أعادت الثورة التونسية رسم رهانات التونسيين وأولوياتهم، ووصمت تاريخ تونس بطابع الثورة آنياً وفي المستقبل. بعد أكثر من 40 عاماً من القمع، بات التونسيون ثواراً اعتدّ بهم أقرانهم في الدول المحيطة. الآن بعد أكثر من عام على الثورة لا يزال التونسوين هائمين في رحلة البحث عن العدالة عبر بلورة دستور جديد وآليات تعالج إرث الماضي من انتهاكات حقوق الإنسان.
وضعت حدة الاستقطاب السياسي بين الإسلاميين والليبراليين مسار الانتقال في مثقال التجاذبات السياسية؛ فقد عاد موضوع التعويض للمساجين السياسيين إلى المشهد السياسي في تونس مع تصريحات وزير المال المستقيل حسين الديماسي. الوزير المستقيل كان قد صرح بأن أبرز أسباب استقالته عزم الحكومة التعويض مادياً للمساجين السياسيين، مشيراً إلى أن إجراءً كهذا يضع أعباءً على خزينة الدولة.
تصريحات الديماسي تلقفتها أطياف المعارضة التونسية لتوظفها في هجوم سياسي ـــ اقتصادي شرس على حزب النهضة الحاكم والائتلاف الذي يقوده، مطالبة بإيلاء الأولوية للبطالة والتهميش في الريف، إضافة إلى انقطاع الماء والكهرباء وغلاء المعيشة. تستند المعارضة أيضاً إلى أنّ المناضلين لم يتوقعوا يوماً الحصول على مردود مادي لنشاطهم السياسي المعارض في الحقبة السابقة، وتعدّ ذلك استثماراً للتضحيات الثورية التي قدموها.
هذه الحجة السياسية، ولو كانت قائمة وشرعية، ألبستها المعارضة ثوباً اقتصادياً، فيما حقيقة الاتهام تكمن في شكوك بنيّة الحكومة التعويض على المشمولين بقانون العفو الصادر في شباط/ فبراير من العام الماضي، والمستفيد منه نهضويون في غالبيتهم، وذلك في وقت تنادي فيه المعارضة يومياً بالتعويض على جرحى الثورة ومصابيها في مفاضلة بين ضحايا النظام السابق بحسب انتمائهم الحزبي. إن اختيار المعارضة التونسية للمقاربة الاقتصادية، ينبع من معرفتها المسبقة بأن المعركة الإنتخابية القادمة لن تحسم إلا بخطاب يتناول فشل النهضة في إدارة العجلة الاقتصادية في البلاد، الأمر الذي يدغدغ ذاكرة التونسيين لاسترجاع خطاب ثوري أشعل الحراك ضد الرئيس المخلوع والمنتفعين من حوله. عوضاً عن إسراف المعارضة في مقارعة النهضة وبرنامجها والإنزلاق إلى درك المهاترات التي سئمها الشارع التونسي، كان من الأجدى بها أن تعيد ترتيب سلم أولوياتها للوصول إلى العدالة التي تنشدها بدل الأخذ والرد الذي بات طاغياً على خطابها السياسي ــ الانتخابي الذي يبدو كردّ فعل عوضاً عن خطوات ضاغطة نحو المحاسبة.
شكلت مفاهيم العدالة والمحاسبة ولجان تقصي الحقائق وسبل تطبيق آليات المصالحة مع الماضي اللبنة الأساس لخطاب المعارضة في فترة ما قبل انتخابات 23 أكتوبر/ تشرين الأول، وهي بحد ذاتها آليات مكلفة لخزينة الدولة، فكيف أضحى البعد الاقتصادي معياراً لاختيار هذه الآليات بعد انتخابات المجلس التأسيسي وتشكيل الحكومة المؤقتة؟ وهل باتت المعارضة من أنصار النظرية القائلة بوضع الأولويات الاقتصادية في المقام الأول خلال المرحلة الانتقالية وطيّ الصفحة دون محاسبة، علماً بأن التعويض للضحايا يعدّ جزءاً أساسياً من عملية المحاسبة؟
وجب على المعارضة تماشياً مع مبادئها وخطابها الانتخابي التوجه بالأسئلة الآتية للحكومة عبر الرأي العام:
لماذا تعاطت الحكومة بانتهازية عبر السعي إلى تعويض المساجين دون ضحايا التعذيب والاعتقال التعسفي والقتل، وأختارت بدورها أن تميّز بين الضحايا؟
أي خطة عدالة انتقالية هذه، التي تقوم على التعويض للضحايا قبل معرفة الحقيقة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات؟
ماذا فعلت الحكومة بالتقرير الصادر عن لجنة تقصي الحقائق المعروف بتقرير «بودربالة»؟
ماذا فعلت الحكومة بشأن ملفات الفساد وكشف الحقيقة في هذا الملف الشائك؟
غياب الإجابات الشافية عن الأسئلة السابقة يظهر عقم خطط الحكومة المبهمة لتحقيق العدالة في ظل غياب الإرادة السياسية لديها، فالانحياز الحكومي والتمييز بين الضحايا يعلل بأن أغلبية المساجين السابقين هم نهضويون حاليون يمثلون حراكاً ضاغطاً ضمن قاعدة النهضة الشعبية، والأمر ذاته ينطبق على نية التعويض قبل استجلاء الحقيقة والمحاسبة في وقت تحتاج فيه الحكومة إلى هذه الشريحة كمفاتيح انتخابية موزعة على كافة التراب التونسي. أما عن ملفات الفساد، فيكفي أن أحد الوزراء المكلفين معالجتها، الوزير محمد عبو، قد استقال مبدياً امتعاضه من عدم وجود الصلاحيات الكافية وغياب الرغبة الحكومية الحقيقية في الخوض في ملفات كبار الفاسدين، بينما توافرت هذه الإرادة لقمع الحريات والإبداع خلال مسيرة عيد الشهداء التي لا يزال المسؤول عنها غير معروف، وأحداث معرض العبدلية في المرسى التي هددت الأمن العام وحرية الرأي والتعبير.
الضمانة الوحيدة لإرساء الحقيقة والعدالة في تونس، وضمان شفافية التعاطي معها في هذه المرحلة، تستلزم تحييد الحكومة ووزارة العدالة الانتقالية وحقوق الإنسان عن موقع القرار؛ إذ إن الحكومة هي الخصم والحكم في الآن ذاته، ما يهدد شفافية القرارات وتحديد المسارات التي ستسلكها هذه العملية. لذا من المفترض إسناد هذا الملف إلى هيئة مستقلة تضم الضحايا والحقوقيين وممثلين عن الأحزاب السياسية. لجنةٌ غير اللجنة الفنية المشرفة على الحوار الوطني. تشرف هذه اللجنة على إعداد وصياغة خطة وطنية لشكل التعاطي مع الانتهاكات في المرحلة السابقة عبر مخاطبة المواطنين جميعاً على كافة الأراضي التونسية والوقوف عند آرائهم. أولويات هذه اللجنة بعد حصولها على صلاحيات وافية وتمويل كاف، هي تقرير الآليات القادمة. على سبيل المثال، إنشاء لجنة تقصي حقائق، أو محاكم خاصة للنظر في قضايا الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان، كذلك آليات حفظ الذاكرة الجماعية، لتصل إلى الغوص في مسألة التعويض ونوعه، أكان نقدياً مباشراً أم على هيئة تقديمات كضمان الشيخوخة، أو الإعفاء من الضرائب، أو الصحة والتعليم المجاني، وصولاً إلى تحديد المستفيدين من هذه التعويضات. المساومة على معرفة الحقيقة كاملة ومحاسبة المسؤولين عن انتهاكات الماضي (سياسية واقتصادية) بذريعة السياسة أو الأمن أو الاقتصاد، يعني عملياً الإيذان بعودة هذه التجاوزات واستحضار شبح النظام السابق. إن هذا المسار لا يمكن أن يفرض على الشعب في المرحلة الانتقالية، بل يجب أن ينبع منه كشريك في صنع القرار.
* خبير قانون دولي