ليس يسارياً من يتنكر لثورات الشعوب. الثورة السورية هي كذلك، ولها أسباب تنطلق من الاقتصادي إلى السياسي إلى الأمني، فتكتمل أسباب الثورة الداخلية، وأسباب رحيل النظام الذي في كل ممارساته، كان أصل تلك الأسباب. محاولة بعض الباحثين اليساريين، أو المحسوبين على اليسار ــ وهم بالتأكيد ليسوا محسوبين على النظام ــ نفي الأسباب الداخلية، ووصل الثورة بنسبٍ خارجي إمبريالي وخليجي وإقليمي تركي، يقدّم دلالة كبيرة، إلى وجود وعي يساريّ مستحكم فيهم، وهو وعي ستاليني، ووطني «محلي». وعي يتناسب مع بنية ذهنية مغلقة، تتوهم عدوّاً متأهباً للمهاجمة، لطالما كان حجر الزاوية في عماراتهم الصحافية، وهو من دون شك، لا يزال يخطط لإعادة تقسيم العالم، وسوريا منه، وفقاً لمصالحه، وأقصد الإمبرياليات العالمية، ومعها كل من روسيا والصين كدولتين إمبرياليتين مستجدتين، وتحاولان بغباء منقطع النظير المنافسة في الكعكة الدولية، وذلك عبر دعم النظام.الانطلاق من أن ما يحدث في سوريا، مؤامرة كونية إمبريالية، هو وعي وطني ستاليني، لطالما كرّر الوطن أولاً، وأنّ الإمبريالية على الأبواب. هذا الوعي، حوّل الوطن إلى مزرعة شخصية، يتحكم بها زعيم عالم بكل شيء، لا يشبه سوى الله بصفاته... ولا يسمح بأية صلاحيات لغيره، ويُخرج الشعب من حساباته بالكامل، فهو خالقه! الشعب إن تظاهر أو اعترض أو احتج أو رفض، أو غيره، هو عميل لدولة أخرى، وليس من حلٍّ له، إلا بالاعتقال، أو القتل، وليس دونهما سبيل، أي لا حقوق بشرية للشعب لدى الزعيم المقدس. هناك واجبات التقديس فقط! هذا أصل ذلك الوعي؛ ولكن وللحق، فإن اليساري المهزوم، يطلّ من علياء النظام، ويتنازل ليقول: إن في سوريا هناك صعوبات؛ ومشكلات اقتصادية تتعلق بالليبرالية والإفقار الذي رافق الفريق الاقتصادي في السنوات العشر الأخيرة، ويشيد بذكاء نائب اقتصادي، لطالما عارض ذلك الفريق، ليس لسبب سوى ليحل مكانه تماماً! وليستمر الإفقار والتدمير، لا للاقتصاد فقط، بل لكل معالم الحياة، طبعاً ذلك الوزير مستمر في دفاعه عن الشعب، الذي يقتل، لكن يساريته هو الآخر ستدفعه إلى الدفاع المستميت عن حقوقه الطبيعية حتى بعد موته. إن المرء ليعجب من شدّة الإخلاص.
ذلك اليساري، الذي يدافع عن الاستبداد، يغالي في تهكمه على الثورة السورية، بحجة أن النظام ممانع، بل هو أبو المقاومة وأمها، وهو يواجَه لذلك السبب بثورة مصطنعة مستقدمة من الخارج. وبالتالي هذا اليساري المخضرم، يخاف على المقاومة، حتى ولو لم يبق أحد في سوريا ليؤيدها، ويكفيه في ذلك ديمومة نظام ديكتاتوريّ يدعم المقاومة، متجاهلاً أن ذلك الدعم، الذي هو حقيقة، هو دعم الدولة السورية، وليس السلطة الاستبدادية، وأن القضية الوطنية والقومية، هي قضية أساسية في سوريا، قبل تشكل النظام في سبعينيات القرن الماضي، وبالتالي ليس من سلوكٍ نبيلٍ يمكن الاستناد إليه في دعم الديكتاتورية، ونقد سياساتها الاقتصادية الليبرالية.
الثورة، التي تمتد يومياً إلى بقاعٍ جديدة في سوريا، ويتشقق الجيش على إثر ذلك، والتي استخدم معها النظام كل وسائل الدمار، هي ثورة شعبية، هي ثورة ضدّ نظامٍ، لا يمكن عاقلاً أن يغفر له جرائمه تلك. إنه نظام آفل، نظام لم يعد سوى عقل متخلف وبائس ومرعوب من التغيير يؤيده. العقل الشيوعي التقليدي، العقل اليساري «الوطني» عقل مخصي بامتياز، ولأنه كذلك فهو يؤيد كل نظام يهرف باليسارية، مع أن النظام السوري، طلّق كل علاقة له باليسارية منذ زمن بعيد.
هذا اليساري، أعماه وعيه الستاليني «المحلي – الوطني»، ذلك الوعي الذي قد يمتلك تبريرات معينة له، لو كان ما يحدث في سوريا، لا يتعدى مدينة واحدة، أو لو كان فعل حزب سياسيّ ما، أمّا أن تكون الثورة بكل هذا الاتساع ويرفضها، فهو بالتأكيد عقل خرف بامتياز، عقل سيزول بزوال النظام.
لا يختلف النظام في سوريا عن النظام التونسي والمصري وغيره من الأنظمة الساقطة أو التي في طور السقوط بشيء، بل ربما عُدّ أسوأها جميعاً؛ إذ بالإضافة إلى الإفقار والإذلال السياسي الذي عيّش الشعب فيه، فهو احتجز كتلة مالية مخيفة من الاقتصاد بحجة بناء ترسانة عسكرية لمواجهة إسرائيل. هذا عدا عن النهب الذي جرى باسم ذلك، وهو بعد كل هذه الممارسات، وحالما يبدأ الشعب بالمطالبة بحقوقه، يبدأ بتسخير كل ترسانته العسكرية لاجتثاثه، وصولاً إلى الطيران الحربي بمختلف أشكاله.
اليسار الذي يعي معنى اليسار، لا يمكن أن يقف ضد ثورة شعبية، ولو كان النظام اشتراكياً، فكيف وقد أدار ظهره كلية لأيّ مفهوم يخص دور الدولة في إدارة شؤون المجتمع، لا نحو المفاهيم الاشتراكية. يسار يتقوقع في الدفاع عن الوطن أو يدعي العلمنة أو يخشى من الحرب الأهلية أو يكذب، ويختصر الثورة بعصابات مسلحة، أو يدعي إمكانية الوصول إلى حلٍّ سياسيٍّ، هو يسار مستبد، يسار متخلف، لا يزال وعيه سطحياً، ويتحالف مع نظام أكذب منه. فهل يعقل أيها اليساري العظيم، أن تكون تلك العصابات في كل مدن سوريا وقراها، ولو كانت موجودة فعلاً، فأية إيجابية لنظام يرفضه الشعب المؤيد للعصابات؟
تطورت وتوسعت الثورة كثيراً، هذه هي الحقيقة، وانخرطت فئات متعددة فيها، واستفاد منها كثير من القطاعات الهامشية، التي هي بالثورة هوامش لها (سلفيون، مجموعات إجرامية، قتلة، مهربون). ولا شك أن الدول الإمبريالية والخليجية والإقليمية تحاول الاستفادة منها لإمرار مشاريعها، بل وقد يكون هناك من يدين لها، ويعمل معها، وقد تكون الاستخبارات العالمية في سوريا الآن. لكن لو كان المرء يسارياً، فسيعلم علم اليقين، أن تلك المظاهر هامشية؛ لأن امتداد الثورة لكامل التراب السوري واضح لكل من يمتلك عينين وعقل، وبالتالي، يمكن اليساري، رفض تلك الظواهر ورفض سياسات النظام، التي كانت هي الأساس قبل الثورة وأثناءها. إنّ وجود مجموعات سلفية وطائفية وحملها السلاح ومقاتلة الجيش، ليس مسألة خارج التوقع أو مسألة خاطئة، بل هي صحيحة، ولكنها دخلت وتوسع عملها في بعض المناطق، في أتون استمرار سياسة التدمير الشامل التي يقوم بها النظام، ولو توقف النظام لبرهة من الزمن عن دماره اليومي، لذهل العالم بأكمله من سلمية الثورة ومدنيتها وضخامة المنخرطين فيها، ولانسحبت تلك المظاهر منها. هذه هي الحقيقة، وهذه الحقيقة لازمت الثورة في مشمشها الأول بشكل كامل، ولكن وحالما لم يتوقف النظام ببطشه، صار السلاح مكوناً أساسياً من مكونات الثورة.
هناك يسار ماركسي، يؤيد الثورة السورية، ليس في سوريا وحدها، بل في كل دول العالم، وذاك اليسار، وهو يعي جيداً دور الإمبرياليات في الهيمنة على العالم، ويعلم مصالح النظام في دعم المقاومة، ويعلم أن النظام السوري نظام استبدادي يخفي مشروعاً اقتصادياً ليبرالياً، وأن ممارساته الدموية غير المسبوقة بتاريخ الديكتاتوريات هي السبب في كل ما يحدث في سوريا. هذا اليسار لم يتوانَ لحظة عن تأييد الثورة، وعن التنديد بالمشاريع الإمبريالية، وهو ينتقد القوى الأصولية ويرفض كل خياراتها وبرامجها الظلامية، ويقدم مساهماته المستمرة عن برامجه، في ضرورة إسقاط النظام، وبناء دولة حديثة، وللطبقات الشعبية الثائرة دور أساسي في ذلك البناء. إن هيمنتها على الدولة عبر الآليات الديموقراطية هي التي تسمح في بناء اقتصاد صناعي وزراعي حديث، وبناء قوة عسكرية لاستعادة الجولان، ودعم نضال الفلسطينيين بدولة فلسطينية، والتخلص من الصهيونية، واعتماد نظام علماني ديموقراطي.
اليسار الثوري هذا، يندّد بممارسات اليسار المهزوم وسلوكياته، ويرفض تحالفاته مع السلطة، وتبريراته برفض الثورة، وتأييد النظام بحجة المقاومة، أو إن هناك الإمبرياليات تريد إسقاط النظام ــ لو أرادت ذلك لأسقطته منذ الأيام الأولى للثورة ــ أو أن الثورة «سنية» ومدعومة من دول الخليج، ليؤكد أن هذه الثورة شعبية بامتياز، وما دخول أية دولة على خطها إلا لحرفها عن مسارها، ولإطالة عمر النظام، و تأمين نظام قادم يضمن اتفاقيات النظام الحالي على مدى عقوده الكارثية. وبالتالي سيزول اليسار المهزوم مع زوال النظام السوري، وسيكون بإمكان اليسار الثوري أن يستعيد دوره التاريخي، في المقاومة ودعم الديموقراطية ومناهضة الإمبرياليات، ورفض الأصولية وإقامة نظام علماني ديموقراطي، ليس في سوريا، بل في كامل دول المنطقة، وسيساهم في بناء الدول الوطنية لمختلف شعوب المنطقة.
* كاتب سوري