نطق أكرم شهيّب بالأمر اليومي للمعلّم: تضايق النائب وامتعض من ترحيل مطلوبين سوريّين عن لبنان. هاله الأمر. وليد جنبلاط صاح مندّداً ومُستنكراً ومُذكّراً بحقوق الإنسان (خارج نطاق ممالك النفط والغاز ومشيخاتهما. طبعاً _ لو كان كمال جنبلاط حيّاً لسخر من تملّق ابنه لآل سعود، كما كان يسخر من تملّق صائب سلام لآل سعود، لكن وليد بزّه). كيف يُرحَّل مطلوبون سوريّون إلى سوريا في العتمة؟ ينسى وليد جنبلاط _ وكل من يأتمر بأمره من نوّاب ووزراء وحاشية متضخّمة _ أنه اعترف هو نفسه على التلفاز بأنه سلّم في الماضي أعضاءً من حزبه هو للنظام السوري. ينسى أنّه سلّم _ باعترافه _ مسؤولاً في حزبه هو أبو هيثم، للنظام السوري، وقد جرى بالتأكيد إعدام بعض من سلّمه جنبلاط عبر السنوات والعقود للنظام السوري. ينسى جنبلاط أنّه هو عرض على «كلام (بعض) الناس» تسليم نفسَه لبشّار الأسد وعرض أن تجري محاكمة له في سوريا بسبب استقباله لشمعون بيريز في قصر المختارة (يُقال إنّ الزيارة كانت فقط معماريّة، لأنّ بيريز يهوى النظر والتمعّن في التراث المعماري الشرقي). جنبلاط هذا كان سيسلّم كلّ أعضاء حزبه للنظام السوري لو جاءه أمر من ضبّاط الاستخبارات الذين كان يأتمر بأمرهم في عقود تحالفه مع النظام السوري (فضحه صديقه عبد الحليم خدّام على «العربيّة» عندما قال إنّ كل خلاف جنبلاط مع بشّار الأسد ينحصر في صداقة الأخير مع طلال أرسلان). ينسى جنبلاط كل ذلك، وينسى أنّه صرّح في أوّل مقابلة له بعد اغتيال كمال جنبلاط، مع وليد عوض في «الحوادث»، أنّه اختلف مع والده في عدائه للنظام السوري. أي إن وليد جنبلاط كان مؤيّداً للنظام السوري حتى عندما عاداه كمال. لكن لنترك جنبلاط وشأنه. الرجل عاد إلى ممارسة الحبّ مع الديموقراطيّة وحقوق الإنسان (في سوريا فقط) لعلّ ذلك يؤدّي إلى حصوله على ثمرة استجدائه الذليل للقاء سجود مع الملك السعودي. وجنبلاط ينتظر الموعد مع الملك السعودي، كما ينتظر المحبوب لقاء المحبوبة بعد حب أوّل نظرة. (وجنبلاط، للأمانة، كتب مرثيّة مؤثّرة لمناسبة وفاة الأميرة سيطة، شقيقة الملك السعودي، لعلّ الرثاء يفيد في تعجيل إعطاء الموعد المنتظر). واكتشاف للشغف بحقوق الإنسان هو مثل أن يكتشف سعد الحريري شغفاً بالفلسفة أو الفيزياء.أمّا فؤاد السنيورة، فقد ردّ على طريقته الخاصّة: هذا الرجل حكم في لبنان (بالنيابة عن أسياد خارجيّين) على أنّه موفد من الرجل الأبيض، ينفّذ أوامره بحذافيرها، ومن دون سؤال. هذا رجل تعلّم من رفيق الحريري مبدأ «نفّذ ولا تعترض على أولياء النعمة». حكم السنيورة على أنّه مُنفّذ فقط لإرادات خارجيّة: سعوديّة وأميركيّة على حدّ سواء (في واحدة من وثائق «ويكيليكس» التي يقول عنها السنيورة إنها برّأته، مع أنّها أوردت لقاءً جمعه مع قائد عسكري أميركي بعد الانتخابات النيابيّة الأخيرة، وفيه شكر جزيل من السنيورة للقوّات الأميركيّة على «المساعدة» التي لولاها لما «نجحنا» في الانتخابات، يتلقّى حضرته في لقاء واحد اتصالاً من الأمير مقرن وآخر من الأمير بندر. طبعاً، يقطع السنيورة الاجتماع ليتلقّى الأوامر وينفّذها بحذافيرها). كم هو مطيع هذا السنيورة! السنيورة، هو بالعرف الدستوري، ممثّل لإرادة الشعب اللبناني _ ولإرادة مقرن طبعاً الذي ابتاع الانتخابات النيابيّة الأخيرة في لبنان _ يعتبر أنّ الخلاف السياسي في لبنان يجب أن لا يدور داخل مؤسّسات الدولة _ وهو حبيب للدولة _ وإنما يدور في لقاءات مع ممثّلي سفارات أجنبيّة. السنيورة استدعى ممثّلي دول غربيّة (هذا في العلن فقط) وشكا لهم تصرّف الحكومة اللبنانيّة. لو أنّ نائباً في أميركا شكا أوباما لسفير الصين، لتعرّض لاتهام فوري بالخيانة ولاضطرّ إلى الاستقالة الفوريّة. هذا هو ديدن السنيورة التابع: هو تابع لعائلة تتبع آل سعود، التي تتبع بدورها الحكومة الأميركيّة، والتي تتبع بدورها المشيئة الإسرائيليّة في الشرق الأوسط. هذه الدرجات من التبعيّة لا تترك حيّزاً من الاستقلاليّة لواحد مثل السنيورة (الطريف أنّ الحكومة الأميركيّة تطلق صفة «رجل الدولة» على كل سياسي عربي يخدم مصلحة الاحتلال الأميركي والإسرائيلي _ لذلك فإنّ السنيورة رجل دولة على نسق نموذج إياد علاوي وحميد قرضاي وسلام فيّاض). لكن عن السنيورة حديث آخر: هذر رجل بات بمصاف هذر شارل مالك ونوري السعيد، من حيث الارتهان لإرادة المخطّط الأميركي _ الإسرائيلي (لكن السنيورة على حق في أمر: أنّه لا يحتاج إلى فحص دم في وطنيّته. لا حاجة لفحص الدم هذا بعد عدوان تمّوز، عندما كان السنيورة وفق المراجع الإسرائيليّة ولنقل لأسباب قانونيّة ليس على الأقل في خندق مقاومة إسرائيل) والسنيورة يعترف بأنّه ضد العنف المسلّح ضد دولة العدوّ الإسرائيلي مهما كان ومهما ارتكب العدوّ من مجازر، وإن كان هو وفريقه مع العنف المسلّح ضد النظام السوري (فقط عندما يكون في حالة خصومة مع أولياء النعمة في آل سعود). السنيورة لا يجد غضاضة في تحريض حكومات أجنبيّة غربيّة على أبناء جلدته وبناتها _ ألم نقل إن الصهاينة يطلقون عليه صفة «رجل الدولة»؟
ثم ألا يخجل السنيورة هذا من الحديث عن معايير حقوق الإنسان في العلاقات بين لبنان والدول العربيّة وهو الذي _ بنفسه _ ألبس الأمير نايف _ عنوان التعذيب والاضطهاد في المملكة _ ثوب أساتذة الجامعة اللبنانيّة وأسبغ عليه لقب الدكتوراه الفخريّة؟ كيف يستقيم دور السنيورة داعي حقوق الإنسان ودوره الذيلي المطيع في العلاقة مع طغاة النفط والغاز؟ ومن ينسى رثاء السنيورة لحكم صديقه حسني مبارك (ومن لاحظ أن زيارات السنيورة للقاهرة تقلّصت بعد سقوط مبارك؟) لكن السنيورة بأدائه المُشين يُكرّس مرجعيّته مرّة أخرى: هي تقبع في عواصم الدول التي تشارك وإيّاها في مؤامرة عدوان تمّوز لحماية أمن العدوّ الإسرائيلي.
أما موقف الحكومة اللبنانيّة، فلا حكومة لبنانيّة. هي خليط متنافر من الأعداء والأصدقاء والخصوم والسارقين والمنتفعين والسماسرة، وقد قامت بمعجزة جمعهم عبقريّة حزب الله في التعاطي مع الملف اللبناني. قد يكون حزب الله قد ظنّ أنّه يتذاكى عندما أتى بنجيب ميقاتي، كما ظنّ أنّه يتذاكى عندما أيّد ميشال سليمان رئيساً لما بقي من الجمهوريّة. حزب الله يتمرّس بتلقّي الخديعة والغدر من حلفاء وأصدقاء بصورة خاصّة. ظنّ حزب الله أن هناك وسطيّة، ولم يدرك أنّ الوسطيّة عنوان لمن يريد أن يخدع حزب الله وأن يداور ويناور لإرضاء الغرب وآل سعود (وميقاتي، مثله مثل جنبلاط، ينتظر أقرب فرصة للسجود أمام أمراء آل سعود، لكنه لم يحظ بهذا الشرف بعد). وليد جنبلاط أصبح وسطيّاً (بعد اعترافات «ويكيليكس») فقط عندما أراد أن يوهم حزب الله بأنه تخلّى عن ساعة التخلّي _ أو تخلّى عن التخلّي عن ساعة التخلّي.
والقول إن «الأمن العام» اللبناني تصرّف من عنده قول دقيق غير مبالغ فيه. ليست هناك أجهزة دولة مركزيّة في لبنان: ليس هناك فكرة وطنيّة مركزيّة جامعة في لبنان. في لبنان ليس هناك إجماع على ماهيّة العدوّ: حتى عملاء إسرائيل المدانون يحظون بتغطية سياسيّة حامية من الفريقيْن. نقولا فتّوش خطب في مهرجان تكريم لعميل إسرائيلي محكوم، والنائب جمال الجرّاح _ كما جاء على شاشة تلفزيونيّة لبنانيّة _ شوهد في سيّارة واحدة مع العميل الإسرائيلي المحكوم بعد «تحريره» من قبل القضاء اللبناني. للبنان _ كما للعراق بعدما لبننته قوّات الاحتلال الأميركي _ طوائف ذات سياسات خارجيّة مستقلّة وجيوش مستقلّة وشاشات مستقلّة. للسنّة سياسة خارجيّة وللشيعة ولباقي الطوائق. هذا لا يعني أنّ طوائف لبنان وزعماءها لا يتفقون مثلاً على تقدير صحن الحمّص أو طبق الشيش طاووق. معاذ كارل ماركس. وطوائف لبنان طموحة للغاية وتظنّ أنّ بمقدورها تغيير سياسات دول كبرى. وليد جنبلاط يهزّ رأسه متأسّفاً لأنّه لم يقنع روسيا بتغيير سياساتها. وكيف لا يتأسّف جنبلاط وهو زعيم لـ80% من 5% من سكّان لبنان العظيم. ألا يُحسب لهم حساب هؤلاء؟ والدولة حسب تركيبة الطوائف في الطائف، تحوّلت رسميّاً وفعليّاً إلى قالب حلوى يُقسّم وفق رؤية المادة 95 من دستور ما قبل الطائف. وعليه، أنشأت دولة لبنان جهازاً استخباريّاً خاصّاً بكل طائفة. والأمن العام هو من حصة «الشيعة»، كما أن «فرع المعلومات» هو من حصة «السنّة» وهلّم جراً. وتقسيم الدولة إلى أجهزة طوائف تضمن منع «القلق الوجودي» للطوائف، وفق الرواية الشائعة والمُعزّزة بالحروب الأهليّة الفعليّة والمُضمرة أو الصامتة _ باستثناء بعض زخّات من الرصاص الحيّ.
وقد قرّر جهاز «الأمن العام» ترحيل مطلوبين سوريّين. طبعاً، إن القرار جائر لأن أي ترحيل إلى بلد قد يتعرّض فيه المطلوب لقمع أو تعذيب هو مخالف لشروط حقوق الإنسان (التي يحرص عليها أشدّ الحرص الرجل الذي ينتظر وليد جنبلاط موعداً معه). لكن النفاق في ردود الفعل اللبنانيّة يكمن في تجاهل تاريخ طويل من تسليم لبنان لمطلوبين من دول عربيّة فاعلة في لبنان. ألم تسلّم حكومة السنيورة والحريري مطلوبين سعوديّين لنظام لا يزال يمارس عقاب قطع الرؤوس والأطراف؟ هل اعترض جنبلاط وممثّل الاتحاد الأوروبي على تلك التسليمات الجائرة؟ هل ارتفعت أصوات آنذاك تقطر حباً وحناناً وعطفاً؟ وعندما سلّمت ماليزيا طالباً سعوديّاً أزعجت تغريدته على «تويتر» خاطر هيئة كبار العلماء لم تبدر ردّة فعل واحدة من أي من الدول التي تغنّي عن حقوق الإنسان على وقع عزف الكمان الحنون. سُلّم الرجل السعودي وذهب في غياهب سجون الأمير نايف (وقد نعاه جنبلاط أيضاً بكلام يفوح بالإنسانيّة والشعر المنثور).
ولا ينحصر النفاق في طبقة أهل سياسة 14 آذار الذين تمرّسوا في خدمة ضبّاط الاستخبارات في سوريا. فأميركا وأوروبا دخلتا في حفلة المواعظ والإرشاد. لكن أميركا ترحّل الآلاف في اليوم، بصرف النظر عن طبيعة النظام الذي يُرحَّل إليه المطرود. أكثر من ذلك، كانت أميركا على مرّ السنوات ترحّل من هو غير مطلوب إلى دول عربيّة تتمرّس في التعذيب الفعّال (مثل سوريا والأردن والمغرب والسعوديّة) من أجل الحصول على معلومات ترفض المحاكم الأميركيّة، نظريّاً، وسائل الحصول عليها. أميركا ألقت القبض على مئات الأبرياء من المسلمين والعرب بعد 11 أيلول، وخرقت معايير حقوق الإنسان ومعايير دستورها هي في محاربة ما تسمّيه «الإرهاب»، وبذلك نفت عن نفسها حق أداء دور الحكم في الأخلاق الدوليّة. أوروبا تخضع اليوم لمزيد من سن قوانين عنصريّة مُجحفة مُوجّهة ضد العرب والمسلمين، وهي أيضاً ليست في موقع الوعظ والإرشاد. لكن مفوّضة السياسة الخارجيّة في الاتحاد الأوروبي لا تجد غضاضة في التعبير (المنافق) عن الاستياء والاستنكار لقرار الحكومة اللبنانيّة.
غير أن الحكومة اللبنانيّة لا تستطيع التذرّع بالتزام قرارات واتفاقات وقّعها رفيق الحريري وغيره مع الحكومة السوريّة أثناء سنوات سيطرة النظام السوري على مقدّرات البلد. وقد كان الوسطي نجيب ميقاتي واحداً من أعمدة كثيرة للنظام السوري في لبنان. والنظام في لبنان تنصّل فعلاً من كل الاتفاقات بين البلدين، وخصوصاً أنّ لبنان وقواه السياسيّة منقسمون حول الوضع في سوريا. هناك فريق لبناني (تابع لآل سعود) يساند وينسّق عمل معارضة الخارج السوريّة (وقع صحافيّون غربيّون (وغربيّات) على دور عقاب صقر المتنامي في مقرّه الجديد في إسطنبول، وكل نفيه السابق لدوره يدخل في إطار أكاذيب يستسهل هو وغيره إطلاقها، مثلما تصالحوا مع النظام السوري عندما أمرهم الأمير مقرن بذلك، وعادوا ونفوا أنهم تصالحوا مع النظام السوري وبرّأوه من «جريمة» اغتيال رفيق الحريري). ويساهم في تسليحها. هذا سينعكس مستقبلاً على مطالب قاسية سيفرضها النظام المقبل في سوريا، مهما كانت أهواؤه. لكن الفريق الموالي للنظام السوري يكابر ويعاند ويحاول أن يتصرّف كأن النظام السوري باقٍ إلى الأبد، وأن ما صلح في حقبة سيطرته يصلح اليوم. كيف يمكن إصدار تسويغ قانوني أو دستوري لتسليم مطلوبين لنظام قمعي وفي بلد تتساقط فيه القذائف والصواريخ في الشوارع وعلى المنازل؟
إن العمّال السورييّن في لبنان هم ضحايا لقمع نظام البعث السوري و«نيوليبراليته». وهم أيضاً ضحاياً مرّة أخرى للنظام السوري في لبنان؛ لأنّه لا يكترث لأمرهم. وفريقا النزاع في لبنان، 8 و 14 آذار، ساهما في قمع العمّال السوريّين في لبنان وإن كان فريق 14 آذار يتحمّل المسؤوليّة الكبرى عن قتل أو خطف عمّال سوريّين على مرّ الأعوام التي تلت اغتيال رفيق الحريري، وذلك بسبب الحملة العنصريّة التي تبنّاها واعتنقها هذا الفريق (صحيفة آل الحريري كانت تجعل من كل بائع كعك فقير في لبنان عميلاً للاستخبارات السوريّة، وقد حرّضت على الاعتداء عليهم). لكن هذا كان قبل أن يقع آل الجميّل وشمعون والحريري في حب الشعب السوري. وقد تعرّض عمّال سوريّون لاعتداءات أخيراً في مناطق خاضعة لنفوذ حزب الله وأمل بعد حادثة خطف الحجّاج اللبنانيّين.
إنّ العدل ليس من شيم الحكومات اللبنانيّة وليس من شيم أجهزة الأمن ومَن لفّ لفّها. لكن تسليم مطلوبين سوريّين لسوريا في هذه الظروف بالذات هو خطوة إضافيّة لتكريس سمعة الظلم والجوْر التي تتمسّك الحكومات اللبنانيّة بالمحافظة عليها.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.comn