الصراع الدولي على سوريا يحتدم. الثورة العسكرية طغت على تلك السلمية. الأحداث تتسارع على وقع المعارك العسكرية. الجيش السوري الحر أصبح «النجم». عملياته النوعية تقلّل الفارق في ميزان القوى مع الجيش النظامي؛ فهو نجح في تسديد ضربة في قمة النظام عبر اغتيال عدد من كبار قادته العسكريين والأمنيين في قلب العاصمة دمشق. وها هو ينجح في نقل المعركة إلى «حلب الشهباء» التي رفضت المشاركة في الثورة السلمية. منذ سبعة عشر شهراً يسعى المعارضون إلى انخراط حلب في الثورة. لم يفلحوا. بقيت ثانية المدن السورية بمنأى عن الأحداث باستثناء بعض التظاهرات الطلابية التي انطلقت في الجامعات أو منها وقُمعت بسرعة. «جمعة حلب»، «حلب الشهباء»، إلى ما هنالك من شعارات أُطلقت منذ بداية الثورة لم «تُغرِ» الحلبيين. لم ينزلوا إلى الشارع. بقي الخوف لدى عامّة الناس والمصالح الخاصة لدى البورجوازيين هما المسيطرين. عذرهم تاريخي. ففي عام 1980 عارض الحلبيون نظام الأسد الأب بالتنسيق مع الدمشقيين. أطلقوا الاعتصامات والإضرابات والتظاهرات... لكن أبناء العاصمة «خانوهم» (بحسب رأي أبناء حلب). علّقوا معارضتهم. إنه دهاء الأسد الأب. أدرك أن تحرّكاً مشتركاً للمدينتين يصعب قمعه أمنياً. فالمدينتان هما الأكبر ديموغرافياً، وغالبية سكانهما من السنّة. والطبقة البورجوازية فيهما تُمسك بالقطاع الخاص الذي كان قد استعاد بعضاً من دوره في الاقتصاد السوري الاشتراكي بعد وصول حافظ الأسد إلى السلطة. استمال هذا الأخير الدمشقيين. واستفرد بالحلبيين. نعِمت دمشق بالهدوء والازدهار. وغرقت حلب في الفوضى. تعرّض أبناؤها لحملة «التخويف» التي مارسها النظام ضد شعبه عبر القتل والسجن والترهيب... وتراجع دور «الشهباء» التاريخي اقتصادياً وثقافياً ودينياً وتجارياً... طوال عقدين من الزمن.
حلب في حكم بشار الأسد مختلفة. لقد عادت مركزاً اقتصادياً وتجارياً وصناعياً مهماً في البلاد. وحتى بداية الثورة، كانت الاستثمارات فيها كبيرة: فنادق فخمة، مجمعات تجارية كبيرة، مطاعم فخمة... والاحتفالات فيها كثيرة: ثقافية، وفنية، وتاريخية... وكانت أيضاً مقصداً للسياح العرب والأجانب. الأسد الابن زارها أكثر من مرّة، على خلاف والده الذي لم يزرها قط، وأقام فيها مدينة صناعية جديدة هي «الشيخ نجار» (إضافة إلى مدن صناعية ثلاث في دمشق وحمص ودير الزور). في عام 2006 كانت «الشهباء» عاصمة الثقافة الإسلامية. لا شك في أن الانفتاح الاقتصادي على تركيا كان له الأثر الكبير في استعادة حلب لدورها المركزي في الاقتصاد السوري؛ فهي عادت نقطة عبور أساسية للتجارة الإقليمية. كذلك تزايد بسرعة عدد المصانع في «الشيخ نجار» بسبب قربها من الحدود التركية. مع بداية الثورة أدرك النظام السوري أن انخراط حلب في الثورة سيغيّر المعادلة لغير مصلحته، فعمل على عزلها. ساعده في ذلك وجود شخصيات حلبية في القيادة مثل مفتي الجمهورية الشيخ أحمد بدر الدين حسون والبورجوازية الحلبية التي لها مصالح اقتصادية ومالية مع النظام ورجالاته. تبدُّل النسيج الاجتماعي في المدينة بسبب النزوح الكثيف إليها، كان مساعداً أيضاً. فالحلبيون الأصليون أصبحوا أقلية. والتضامن العائلي والعشائري، الذي كان أساساً في حراك الشارع في درعا وحمص وحماه ودوما وغيرها من المناطق، تراجع كثيراً في المدينة التي تمدّدت جغرافياً. شعبية الإخوان المسلمين هي أيضاً تراجعت كثيراً منذ أحداث الثمانينيات بسبب السياسة الدينية التي اعتمدها النظام بشكل خاص في حلب.
اليوم المعركة في حلب. لا بل المعركة على حلب. والصراع الدولي في سوريا يتركّز في المدينة نفسها. تصريحات مسؤولي الدول الداعمة للمعارضة تدفع باتجاه منطقة جغرافية تحت سيطرة الجيش الحر. وحلفاء النظام في الخارج (روسيا وايران) يصعّدون لهجة تهديداتهم محذّرين من أي تدخّل خارجي. في الداخل، الجيش السوري الحرّ يضع كل ثقله العسكري للسيطرة على حلب. والنظام يستعين بقوات من محافظات أخرى للدفاع عنها. ويعلن على لسان الناطق باسم وزارة الخارجية، ولأول مرة، أن لديه أسلحة كيميائية وجرثومية وعلى استعداد لاستعمالها في حال تعرضه «لعدوان خارجي» (محتمل في حلب). المعركة استراتيجية لكلا الطرفين.
لماذا؟
أولاً، على المستوى الجغرافي، محافظة حلب على الحدود مع تركيا. سيطرة الجيش الحر عليها ستمكّنه من الصمود فيها (على خلاف معركة بابا عمرو في حمص)؛ لأن ظهره سيكون مؤمّناً من الجهتين الشمالية (تركيا) والغربية (تركيا وإدلب). كذلك سيفتح طرق الإمدادات العسكرية واللوجستية والإنسانية على مصراعيها إلى الثوار عبر المعابر البرية وربما عبر مطار حلب الدولي (إذا ما أُقيمت منطقة حظر جوي ضد النظام). مساحتها الواسعة البالغة 18500 كلم مربّع (أي نحو 10% من مساحة سوريا) كافية لتكون نقطة انطلاق واسعة للأعمال الحربية. كثافتها السكانية البالغة نحو خمسة ملايين نسمة (ربع عدد سكان سوريا) تشكّل خزاناً بشرياً للثورة العسكرية والمدنية. غالبيتها السنّية توفّر بيئة حاضنة للثوار. ساحاتها الواسعة وشوارعها العريضة يمكنها أن تتّسع لتظاهرات مليونية، تفتقر إليها المعارضة السورية منذ بداية الثورة.
ثانياً، يمكن حلب، في حال سيطرة الجيش الحر عليها، أن تكون المنطقة الحرّة التي طالما طالب الأتراك وبعض العرب بإقامتها في سوريا. وستكون المركز السياسي والعسكري للمعارضة. المجلس الوطني السوري وغيره من الجبهات السياسية ستتخذ منها مركزاً. وكذلك الجيش الحر، سينقل قيادته من إقليم هاتاي التركي إليها. السوريون الهاربون من المعارك سيجدون فيها ملجأً. والدول الداعمة للثورة، التي تفتّش عن مكان وصيغة لسلطة سياسية وعسكرية سورية معارضة تعترف بشرعيتها دولياً، ستجد في حلب المكان الملائم لها (على غرار ما حدث في بنغازي في ليبيا). فليس صدفة أن يتزامن بدء المعارك في حلب مع دعوة هيلاري كلينتون المعارضة السورية «أن تستعد للبدء بالعمل على حكومة انتقالية» ودعوة وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس لها أن تشكّل «بسرعة حكومة موقتة تكون ممثلة لتنوّع المجتمع السوري».
ثالثاً، تركيا تدعم سيطرة الجيش الحر على حلب ولا تخشى الوجود الكردي الضعيف. فهو لم يكن بيئة حاضنة لحزب العمال الكردستاني الذي خاض حرب عصابات ضد الجيش التركي بين عامي 1984 و 1998 انطلاقاً من محافظة الحسكة بدعم من نظام حافظ الاسد. وبعيد جغرافياً عن الثقل الكردي جنوب – شرق تركيا.
رابعاً، حلب غنية اقتصادياً (صناعياً وزراعياً)، وفيها إدارات عامة على أنواعها وثُكن عسكرية كبيرة ستسمح للمعارضة، إذا ما أحكمت سيطرتها على المدينة، من تنظيم صفوفها سياسياً وإدارياً وعسكرياً وتوفير الموارد المالية اللازمة لمتابعة نضالها من أجل تسلم السلطة.
لكن هل يمكن الجيش الحر السيطرة على حلب؟ الأمر ليس بهذه السهولة. فالنظام يُدرك أهمية حلب الاستراتيجية في الصراع؛ فهو يستميت في الدفاع عنها. لكن مهمته صعبة. فحلب بعيدة جغرافياً عن مركز القرار السياسي والأمني والعسكري في دمشق. الوجود العلوي شبه معدوم فيها، على خلاف حمص حيث للأحياء العلوية دور في مساعدة الجيش النظامي. والجيش الحر أصبح أقوى من ذي قبل عدّة وعدداً ومعنويات. والدعم الخارجي له في ازدياد مطّرد. لمن تكون الغلبة؟ يجب الانتظار. لكن ليس طويلاً، على ما نعتقد.
* باحث في شؤون الشرق الأوسط،
أستاذ في جامعة الكسليك