لا يجادل سوى أحمق كبير في أن الجيش الحر ليس من مكونات الثورة السورية، ولا يقل عنه حماقة من لا ينتقد الممارسات السلبية لهذا الجيش أو التي ترتكب باسمه. وبالطبع لن نناقش من يقول بالعصابات المسلحة، فهذا رأي لا يستحق منّا الاهتمام أو المناقشة، فلنتركنه جانباً. فإن كان إنشاؤه لدفع القتل والأذى عن النفس والأهل وحماية التظاهرات، ولاحقاً للقيام بضربات نوعية موجعة لأجهزة أمن السلطة وشبيحتها بالأساس وكذلك للجيش في المرتبة الثانية، فإنّه بتوسع تشكيلاته، ومنها العسكرية المحترفة والمدنية الغاضبة والمشحونة من جرائم النظام وتعدد ولاءاتها، وبتوسع الثورة المستمر، وبوضعها الراهن الذي يميل لصالح الثورة، صار لا بد من التدقيق في المسؤوليات التي تقع على عاتق الجيش الحر.أستبق النقد لأشير إلى أهمية ما صدر عن قيادة الجيش الحر من بيانات تنظم سلوكه وأهدافه المتوافقة مع الثورة بوصفها ضد النظام بكليته، وبما ينسجم مع مواثيق حقوق الإنسان والشريعة، وإن كنّا نبتغي أن يكون الأساس فيها مفهوم المواطنة. إن هذه البيانات تقف في خلفيتها جملة انتهاكات، مورست وتمارس في كل سوريا. وبعض هذه الممارسات لا تقل بشاعة وإجراماً عمّا مارسه جيش النظام في كثير من المناسبات، وبالتالي صار لا بد من إيقافها والإشارة إلى أنّها تصادر الثورة وتشوّه أخلاقياتها، وتعطي للنظام الأحقية في تطوير آليات القمع الممارسة منذ بداية الثورة والمستمرة منذ ذلك الحين.
هذه الممارسات تتحدد بالقتل الطائفي والعنف والخطف والتعذيب وسرقة بيوت الموالين وغير الموالين من العلويين والإسماعيليين والشيعة، عدا عن التشليح وطلب الفدية للإفراج عن المحتجزين لدى الجيش الحر. وإذا كنّا نعلم أنّه على هوامش الثورة تنبت الكثير الكثير من المجموعات العنفية والمجرمة واللصوصية، وقد أطلق النظام نفسه في بداية الثورة قرابة ستين ألفاً من المساجين الجنائيين، فإنّ العيون الأمنية التابعة للجيش الحر بإمكانها متابعة كل هذه المعلومات والتدقيق فيها، وبالتالي محاربتها، وتصفيتها، والتخلص منها نهائياً، ووفق قواعد قانونية. إن مبعث كلامي تزايد حجم الانتهاكات التي تكررت في منطقة جوبر والتضامن والسيدة زينب والمليحة وعين ترما في دمشق وريفها، وفي حمص وحلب وغيرها من المناطق. ومقابل هذه الأفعال البغيضة الطائفية أو العنفية، هناك أعمال للجيش الحر في غاية الرقي الأخلاقي، كالحفاظ على بيوت الناس المهجرين، ومساعدة الأهالي في أعمال الزراعة وتأمين احتياجاتهم وتنظيم حصول المواطنين على حاجياتهم من غاز وخبز وغير ذلك. ولكنّنا، اعتماداً عليها، وانطلاقاً منها، نريد إطلاق الصوت عالياً، لإعادة الثورة إلى أهدافها المتمثلة في إسقاط النظام وبناء دولة حديثة، على أساس المواطنة وضمان الحريات العامة.
هناك قضية تعدّ الأخطر، ويفترض بالجيش الحر الانتباه إليها، وهي تمركزه في المدن والبلدات. فقد أثبتت التجربة استغلال السلطة لهذه القضية، وممارسة كل أنواع العنف والتدمير، بينما كانت خطط الكر والفر هي الأنجع بكل الوسائل. بالتأكيد لن يتوانى النظام عن قتل المسلحين وكذلك المدنيين، وقد شهدنا المجازر التي ارتكبت أثناء التشييع في سقبا وزملكا والسيدة زينب وغيرها، وبالتالي، هناك ضرورة لإعادة النظر في الخطط العسكرية، لكي يتم التجنب الكلي للتمركز العلني، أو الإقلاع عن «قصة» التحرير الكلي، واعتماد سياسات أخرى أكثر نجاعة، تحقق أهداف الثورة ولا تعرض المدنيين للموت.
قد يعتقد البعض أنني أجور على كتائب الجيش الحر. أقول: لا، بل أرى أنه بممارساته يقدم مثالاً لسلوك المناضلين في المستقبل. وهنا أشير إلى أن استهداف كافة العسكريين والأمنيين من الجيش السوري أمر خاطئ. فكما نعلم أن النظام يزجّ بالشباب الفقير والمهمش والذي يذهب إلى الجيش لخدمة العلم الإجبارية، بينما أغلبية أبناء الأغنياء صاروا خارج البلاد، أو تدفع عائلاتهم مبالغ مالية معينة لكي يعفوا من الخدمة. وبزج هؤلاء الشبان الصغار في المعركة يضعهم النظام في مواجهة مباشرة مع الجيش الحر، وهو ما حصد منهم المئات بلا أي معنى. ولأنّ الأمر على هذا النحو، فإن تجنّب قتل هؤلاء الجنود يعدّ ضرورة أساسية لاستمرار الثورة. إنّ المعلومات التي تصلنا توضّح أنّ كثيراً من الإصابات وقتلى الجيش هم من الجنود الإجباريين، وبالتالي يقع على عاتق الجيش الحر، وتحديداً قياداته المرفهة في الخارج، مسؤولية إيجاد حلول لهذه القضية الإشكالية.
أفضل طريقة لمحاربة ظواهر العنف والطائفية والقتل هي إيجاد آلية رقابية مدنية، تحدّد بدقة متناهية المسموح والمرفوض في الممارسات العسكرية، وأن يجري توضيح أن هناك محاسبات قانونية ستجري لكل من يمارس فعلاً جرمياً ضد الشعب وضد الجنود في أوقات غير أوقات المعركة. قضية الأطفال تحت سن الثامنة عشرة، قضية في منتهى الخطورة كذلك، فتجنيدهم وخوضهم للمعارك سيعرضانهم لأسوأ العواقب في المستقبل، وسيتشوّهون بكل تأكيد نظراً إلى عدم كفاية المحاكمة العقلية السليمة عندهم.
ربما صار من المفيد أن تعتمد مرجعية للجيش الحر، تستثنى منها مرجعية رجال الدين، ويُبعدون عن دور التوجيه الفكري والسياسي والمعنوي، وأن تكون هذه المهمة من أعمال لجان مدنية أو عسكرية منشقة وتستند في كل آرائها إلى أسس المواطنة والعدالة وإعادة الجيش إلى ثكنه حالما يسقط النظام، وبالتالي التخلص نهائياً من حالة الفوضى التي تعمّ كتائب الجيش الحر، وتعدّد المرجعيات والولاءات، وربما إذا بقيت الأمور على حالها فسندخل في قضية الميليشيات. ولا ننس دور عماد الدين رشيد وأحمد رمضان والإخوان المسلمين والقاعدة وغيرهم، الذين أنشأوا كتائبهم الميليشيوية والطائفية، وبالتالي هناك ضرورة لعقيدة قتالية قائمة على أساس حماية المواطن والوطن في إطار نظام ديموقراطي.
ربما من الضرورة الإشارة إلى أن المقاومة المسلحة تعدّ ركناً من أركان الثورة، وليس كل الثورة، وأن بقية أركانها لا تقل أهمية عنها، وأن لها كامل الحق في أداء دور مركزي في كل ما يخص مستقبل البلاد، بل ومشاركة المقاومة المسلحة في صياغة بياناتها، وخططها العسكرية، بما لا يعوق العمل العسكري. هذه الثورة متعددة الأشكال، ولكل أشكالها كامل الحق في إبداء برامجها عن مستقبل الثورة والبلاد، وبالتالي ليس صحيحاً أن يقدم الجيش الحر مقترحه عن الحكومة الانتقالية، بعد موشح هيثم المالح، والدخول في سجال معه.
هناك ضرورة لوجود قيادة سياسية داخلية للثورة، يكون للمقاومة المسلحة ممثلون فيها، وألا تتجاوز نسبتهم ما تراه الحاضنة الاجتماعية. فقيمة العمل العسكري أصلاً تستمد من الحاضنة الاجتماعية التي أمّنت البيئة الحامية والملبية لكل احتياجاتها. ولذلك نجد أن هناك مسؤوليات كبرى تقع على الجيش الحر، وعليه أن يرتكز، كما قدم الجناح المدني السلمي في بداية الثورة ولا يزال، على القيم الأخلاقية الرائعة عن الثورة ويحافظ على مستقبلها المدني الديموقراطي والوطني العام، لكافة السوريين.
الثورة السورية في طريقها إلى النجاح، شريطة أن تتجاوز بعض الإشكاليات التي أشرنا إلى بعضها، وإلا فسيكون هناك عزوف عنها جزئياً، وهو ما سيطيل المعركة، وقد يحولها إلى معركة عسكرية ببعد طائفي، لطالما حاول النظام حرفها نحوه، وتقوم بعض الدول الخليجية بالعمل ذاته، وهو ما سيحقق مصالح الدول الإمبريالية في بلادنا.
يجب أن تتجاوز الثورة أخطاءها. لا خيار آخر أمامها، كي لا تتكرر تجارب الثورة التي تأكل أبناءها...
* كاتب سوري