تشير المناورات العسكرية التي أجراها الجيش السوري على مدى خمسة أيام خلال تموز 2012، إلى بلوغ سوريا نقطة تحوّل استراتيجية كنتاج للتطورات، وليس فقط استخدامها لقوة كامنة سابقاً في النظام كرسالة قوة للعالم. وتعتبر المناورات بلوغ الذروة في مسار الأحداث منذ اندلاعها 2011، وتضيء على المدى الذي استطاعت فيه القيادة السورية إرساء قاعدة لإنتاج قيادة بديلة وجديدة للدولة. فمن المعروف في الكثير من التجارب العالمية أنّ القيادات الجديدة تتشكل في خضم الأحداث، ووفق الظروف التي تمليها التطورات والرؤى التي ترسم للمراحل اللاحقة.وتضع هذه المناورات حداً للجدل في احتمالات الأحداث، وأي فريق سينتصر، وهل يتفكك الجيش السوري، ومتى يسقط رئيس سوريا بشار الأسد، وماذا سيعقبه، وأي نظام سيخلف نظامه؟ ذلك أنّ المناورات بحجمها ومعانيها تشير إلى أنّ الجيش السوري ليس جيشاً عادياً كجيوش العالم الثالث، وأنّه بمناوراته بعد مضي سنة ونصف سنة من المعارك، يدحض ما قيل عن إنهاك وتعب وترهّل، وأيضاً عن احتمالات الانقسام والتفتّت والتشرذم. وبدت الدولة السورية، رغم قِدم عهدها وبُناها التقليدية، دولة متماسكة، وكما هو غير متوقع محدثة بنسبة عالية.
وتطرح المناورات أيضاً تساؤلات عن أسباب تعاطي النظام السوري مع الأحداث بهذه الطريقة، وعمّا إذا كان حقاً غير قادر على حسم الموقف وإنهاء التمرد المسلح، وفي هذه الحال ما هي المعاني التي تعطى لمواقفه وأسلوب مواجهته لمعارضيه. كذلك تطرح تساؤلات إنْ كان هناك حل غير الحل الذي يريده النظام، أو بالإمكان فرض حل من الخارج عليه، وعمّا يقال عن المراوحة وانسداد آفاق الحل وسوى ذلك من التعابير المرافقة للأحداث من بداياتها.
تأتي المناورات لتؤكد قوة الدولة السورية وسلطاتها، ما يطرح فرضية أنّ النظام استطاع تحويل الحراك السلمي وعسكرة الثورة وحركة المسلحين من صيغة التمدد كبقع الزيت إلى التدحرج ككتل النار، ولتؤكد أيضاً أنّ ذلك لم يكن عفوياً، وحركته لم تكن مصادفة، بل نتيجة إدارة ممنهجة وخطة محكمة. وبالمفهوم ذاته وبالمنطق نفسه، تأتي المناورات العسكرية في التنظيم والتوقيت المحكمين، وليست محاكاةً لمعارك وهمية ولا استعراضاً معنوياً، بل تعبير عن قوة كامنة تستمر في مواجهات على امتداد المحافظات السورية كافة، ويحتشد فيها عشرات آلاف الجنود. ولا بد من النظر في ما تختزنه من معانٍ أخرى غير متوقعة سابقاً، ومنها ما كانت الدولة تعدّ له من بناء استراتيجي وعسكري وبدائل على صعيد تركيبة السلطة وبنيتها.
إعادة العسكرة
في ظل تطور الأحداث وتمددها، استطاعت الدولة، بعد مضي عدة أشهر، أن تعيد هيكلة الجيش نتيجة التجربة والخبرة، وربما كان لذلك التشكّل الجديد مساهمة فعالة في نجاح المناورات العسكرية، فقد تم تشكيل أربعة جيوش في الوقت نفسه في إطار اللامركزية ممنهجة بمركزية مباشرة مع الرئيس. وهي عبارة عن تركيبة تناسب الواقع والظروف تشبه العقل السوري الصرف، وتتداخل في بنيتها عدة أنماط وأشكال، تارة تشبه الفييتكونغ، وطوراً جيوش كوريا الشمالية، كنماذج تتمتع بمرونة كبيرة.
الهيكلة الجديدة للجيش السوري استقرت على النحو الآتي:
1. جيش النخبة المؤلف من 120 ألف مقاتل.
2. جيش الوحدات الخاصة.
3. جيش القوات الخاصة.
3. الجيش النظامي.
وقد أعطى هذا التشكيل هامشاً كبيراً من المناورات، وآليات عمل مختلفة قد تبدو متناقضة، وامتلك سر اللعبة وفن الاستدراج وتوريط الدول وتصدير الأزمة وخلق من كل مشكلة مشكلة أكبر، وأدخل الجميع في سراب تراه أمامك ولا تستطيع إدراكه. استراتيجية تنمّ عن أهمية الدول متى شاءت واستطاعت في إعادة إنتاج نفسها بنفسها في غمرة الأحداث وكيفية خلق الأزمات وحلها.
لقد بلغ تطور الأوضاع مع الجيش السوري مبلغاً متقدماً لم يكن منتظراً، ما دفع برئيس مجلس إدارة شركة «ستراتفور» الاستخبارية الأميركية، جورج فريدمان إلى مطالبة الغرب بالتجهّز فوراً للحرب المقبلة، قائلاً: «أراها (الحرب) مقبلة لا محال، يجب ألا نستهين بالقيادة السورية لأنّها انتصرت في الحرب الأصعب، وهي الحرب الدبلوماسية والاستراتيجية، ومن السهل عليها أن تنتصر في الحرب العسكرية، وخاصة مع جيش استشهادي لا يعرف إلا النصر والقتال حتى آخر قطرة دم».
إنّ التطوّرات السورية، والمناورات العسكرية التي جرت فيها، تؤكد أنّ سوريا بعد انتهاء الأحداث فيها ستكون لاعباً مهماً في النظام العالمي الجديد الذي يجري تشكّله في خضم الصراع الدائر اليوم على أراضيها.
* كاتب لبناني