يروي تشارلز تيللي، أنّه في اوروبا القرون الوسطى كانت خريطة الدول تتحوّل وتتشكل على وقع سباق تسلّح مفتوح: تقوم امارة ما بتطوير مدفعية قادرة على هدم الأسوار والقلاع، فتهرع الدول المحيطة للاستثمار في تحصينات جديدة تصمد أمام المدافع، وهكذا دواليك. الدول التي تتأقلم، والتي تراكم رأس مال يكفي لتنظيم جيوش فعالة، تصمد وتسود؛ امّا تلك التي تتأخر وتتخلف في السباق «التكنولوجي»، فيجتاحها جيرانها الأقوياء وتُنفى الى صفحات التاريخ. التاريخ البشري كان دائماً يشبه الساحة الاوروبية في القرن الخامس عشر، وان كانت وتيرة الصراع أبطأ أو أسرع بحسب الحقبة. بعد الحرب العالمية الثانية، كان منظرو السياسة الدولية في الغرب يتعاملون مع العالم من هذا المنظور: كيف تحوّل القوة الاقتصادية والسياسية الى تفوق نوعيّ على خصمك في ميدان القتال؟ هنري كيسنجر، مثلاً، كان بالكاد يعرف شيئاً عن الاقتصاد والنفط، وكان يعتبر أنّ هذه الأمور هي مجرد أدوات يستعملها صانع السياسة ولا يحتاج للغوص في دقائقها. بالمقابل، كان كل تركيزه منصباً على الدسائس الدبلوماسية وكيفية تركيب الصواريخ البالستية على الغواصات. لهذا السبب بالذات، تردد نيكسون طويلاً في جعل كيسنجر ــ مستشار الأمن القومي ــ وزيراً للخارجية، وهو المنصب الذي سعى اليه طوال حياته. كان طاقم الخارجية الاميركية يمانع بشدة أن يتسلم كيسنجر الوزارة لقلّة معرفته واهتمامه بالاقتصاد، ونيكسون لم يعيّن كيسنجر وزيراً الا مضطراً، حين هدد بالاستقالة وادارة الرئيس الاميركي تمزّقها فضيحة «ووترغايت». العلاقات الدولية هي حالة حرب، والحرب هي سباقٌ مستمرّ لتحقيق التفوّق النوعي على الخصم. «حروب التحرير الوطني»، التي شهدها العالم الثالث في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، ستبقى ذكراها مرتبطة برشاش الـ«كلاشنيكوف» وقاذف الـ«ار بي جي». هذان السلاحان، اللذان انتجهما الاتحاد السوفياتي بكثافة ونشرهما في كل العالم، من بوليفيا الى عُمان، سمحا لشعوب فقيرة وميليشيات هزيلة بمقارعة جيوش استعمارية حديثة، وشكّلا وسائل رخيصة ومتوافرة لالغاء «التفوق النوعي» الغربي. الدول الغربية تتجنب دوماً القتال في ظروفٍ متكافئة، وتحاول أن تكون المواجهات في اطارٍ يتوفر لها فيه التفوق النوعي. المثال الأفضل لهذه الحروب «المريحة» كانت حروب الزولو والحروب الاستعمارية في الهند، حين كان بوسع وحدات بريطانية صغيرة اخضاع ممالك وامبراطوريات بقوة «التفوق النوعي» العسكري. تمكن جيش مملكة الزولو، في 1879، من الحاق هزيمة يتيمة بالبريطانيين في معركةٍ شجاعة كلّفتهم خسائر مرعبة، لكن المقاومة كانت عبثية: ان ارسال جنود يحملون الرماح ضدّ طوابير مسلّحة بالبنادق ليس استراتيجية مثمرة على المدى الطويل. بالمعنى نفسه، حرب العراق في 1991 كانت تشبه حروب الزولو، حيث يكون التفوق النوعي ساحقاً ويصير سيد الموقف. الاميركيون استعملوا ضد العراق الأسلحة والتقنيات التي كانوا يخبئونها لحرب عالمية ضد الاتحاد السوفياتي. العراقيون، مثلاً، كانوا لا يملكون سلاحاً قادراً على خرق الدبابات الاميركية، حتى لو اصابوها بمدافع دباباتهم وصواريخهم. ألوية الجيش الاميركي شقّت الصحراء مسترشدةً، لأول مرة في التاريخ، بتقنية الـGPS، فتمكنت من تجنب الدروب والمعابر التقليدية والالتفاف على الجيش العراقي كيفما شاءت.

«وهم الامبريالية»

الحديث عن الحرب اللامتكافئة والعراق يعيدنا دوماً الى موضوع الامبريالية. هناك عادةٌ مكربة صارت رائجة بين المثقفين العرب: هم لم يعودوا يحاولون اقناعنا بأن «الامبريالية» هي وهمٌ وخرافة ونظرية مؤامرة، كما كانوا يفعلون في التسعينيات، بل صارت لديهم حججٌ جديدة أتحيّر في ما قد يكون رد فعل المفكر الكبير سمير امين عليها لو انّه سمعها تقال بلسان عربي. مثقفو الخطاب المهيمن يقولون لنا إنّ الامبريالية موجودة وبشعة، ولكنّها «ليست كل شيء». هذا بديهي بالطبع، ولكن ما يقصدون قوله فعلياً هو إن «الامبريالية» هي مفهومٌ له ركنٌ معين في قائمة اهتماماتنا، وبامكاننا «عزله» عن باقي المواضيع ومناقشة المسائل الوطنية بعيداً عنه. أي أنه بامكاننا، مثلاً، أن نركن السيادة الوطنية والغزو الخارجي والصراع مع اسرائيل جانباً بينما نقرر مصائر لبنان وسوريا وفلسطين.
المحزن في خطاب هؤلاء هو أنّهم لا يحاولون الاحتجاج على المفهوم الرائج لـ«الامبريالية» أو تعديله أو تحديثه، على العكس، هم يقبلون على الفور بأكثر التعريفات كلاسيكية للـ«امبريالية» ويضجروننا (كلهم) بترداد أقوال لينين عن الموضوع، كأن شيئاً لم يجدّ في المسألة منذ أيامه. هم همّهم «عزل» المفهوم وتطويقه، لا النقاش فيه، ومرادهم أن يقنعونا بأنّه يمكن «اخفاء» حربٍ أو مواجهة ــ أو تأجيلها للمرحلة التاريخية المقبلة ــ ما أن نأخذ قراراً ذهنياً بذلك. ما يُحزن أكثر هو أنّ هؤلاء يملكون مفهوماً بالغ الغرابة (والرثاثة) عن هذه «الامبريالية»، فهي بالنسبة لهم تتمدد بلا وازعٍ حتّى تضمّ اميركا والسعودية والنفط والاقتصاد والاعلام، أي باختصار، كل المواضيع التي تمنعهم مؤسساتهم أو طموحاتهم من الكلام عليها بحرية، فيضعونها في رزمة واحدة يسمونها «امبريالية»، ويقررون أن نقاشها غير مجدٍ في الفترة الحالية.
هؤلاء الكتاب ذاتهم تراهم، في خضمّ كلّ القضايا المصيرية التي تحاصرنا، يكرّسون مقالات كاملة لنقد «اليسار» أو «اليسار الممانع»، وأنا لا أفهم تماماً ما تعني هذه الصفات، فهي لا تحيل الى قوى سياسية أو حركات اجتماعية، بل الى أفراد معدودين، أكثرهم كتّاب واكثرهم لبنانيون. بمعنى آخر، مثقّفو المؤسسة يطلبون منا أن نضع «الامبريالية» جانباً وأن نركز على أسعد ابو خليل. والبعض يحاول أن يستحضر عنصر الدهاء، فيذكرنا بأنّ «روسيا أيضاً امبريالية» ويقارن اميركا ومنظومتها العالمية بروسيا وتأثيرها. هذا كلامٌ لا يقوله انسانٌ يعرف شيئاً عن موازين القوى ومقاديرها في هذا العالم. روسيا اليوم هي أشبه ما تكون بشيخٍ يسعى للتحضير لتقاعدٍ مريح بفضل عوائد النفط والغاز والمعادن، فيما يؤمن لها الارث السوفياتي والترسانة النووية امكانيةً محدودةً للدفاع عن سياسة مستقلة على المسرح العالمي. وروسيا، فيما عدا الثروات الطبيعية التي تستخرجها من باطن أرضها، لا تنتج شيئاً ذا قيمة تذكر. سكانها يشيخون ويتناقصون عاماً بعد آخر، وأقصى طموحها هو أن تحافظ على وحدة أراضيها، وألّا تحاصرها، في كل بلدٍ مجاور، المطارات والصواريخ الاميركية. الموازنة العسكرية الروسية، بالمناسبة، هي أقل من عُشر مثيلتها في أميركا، والاقتصاد الروسي أصغر بكثير من الاقتصاد الالماني.
بالمقابل، فانّ أي مقاربة واعية لموقع منطقتنا في النظام العالمي ستذكّرنا بالأساسيات: نحن نعيش في عالمٍ شرس، والسيادة الوطنية والاستقلال هي امتيازاتٌ ننتزعها ونحافظ عليها بالقوة، وهي ليست «حقوقاً» تضمنها الشرائع والقوانين. لنفس الأسباب، نحن لن نتمكن من أن نستقلّ وأن نبني مشاريع على مستوى البلدان الصغيرة المعوّقة: امّا أن ننهض معاً كمنطقة وضمن تحالفات اقليمية، أو أن نُهزم ونُخضع معاً. هذا بالضبط هو ما يجعل سياسات دول الخليج اشكالية وكارثية، لا لأن ممالك النفط تبغي الهيمنة بل، على العكس تماماً، لأنّها تريد «ادارة الموقف» في المنطقة من بعيد، بدون شراكة حقيقية، بل إن الهدف الأساس من السياسات الخليجية هو ابقاء العزلة بين أقاليمنا والحفاظ على الوضع القائم ومنع تغييره. انت، كعربي مشرقي أو مصري، يمكنك أن تعمل لصالح حكومات الخليج، بل أن تقاتل لأجلها، وتموت في سبيل سياساتها، ولكنها لن ترضى، بأي حالٍ من الأحوال، بعقد شراكة سياسية حقيقية معك، أو حتى أن تساويك بالمواطن النيوزيلاندي (أو أيّ غربي «ابيض» آخر) وتسمح لمواطنيك بالدخول الى أراضيها بدون تأشيرة وكفيل.

التكنولوجيا والعدد

كلّ حربٍ هي، بالضرورة، حربٌ غير متكافئة اذ لا توجد معركة يكون طرفاها متساويين تماماً في القوة. هناك دوماً طرفٌ أضعف يسعى إلى اللحاق بخصمه وتدبير الوسائل من أجل ابطال تفوّقه. وعناصر التفوق في الحرب ليست محصورة بالتكنولوجيا. المانيا النازية كانت تملك، خلال الحرب العالمية الثانية، التكنولوجيا الأفضل بلا منازع والجيوش الأكثر تدريباً. لم تكن صناعة الحلفاء قادرة على انتاج دبابة تنافس «التايغر» الالمانية، واحدة بواحدة؛ ولو وجدت فرقة اميركية أو روسية نفسها في وجه فرقة المانية خلال الحرب، لالتهم الالمان خصومهم بسهولة. ما فعله الحلفاء هو أنهم ركزوا على عناصر تفوقهم: العدد والانتاج (مع اعتماد تقنيات التصنيع «الفوردي» في المجال العسكري). كانوا يضعون فرقتين أو ثلاث فرق في مواجهة كل فرقة المانية، وفي حين كانت المانيا تنتج دبابات «تايغر» بالعشرات كلّ شهر، كان الاميركيون يصنعون دبابات «شيرمان» بالآلاف. في ريف فرنسا في 1944، تمكّن ضابط «اس اس» الماني يقود دبابة «تايغر» من تدمير دزينتي دبابات حليفة خلال ساعات، لكن وقود مركبته نفد في آخر النهار، وكان الأعداء كثر ــ هذه القصة تختصر حال الجيش الالماني في أواخر الحرب.
حتى سباق التسلح خلال الحرب الباردة لم يكن متكافئاً: لا يظنن أحد أن الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي كانا قطبين متساويين في الحجم والقدرات. السوفيات كانوا يواجهون العالم الرأسمالي المتقدّم بأكمله، وقد قضوا عقود الحرب الباردة وهم في حالة «لحاق» مستمرّ بالاميركيين ــ عسكرياً واقتصادياً. هذا يظهر بنحو واضح في السياسة التسليحية للجيش الأحمر: الاميركيون يسيطرون على المحيطات بحاملات طائراتهم، فيركّز الروس على سلاح الغواصات، الغرب يتفوق على الصناعة الروسية في تكنولوجيا الطيران، فينهمك السوفيات في تطوير أنظمة الدفاع الجوي الخ... في نهاية الأمر، انهار الاقتصاد السوفياتي تحت وطأة الجهود المحمومة لمنع الغربيين من التأسيس لـ«تفوق نوعي» في الميدان. حين تواجه عدواً أقوى منك، فانّ أوّل شروط الحرب اللامتكافئة هي ألا تحاول تقليد عدوّك أو اللعب في ملعبه. هذا تبدّى بوضوح في المواجهة الجوية بين السوريين والاسرائيليين فوق سهل البقاع في 1982، وهي كانت حافلة بالمغازي. ما حدث هو أنّ اسرائيل ادخلت الى الساحة تقنيات تشويش وحرب الكترونية لم تكن قد استعملت في أي مسرح حربي من قبل. دخلت وحدات الدفاع الجوي السوري وراداراته في المواجهة وهي مسلّحة بمعدات ميكانيكية، في حين أنّ اسرائيل كانت قد دخلت العصر الرقمي. اميركا لم تعط حتى حلفاءها الاوروبيين في الـ«ناتو» وسائط الحرب الالكترونية التي زودت بها اسرائيل. بصياغة أخرى: لو حصلت الحرب العالمية الثالثة في 1982، واجتاح الاتحاد السوفياتي اوروبا، لما واجه السوفيات فوق سماء فرنسا والمانيا الغربية التقنيات التي شاهدناها في سهل البقاع. مواجهة البقاع كانت ايذاناً بجيلٍ جديدٍ من الحرب الجوية وبشروط مختلفة عن الماضي. يقول أحد المحللين العسكريين إنّ الصناعة العسكرية الغربية نجحت في تحويل الحرب الى منافسةٍ لا حدود لها في مراكمة الرأسمال والتكنولوجيا ــ وهو الميدان الذي كان الـ«ناتو» يملك فيه الأفضلية. لم تعد الحرب الجوية متعلّقة بأن تصمم طائرة «جيّدة»، تطير بسرعة وتناور، وأن تضع عليها رادارات وأسلحة متطوّرة. بل صارت المنافسة هي في «البنية التحتية» الهائلة (والبالغة الكلفة) التي تحيط بهذه الطائرة: طائرات الاواكس، معدّات الحرب الالكترونية، طائرات التشويش، طائرات التزويد بالوقود، وسلسلة معقّدة من معدّات الدّعم، كلّها مرتكزة على تكنولوجيا مستقبلية وتكلّف مبالغ لا تصدّق. الحرب الالكترونية وتقنيات ضرب دفاعات الخصم SEAD صمّمت كي تمنع تكرار سيناريو فييتنام وحرب 1973، حيث حرمت الصواريخ الروسية الجيوش الغربية من «التفوق النوعي»، وأجبرتها على خوض الحرب بشروط شبه متكافئة. أضحى استعمال الأجيال القديمة من صواريخ «سام» ضد الطائرات الغربية شبيهاً باستعمال رماح الـ«زولو» ضدّ بنادق البريطانيين.
في البيت الأبيض، عاد تلامذة كيسينجر الى الحكم، وهم، كأستاذهم، وظّفوا الاقتصاد في خدمة السّلاح. ادخلوا الاتحاد السوفياتي في سباق تسلّحٍ لا قبل له به، وعصروه حتّى انكسر. كادت الزيادة الهائلة في الميزانية العسكرية الاميركية بالثمانينيات ــ في عزّ الركود الاقتصادي ــ أن تفلس اميركا، وهي غيّرت بنية اقتصادها الى الأبد، ولكنّها أسقطت الاتحاد السوفياتي. مواجهة البقاع كانت ايذاناً بفلسفة «حروب الجيل الرابع»، التي اتقنتها الجيوش الغربية وطبقتها في العراق ويوغوسلافيا وأفغانستان وليبيا، حيث صار بالامكان خوض حملاتٍ كاملة باالاعتماد على سلاح الجوّ، وغزو بلاد وتغيير أنظمة في حروبٍ بلا ضحايا (غربيين). عدنا، اذاً، الى سيناريو «حروب الزولو».

ما بعد الحداثة تهزم الجيش الاسرائيلي

لا تستطيع أي دولة (أو تجمع دول) أن تنافس الاميركيين في ميدانهم وأن تبني جيشاً على شاكلة الجيش الاميركي. حتى الدول الاوروبية الغنيّة صارت تقلّص جيوشها وتتخلّى عن أوهام الدفاع الذاتي لأنّ كلفة المعدّات الحربية الحديثة صارت لا تطاق. الجيش البريطاني سينكمش الى أقلّ من مئة ألف عنصر بعد سنوات قليلة، والامارات العربية المتحدة لديها من الطائرات القتالية الحديثة أكثر مما لدى ايطاليا واسبانيا. الّا أنّ درس الحرب اللامتكافئة هو أن لكل استراتيجية استراتيجية مضادة، ولو حقّق الخصم تفوّقاً عليك في مجال ما، فعليك أن تضربه في مكان آخر. درس صدّام حسين، الذي تعلّمه اليوغوسلاف والصينيون والايرانيون، هو أن لا تحاول مواجهة جيشٍ غربي بجيشٍ تقليديّ يشبهه. التطبيق الأكمل لهذا الدرس كان في جنوب لبنان في 2006، وبعدها انتشر مصطلح «الحرب الهجينة».
الجيش الاسرائيلي دخل المعركة وهو يتصوّر أنّه يخوض حرباً من نمط الحملات الاستعمارية، حيث «التفوق النوعي» يسحق الخصم قبل أن تبدأ الحرب. جيش البرّ الاسرائيلي دخل الحرب وهو يعتمد أغرب فلسفة قتاليّة يمكن تصوّرها، وهي تفترض انّ اسرائيل ستواجه، الى الأبد، خصماً مهلهلاً ومجتمعات متخلّفة لا تملك ثقة بنفسها. في تموز 2006، كان الجيش الاسرائيلي يعتمد بشكلٍ رئيسي على عقيدتين قتاليتين، الأولى مختصّة بسلاح الجو واسمها «العمليات المرتكزة على التأثير» (EBO). دان حالوتس كان من مصممي نظرية الـEBO وهو أشرف على تطبيقها في سلاح الجو قبل أن ينتقل الى رئاسة الأركان. والنظرية «تقليدية» بمعنى أنّها مستوحات من العقيدة القتالية الاميركية التي طوّرت بعد حرب الخليج الثانية، وهي تركّز على عمل سلاح الجو كوحدات «تأثير» مستقلّة عن سلاح البرّ، وأن يصير هدفها الأساسي هو توجيه ضربات استراتيجية في عمق الخصم، بدلاً من أن تكون مجرّد ملحق بالجيش مهمته حماية وحداته. أمّا فلسفة سلاح البرّ، فقد أطلقت جدالاً لم يخمد الى اليوم. النظرية حتّى اسمها معقّد وعصيّ على الترجمة «Systemic Operations Design SOD» ــ ومن هنا تبدأ المشكلة. الكتيّب الذي يشرح النظرية لم يفهمه أحد من قادة الألوية، كما قالوا هم في ما بعد. وهو مملوء بتعابير نظرية وجمل فلسفيّة لا يمكن استيعابها من قبل من لم يدرس الفلسفة الاوروبية الحديثة. أحد الجنرالات الذين صاغوا العقيدة، شيمون نافي، أعطى مقابلة صحافية بعد الحرب حاول فيها تبرير فلسفته ولوم الجنرالات «الاغبياء» و«المحدودين» الّذين لم يفهموا عليه. على ما يبدو، وقع شيمون نافي ورفاقه في حبّ الفلسفة الاوروبية القارية، وانهمكوا في قراءة ميشال فوكو ودريدا، ثم حاولوا صياغة عقيدة قتالية مرتكزة على هذه المعرفة «ما بعد الحداثية».
نظريّة الـSOD لا تشبه أية عقيدة قتالية أخرى. هي تنطلق من مقولة انّ «الواقع» نسبي، وانّ هدف الجيش الاسرائيلي هو التحكّم بتصوّرنا عن «الواقع» وجعلنا نفقد الثقة بما نعتبره واقعاً. الترجمة العملية لهذه الأفكار صعبة وغريبة، حتى لو فهمها القادة العسكريون، ولكنّها، لو شئنا تبسيطها واختصارها، تقول بأنّ الاسرائيليين سيهزموننا بأن «يضحكوا علينا» ــ ثم نشبت الحرب وحصل ما حصل.
أثبتت مواجهة 2006 انّ الحرب ضدّ جيشٍ متقدّم ممكنة، وان كانت غير متكافئة، لكنّ ظروفها صعبة وكلفتها عالية. عليك أن تتكئ على نقاط قوّتك، وأن تكون مستعدّاً، اذا فُرضت المواجهة، لتلقّي الخسائر، وقادراً ــ في الآن ذاته ــ على ايجاع الخصم. هذه، باختصار، هي استراتيجية الدول التي تستعدّ لحروبٍ مع جيوش غربيّة، كالصين وايران. كلّما ازدادت قوّة الردع تقلّص التفوق النوعي وصار بالامكان فرض معادلات جديدة. ايران، مثلاً، تصنع الصواريخ لأنّها بديل رخيص عن سلاح الجوّ. الصواريخ، ما أن تدفع الرأسمال اللازم لتطويرها وبناء خطوط انتاجها، تصبح رخيصةً للغاية وبالامكان انتاجها بكميات كبيرة. هناك وسائط مضادّة، لكن الايرانيين يحسبون الموضوع على الشكل التالي: اذا كان في اسرائيل اربع بطاريات «آرو»، تحوي مجتمعة 65 صاروخاً جاهزاً للاطلاق، ومثلها بالامكان تلقيمها خلال نصف ساعة، فعلى الموجة الأولى أن تتشكّل من مئتي صاروخ. واذا صارت هذه الصواريخ دقيقة التوجيه، يصبح تأثيرها مختلفاً بالكامل وتتغيّر المعادلة، واذا تمكّنت ايران من الصمود لعشر سنين أخرى، فهي ستتقن صناعة الصواريخ الجوالة، وعندها تتغيّر المعادلة من جديد... الحرب دوماً هكذا: سباقٌ على التفوّق. لو كانت المقاومة في لبنان محتفظة بأسلحة وتكتيكات الـ2006، لكانت اليوم هدفاً سهلاً أمام اسرائيل، الطرفان في سباق يومي، ومن يجمد في مكانه يتخلّف ويتعثّر.

خاتمة

الفارق الأساسي بين تجربة «حزب الله» وتجربة حركة فتح يبيّنه كتاب ليزيد صايغ عن منظمة التحرير الفلسطينية. ياسر عرفات، كما يستخلص الصايغ، لم يأخذ يوماً الصراع العسكري على محمل الجد، ولم ينظر الى الكفاح المسلح على أنّه غاية في ذاته وسبيل أوحد للتحرير، بل كان يعتبر أن العمل العسكري ما هو الا «اداة» للوصول الى حلّ تفاوضي. كان «ابو عمّار» ابناً وفياً لجيله، وصل مبكراً الى قناعة بأنّ الحرب ضد اسرائيل غير ممكنة، وأنّ العودة لفلسطين لن تكون عبر تغيير المعطيات على الأرض، بل عبر الوصول الى ترضية مع عواصم النفوذ في العالم. تروي شهادات متعددة أنّه، حتى في حمأة حصار بيروت في 1982، كان ابو عمّار يبحث في كيفية لاستثمار الأحداث من أجل نيل مقعدٍ تفاوضي مع الاميركيين والاسرائيليين.
حجّة من يتجنب الحرب مفهومة، ولكن ماذا تفعل حين تُفرض المواجهة عليك فرضاً؟ هناك نزاعات يمكن تجنّبها، بل والتنازل فيها، وهناك مواجهاتٌ أخرى لا يمكن الفرار منها. حين يكون استقلالك أو وجودك على المحكّ، لا تعود الهزيمة خياراً ولا يكون الاستسلام متاحاً. ان كنتم تخافون كثيراً من الموت فاسألوا من عاش تحت الاحتلال، هناك أمورٌ كثيرة أسوأ من الموت ومن يخف من الموت كثيراً لا يمكنه أن يعيش حياةً جيدة: الذّلّ يمكن أن يكون أسوأ من الموت، حياة ملؤها الظلم هي أسوأ من الموت، والهزيمة، في حالات كثيرة، تكون أسوأ من الموت.
* طالب دكتوراه علوم سياسية،
جامعة كاليفورنيا ــ بيركلي