يبدو النقاش الذي تشهده البلاد في موضوع ترحيل الأمن العام اللبناني لبعض السوريين إلى بلادهم نقاشاً سياسياً لا علاقة له بالقانون. قرار الأمن العام بترحيل من انتهت محكوميتهم من السوريين قرار لا تشوبه أي شائبة قانونية. لقد جاء هذا القرار تطبيقاً للقانون اللبناني (م32 أجانب و88 ق.ع.) الذي ينص على وجوب تسليم كل أجنبي للأمن العام بعد تنفيذ الحكم بحقه لكي يعمل هذا الجهاز على ترحيله إلى بلاده، من دون تحديد لمهلة التنفيذ أو كيفيتها، أو حتى من يتحمل كلفة الترحيل. لهذا، رأينا في الماضي كم من الحملات شنت على الأمن العام بسبب إبقائه العديد من الأجانب ـــ من غير السوريين؛ لأن ترحيل السوريين لا يتطلب كلفة ليس بمقدور الأمن العام تحملها ـــ موقوفين لديه من دون ترحيل بسبب كلفة الترحيل جواً أو لافتقارهم إلى الأوراق الثبوتية، إذ لم تحرك دولهم ساكناً لمنحهم تلك الأوراق تمهيداً لترحيلهم.إن قرار ترحيل السوريين أسس لحملة سياسية لم تقتصر تداعياتها على الصراع السياسي اللبناني الداخلي، بل تجاوزتها إلى تدخل دولي فاقع، حتى ولو كان لإهداف إنسانية؛ إذ إن الصحافة اللبنانية أشارت إلى أن ممثل الأمين العام في لبنان السيد ديريك بلامبلي وسفيرة الاتحاد الأوروبي أنجيلينا إيخهورست بعد لقائهما بعض المراجع الرسمية والسياسية صرحا بأنهما لا يزالان غير مقتنعين بالمبررات التي أدت إلى ترحيل السوريين الـ14، وشددا على أن المعاهدة الدولية التي وافق عليها لبنان في 2000 تلزمه عدم التسليم على أساس أولوية القانون الدولي على القانون الداخلي.
أولاً، نقول لأهل السياسة في لبنان: كفى تجريحاً بالمؤسسات اللبنانية، ولا سيما ما يتصل منها بالمؤسسات الأمنية. ونقول للمؤسسات الدولية: صحيح أن أولوية تطبيق القانون الدولي على القانون الداخلي واجبة، لكن بشرط إثارتها أمام القضاء المختص (لأنها ليست من الانتظام العام الذي يمكن القاضي إثارته من تلقاء نفسه)؛ لأن القضاء اللبناني من واجبه تطبيق القانون الوطني، إلا إذا أُثير دفع أمامه من محامي الدفاع، أو المتهم، بوجوب تطبيق المادة 2 من ق.أ.م.م. لكون القانون اللبناني مخالفاً لأحكام المعاهدة الدولية (تقدّم المعاهدة على القانون الداخلي). عندها يمكن القاضي الوطني إعطاء المعاهدة الدولية أولوية على القانون الداخلي. أعتقد أن هذا الكلام واضح لرجال القانون، وها هو حكم القاضي المنفرد الجزائي في جب جنين الصادر بتاريخ 26/6/2012 خير شاهد على ذلك؛ إذ تقيد الأمن العام بهذا القرار، وهنا يتحمل محامي الدفاع دون غيره (أو المتهم نفسه) وزر طلب عدم قانونية تسليم المخلى سبيلهم من السوريين لترحيلهم إلى سوريا، طبقاً للقانون اللبناني. ونحن على ثقة ومن خلال خبرتنا السابقة، بأنّ القضاء اللبناني لم يدرج في حكمه (المتعلق بترحيل السوريين الـ14) أي تدبير بهذا الخصوص مخالف للنص اللبناني الواجب التطبيق من الأمن العام. لذلك على سعادة السفيرة العودة إلى قرارات مجلس الدولة الفرنسية والمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حول قضايا ترحيل الأجانب من أوروبا، والقوانين المطبقة بهذا الشأن.
خلاصة القول: لا يجوز قانوناً، تحميل الأمن العام اللبناني وزر تطبيق القانون اللبناني المتعلق بترحيل الأجانب، ما دامت المسألة لم تثر أمام القضاء المختص لكي يقرر، وقراره ملزم للأمن العام ولغيره من مؤسسات الدولة. وكان الأجدى بالمؤسسات الدولية (التي نحترم) والتي تدعي السهر والحفاظ على حقوق الإنسان، تكليف جمعية من جمعيات المجتمع المدني (ما دامت الأحكام قد صدرت بحق هؤلاء)، الممولة من قبلها ـــ وما أكثرها في لبنان ـــ والتي تتمتع بالشخصية المعنوية تقديم طلب وقف تنفيذ هذا القرار وإبطاله، لمخالفته المعاهدة الدولية الموقعة من لبنان عام 2000. وإذا رفض القضاء اللبناني هذا الطلب، عندها يمكن التسليم بحق الجهات الدولية من التشكيك، بصدقية الدولة اللبنانية في التقيد بتعهداتها الدولية.
ارحموا المؤسسات الأمنية، ولا سيما من الوسط السياسي اللبناني، وكفى تشكيكاً بصدقيتها العملانية، لكونها تسهر على تطبيق القانون. هي تتمتع ببعض الاستنسابية في التنفيذ، وهذا يعتبر من صلب اختصاصها. ولهذا نسأل من يعترض اليوم على قرار الترحيل هذا: ألم يمارسوا يوم كانوا في السلطة ـــ شأنهم شأن من يتولاها اليوم ـــ سلطتهم الاستنسابية بإفراط قلّ نظيره. لبنان توّاق إلى تجسيد دولة القانون، ومؤسساته الأمنية في الطليعة؛ لأن أعمالها لا تقع تحت رقابة المعارضة اللبنانية فقط، بل هي هدف دائم للجهات الدولية، وخاصة في هذا المخاض الإقليمي والصراع الدولي على مستقبل المنطقة، ولا سيما العربية.
نحن مع الحفاظ على سلامة كل إنسان مهما كانت جنسيته، لذلك لا يمكن المزايدة في هذا المجال، لأن حقوق الانسان هي منة الله وحده تعالى، وعلى السلطات أينما وجدت (لبنانية، إقليمية أو دولية) السعي الدائم إلى الحفاظ عليها، وترك المزايدات جانباً.
*أستاذ القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية (الفرع الثالث) والدراسات العليا في الجامعة العربية