدا أنّ النظام لم يسقط أو أنّ حلف شمالي الأطلسي لم يأت، أو أنّ الجيش لم ينشقّ... إلخ. ولئن تولد هذا النوع من الأمل في الأيام الأولى للاحتجاجات بشكل فطري، فقد تبنت تأجيجه دول بأكملها لاحقاً بهدف الإبقاء على جذوة الاحتجاجات مشتعلة ما أمكن، إذ تم تصميم ضخ الأنباء اليومية لتحمل في طياتها كلّها، دون استثناء وأياً كانت الجهة التي صدرتها، فكرة أنّ الفرج قريب وأنّ الدعم صار على الأبواب.
بطبيعة الحال، لم تكن الأنباء المتواترة بشكل ممنهج عن الفصل السابع والعقوبات الاقتصادية وتدخل قوات أجنبية وتسليح المحتجين، وغيرها، لتعني لمن تورطوا أنّ مأساة فرد اليوم سيقابلها مأساة أفراد في المستقبل، وإنما عنت باطراد أنّ خلاصهم قريب وأن عليهم أن يصبروا بعد قليلاً. قد يحمل التشبيه التالي بعضاً من قسوة، ولكن بدا أمر البعض كمدمن ميسر ضحى بأمواله فملابسه فبيته فزوجه، على أمل أن يأتي الدور التالي بفوز يعيد له كل ما خسره، وينجيه من نظرات شفقة أو لوم أو جشع ما فتئ يراها في عيون كل من هم حوله.
في الخلاصة، وعوضاً عن الوضع الأصلي لانقسام الناس بين مناصر لنظام سياسي ومعارض له، شكل يوم الجمعة ذاك، لحظة انقسام الشعب السوري إلى مناصر للاحتجاجات ومعارض لها. كان اليوم الذي تحوّلت دوافع الأزمة فيه من مسائل منطقية يمكن الاتفاق أو الاختلاف حولها وعلى تفاصيلها إلى غرائز تصعب السيطرة عليها ويسهل تغذيتها وتأجيجها، وبالتالي قيادة أصحابها بسهولة عن بعد. لقد كان يوم الجمعة ذاك هو اليوم الذي سلم فيه السوريون قياد أمرهم للغير.
وفي المقارنة، وللتاريخ، فإنّ الثورة عندما قامت في فرنسا في 1789، وهي التي قامت على أسس فكرية تقدمية نضجت عبر قرن ونصف من الزمان سبقاها، لم تبق سلطة ملكية أو إقطاعية أو دينية في محيطها الأوروبي إلا وحاربتها، مخافة انتشار أفكارها عبر الحدود. وعندما قامت «الثورة» في سوريا، لم تبق سلطة ملكية أو إقطاعية أو دينية في محيطها العربي والإسلامي إلا ودعمتها. وبدل أن تقودنا قيم التحرر والتنوير والحقوق الفردية إلى مستقبل أكثر إشراقاً، حشرتنا غرائز البقاء والخوف والكره في زاوية لن نخرج منها لأجيال.
ظهرت، بالتأكيد، بعد ذلك التاريخ عوامل أخرى ساهمت في تحريض الناس أكثر على الخروج إلى الشارع، أو في إلباس نوازع غريزية كهذه أقنعة أخلاقية أو منطقية، لكن يبقى هذا الشريط شاهداً على ما كان الجميع على علم به ولم يشر إليه أحد. وسنواصل، لا شك، سماع «مثقفين» يتغنون بأسمى المعاني التي لم تحملها هذه «الثورة» يوماً، ويستعذبون أزكى العطور التي لن تفوح من أشواكها؛ ليسأل المرء بعد كل الذي حدث فيما لو كانت سوريا بحاجة إلى مزيد من الديموقراطية أو إلى القليل من الصدق.
* كاتب سوري