منذ أكثر من قرن خلى، وتحديداً في آذار/مارس عام ١٩١٠، وأثناء زيارة لمصر القابعة آنذاك تحت الاحتلال البريطاني، خطب الرئيس الأميركي السابق ثيودور روزفلت، الذي كان قد ترجّل لتوه عن كرسي الرئاسة، td المصريين بشأن مسألة الاستقلال والحكم الذاتي من منبر الجامعة المصرية (جامعة القاهرة لاحقا)، والتي كانت قد أنشئت حديثا في حينها. ولإقناع جمهوره بحججه، قدم روزفلت في سياق خطابه المعنون «القانون والنظام في مصر» أمثلة من الثقافة العربية شملت أمثالا عربية واقتباسات قرآنية على حد سواء. وأعلن رأيه، المتفِق بأسسه مع وجهات النظر الامبريالية والعنصرية، للورد كرومر (القنصل البريطاني العام لمصر وحاكمها الفعلي حتى عام ١٩٠٧)، وقد جاء فيه:«إن عملية تدريب أمة من أجل تجهيزها بنجاح لتحقيق الواجبات التي يتطلبها الحكم الذاتي هي مسألة لا يمكن إنجازها في عقد أو عقدين من الزمن، بل تحتاج إلى أجيال. ثمة إمبريقيون أغبياء يعتقدون أن منح دستور على ورق، يسبقه إعلان رنان، يمكنه في حد ذاته أن يمنح سلطة الحكم الذاتي لشعب ما. بيد أن الأمور لا تسير على هذا النحو ابداً، فليس بمقدور أحد أن «يعطي» شعباً «حكما ذاتيا».. أنتم تعرفون المثل العربي القائل، «إن الله يساعد الذين يساعدون أنفسهم». إن الصفة الرئيسة التي يجب على أي شعب التحلي بها هي التريث وعدم التسرع في الاستحواذ على سلطة غالبا ما سيساء استخدامها. بل اتباع خُطى بطيئة وثابتة وحازمة لتنمية تلك الصفات الجوهرية التي بها فقط يمكن للناس أن يحكموا أنفسهم، كحب العدل، والتعامل بصدق، وروح الاعتماد على النفس، والاعتدال،.. عندما كنت مؤخرا في السودان سمعت مثلا دارجا يستند إلى نص في القرآن الكريم، وهو ينطبق على سياقنا هذا لدرجة أني سأحاول، على الرغم من أني لست باحثا متخصصا في اللغة العربية، أن أستشهد به باللغة العربية: {إن الله مع الصابرين إذا صبروا}»..
وعلى الرغم مما أثاره هذا الخطاب من سخط لدى الجمهور والمسؤولين في الجامعة والصحافة المصرية، فقد وصف السكرتير الشخصي لروزفلت والمرافق له أثناء رحلته، لورانس ف. أبوت، الذي قدم لمجموعة خطب روزفلت المنشورة، ردة فعلهم بطريقة مختلفة. فقد أشار في الهامش الوحيد الذي ألحقه في الخطاب إلى أن «هذا النزر اليسير من اللغة العربية، الذي لفظه السيد روزفلت بإتقان، فاجأ وأثار إعجاب جمهوره بنفس القدر الذي كانت معرفته بحياة وكتابات ابن بطوطو [كما في الأصل] مفاجأة سارة لشيوخ الجامعة الإسلامية [الأزهر] قبلها بيومين. وقد قوبل استخدام السيد روزفلت للسان العربي وضربه للمثل بتصفيق حاد وطويل». وفي سبيل تكريس الاستعمار البريطاني وقطع الطريق على استقلال مصر، لم يقم روزفلت بحشد المأثور اللاهوتي فحسب، بل قدّم المثال الأميركي للتسامح كنموذج ينبغي على البلدان الإسلامية اتباعه. ففي سياق تعليقه على العلاقات بين المسيحيين والمسلمين في مصر عقب اغتيال رئيس الوزراء المصري بطرس غالي، المتعاون مع الاحتلال البريطاني، على يد مصري وطني لأسباب وطنية غير طائفية، أصر روزفلت على عزو الاغتيال إلى دوافع طائفية، وبناءً عليه فقد وجد من واجبه أن يقدم لجمهوره المصري درسا في التسامح الأميركي، فقال: «لدينا في بلدي، في الفيليبين [الخاضعة آنذاك للاحتلال الأميركي]، مسلمون ومسيحيون. ونحن لا نقبل ولو للحظة واحدة أي اضطهاد من جانب طرف للآخر، أو أي تمييز من قبل الحكومة في ما بينهم، أو عدم تقديم العدالة ذاتها لكل منهما، ومعاملة كل رجل منهم حسب قدره كرجل، والتعامل معه كما يتطلب سلوكه ويستحق».
يبدو هنا وكأن روزفلت كان يشير إلى المجازر الدائرة آنذاك لمئات الآلاف من الفيليبينيين على يد الجيش الأميركي في وقت خطابه (والتي ارتُكب أغلبها خلال فترة حكمه)، والتي في الواقع لم تكن تميز بالفعل بين الفيليبينيين على أساس ديني. وحيث إن كلاّ من المسيحيين والمسلمين الفيليبينيين قاوموا الاحتلال الأميركي والحملة الأميركية «للتهدئة وإحلال السلام»، أو Pacification Campaign، في الفيليبين أثناء رئاسة روزفلت (١٩٠١-١٩٠٩)، والتي أعقبت الحرب الأميركية ــ الإسبانية (١٨٩٩-١٩٠٢)، انطلاقا من عام ١٩٠٢ وحتى عام ١٩١٣، فقد قام الجيش الأميركي باستهدافهما على حد سواء ومن دون تمييز. وكان المثال الأكثر هولا على أعمال العنف الوحشية التي تعرض لها المسلمون الفيليبينيون من قبل القوات الأميركية هو مذبحة «كريتر مورو» التي ارتكبت في شهر آذار/مارس ١٩٠٦ عندما تم ذبح مئات المسلمين، وبينهم عشرات النساء والأطفال. وكان الجنرال الأميركي ليونارد وود، قائد القوات الأميركية في حملتها الدموية، والذي عُين حاكما لإقليم مورو منذ عام ١٩٠٣ وحتى عام ١٩٠٦ (وأصبح في وقت لاحق الحاكم العام للفيلييبين)، قد دعا إلى إبادة جميع المسلمين الفيليبينيين لأنه اعتبرهم «متعصبين». وقد بعث روزفلت له رسالة تكريمية بعد ارتكابه للمجزرة: «أهنئكم، وأهنئ الضباط والرجال تحت قيادتكم، على هذا الانجاز المسلح الشجاع والباسل حيث كرمتم، أنت وهم، ورفعتم شرف العلم عاليا». من الواضح أن تلقين روزفلت المسلمين المصريين درسا في التسامح لم يكن نابعا من قلقه من عدم تسامح الإمبريالية الأميركية في سياساتها الخارجية أو داخل الولايات المتحدة في عام ١٩١٠ نحو المسيحيين غير البيض أو غير المسيحيين على حد سواء، وإنما كان تعبيرا صريحا عن الغطرسة الإمبريالية. وقد أسرَّ روزفلت في وقت لاحق لأحد الصحافيين: «لقد كان خطابي في القاهرة ممتازا. كان ينبغي عليكم أن تروا وجوه أولئك الزنوج وأنا أؤنبهم [وهنا استخدم روزفلت تعبيرا عنصريا يستخدمه البيض لإهانة الزنوج هو «الفزي وزيز»، أو «Fuzzy Wuzzies»، لوصف المصريين]. كانوا يتوقعون أن أقوم بتوزيع الحلوى عليهم، ولكنني قدمت لهم العصا الغليظة. وعندها أخذوا يتلوون، يا سيدي، يتلوون».
وبعد مرور قرن على خطاب روزفلت في جامعة القاهرة، وتحديدا في حزيران/يونيو ٢٠٠٩، ها هو الرئيس الأميركي باراك أوباما يقف في حرم ذات الجامعة ليلقي خطابا في جمهور تجاوز جمهور روزفلت من المصريين، ليستهدف «العالم الإسلامي» بأكمله. وسيراً على خطى روزفلت، لم يفت أوباما الاستشهاد في خطابه بالقرآن ثلاث مرات، وإلقاء التحية على جمهوره باللغة العربية قائلا: «السلام عليكم». وشأنه شأن روزفلت، ساق أوباما تبريرا لاهوتيا للسياسة الأميركية التي يرعاها في المنطقة، والمتمثلة بفرض صيغة سلام بين الفلسطينيين وبين الإسرائيليين تكرس الاستعمار والاحتلال اليهودي على حساب الحقوق الفلسطينية. ولإقامة حجته، تحدث أوباما عن كيف أن «الأرض المقدسة في الأديان الثلاثة العظيمة هي مكان للسلام الذي أراده الله لها أن تكونه، عندما تصبح مدينة القدس وطنا آمنا ودائما لليهود والمسيحيين والمسلمين، ومكانا يمتزج فيه جميع أبناء إبراهيم بسلام كما جاء في قصة الإسراء [المذكورة في القرآن]، عندما أقام الأنبياء موسى وعيسى ومحمد الصلاة معاً». وطرح أوباما هذا ليس إلا تعبيرا واضحا عن الرؤية الأميركية، المتطابقة مع المزاعم الصهيونية، التي ترى أن المقاومة التي واجهها ويواجهها المستعمرون اليهود في فلسطين ليست سوى نتيجة كونهم يهودا وليست لكونهم مستعمرين، وهو ما حدا بأوباما إلى دعوة جمهوره غير مرة إلى التسامح الديني والطائفي من أجل السلام.
وقد أعلن أوباما أيضا في خطابه عن عدد من المشاريع التعاونية بين الولايات المتحدة وبين الدول ذات الأغلبية المسلمة، وقد تمثل أحد هذه المشاريع بـ«جهد عالمي جديد بالتعاون مع منظمة المؤتمر الإسلامي للقضاء على مرض شلل الأطفال». ولا نعرف إذا ما كان أوباما قد لمّح إلى مسؤولين في إدارته أو أسرَّ إلى صحافيين أميركيين بتعليقات (غير قابلة للنشر) بعد خطابه، يعتبر فيها جمهوره حفنة من «الفزي وزيز» أو»Fuzzy Wuzzies»، لكن أعماله اللاحقة عبّرت بصوت أعلى من كلماته، وبالفعل جعلت الكثير من المسلمين «يتلوون». فحملته «التعاونية» في مجال مكافحة مرض شلل الأطفال هي ذات المشروع الذي استخدمته وكالة الاستخبارات المركزية بعد ذلك بعامين في أيار/مايو ٢٠١١ لاعتقال وقتل أسامة بن لادن في باكستان من خلال تنظيم حملة تطعيم وهمية ضد شلل الأطفال. ولا ينظر الكثير من المسلمين لهذه الحملة الوهمية على أنها شكل من أشكال التعاون، بل على النقيض من ذلك، فقد عرَّضت الحملة، التي أنيطت بطبيب باكستاني، حياة مئات الآلاف من الأطفال المسلمين في أفغانستان وباكستان للخطر، بسبب فرض الحظر على التطعيم من قبل حركة طالبان لاحقا، ورفض العشائر الباكستانية السماح للأطباء بتطعيم الأطفال مخافة أن يكون الأطباء عملاء للاستخبارات المركزية الأميركية.
ومثله مثل روزفلت، تحدث أوباما أيضا عن أهمية التسامح الديني من قبل المسلمين تجاه مواطنيهم المسيحيين المصريين واللبنانيين، في حين وعد بإنهاء التمييز الممأسس الذي يمارس بنشاط منذ هجمات ١١أيلول/سبتمبر ضد المسلمين الأميركيين في الولايات المتحدة، فيما برر عمليات القتل الأميركية الجارية والحملات العسكرية في أفغانستان وباكستان (وقد فاته إضافة اليمن إلى قائمته)، ولكن ليس في العراق، على أنها ضرورية. وهذه دول قامت إدارة أوباما وتقوم بقتل مواطنيها المسلمين بقصف عشوائي مستمر، بالإضافة إلى استهدافها لمواطنين مسلمين أميركييين قامت إدارته باغتيالهم. ومن ثم أعلن أوباما إندونيسيا نموذجا للتسامح يجب الاحتذاء به من العالم الإسلامي: «رأيت بنفسي هذا التسامح عندما كنت طفلا في إندونيسيا، إذ كان المسيحيون يمارسون طقوسهم الدينية بحرية في بلد أغلبيته الساحقة من المسلمين».
وعلى غرار أوباما، أغدقت وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون أيضا الكثير من الثناء على إندونيسيا، وقدمتها نموذجاً للتسامح (إلى جانب الولايات المتحدة طبعاً) ينبغي على البلدان الإسلامية الاحتذاء به. فقد صرحت كلينتون أثناء زيارة رسمية قامت بها لإندونيسيا في العام ٢٠٠٩، بأنه «إذا وددتم معرفة ما إذا كان يمكن للإسلام والديموقراطية والحداثة وحقوق المرأة التعايش معا، فعليكم الذهاب إلى إندونيسيا».
وفي سياق الصعود السياسي للإسلاميين في العالم العربي في ظل ما يسميه الغرب «الربيع العربي»، لم يجد رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، عندما زار إندونيسيا في عام ٢٠١٢، خيرا من ترديد مقولة كلينتون بشأن التسامح الديني في إندونيسيا، معلناً أن: «إندونيسيا، كأكبر بلد ذي أغلبية مسلمة في العالم، تقدم لنا برهانا على نبذ التطرف وتثبت أنه يمكن للديموقراطية والإسلام أن يزدهرا جنبا إلى جنب». وأضاف كاميرون أن الإسلاميين (لا الليبراليين الغربيين) هم من «يعتقد أن الديموقراطية والإسلام غير متوافقين».
كان أوباما قد عاش في إندونيسيا منذ عام ١٩٦٧ وحتى ١٩٧١، في أعقاب المجازر الهائلة التي رعتها الولايات المتحدة وحصدت أرواح نحو مليون إندونيسي بُعيد الانقلاب الذي قام به الجنرال سوهارتو بدعم من الولايات المتحدة عام ١٩٦٥. مع ذلك، ففي حين أن أوباما تذكر جيدا «تسامح» المسلمين تجاه المسيحيين، يبدو أن ذاكرته لم تسعفه في استرجاع ذلك الرعب الذي فرضته الولايات المتحدة على هذا البلد عبر رعايتها للجماعات اليمينية المسلمة التي ساهمت مساهمة كبيرة بعمليات قتل الشيوعيين الإندونيسيين في أعقاب انقلاب سوهارتو. وكان «عدم التسامح» هذا مع الشيوعيين مدبرا ومخططا له من قبل الولايات المتحدة التي ما انفكت تدعو إليه منذ الخمسينيات، و من ثم توسع ليشمل أفغانستان، وامتد منها ليطال الجماعات الإسلامية اليمينية «غير المتسامحة» مع المسيحيين في أماكن مثل مصر (حيث كان قد تم تجنيد العديد من هؤلاء الاسلاميين اليمينيين الطائفيين منذ السبعينيات من جانب الولايات المتحدة للحرب ضد السوفيات في أفغانستان) والتي يقدم لها أوباما الآن النصح باعتناق «التسامح». في واقع الأمر، هذا التعصب (الذي ما انفكت الولايات المتحدة تدعو إليه وتغذّيه) هو ذاته الذي ألهم ويلهم الهجمات اليمينية الإسلامية الطائفية على غير المسلمين السنة في العراق (هذه الهجمات التي دأبت وسائل الاعلام الاميركية على عزوها لا لسياسة الولايات المتحدة بالتحريض الطائفي في العراق، بل على أنها نتاج الهويات «الضيّقة» التي يتبناها العراقيون أنفسهم، والتي يبدو وكأنها قد انفلتت من عقالها، للأسف، نتيجة «الحرية» التي فرضها الاحتلال الأميركي). وهو ما ينطبق على الوضع في سوريا كذلك (وفي الحالة السورية، تتم هذه الهجمات بتواطؤ كامل من جانب الصحافة الغربية، إن لم نقل من الحكومات الغربية، حيث يتم تقديم هذه الهجمات الطائفية على أنها جزء من النضال من أجل «الديموقراطية»).
واصلت الولايات المتحدة هيمنتها على إندونيسيا على مدى السنوات السبع والأربعين الماضية، ليس فقط في ظل نظام سوهارتو الإجرامي الذي ساعدته في الوصول إلى السلطة، ولكن أيضا وخصوصا خلال مرحلة ما بعد سوهارتو «الديموقراطية»، حيث انتُخب للرئاسة نيوليبراليون وجنرالات سابقون في الجيش حسب المصالح الأميركية. وانتخاب الرئيس الإندونيسي الحالي سوسيلو بامبانا يودويونو (وهو جنرال متقاعد من الجيش تدرب في الولايات المتحدة ومتهم بارتكاب جرائم حرب لدوره العسكري خلال الاحتلال الإندونيسي الإبادي الذي دعمته الولايات المتحدة في تيمور الشرقية)، ونائبه بويديونو (وهو المحافظ السابق لبنك إندونيسيا وخريج كلية وارتون في الولايات المتحدة)، هو تتويج لجهود سياسة الولايات المتحدة في هذا البلد. فمع توفر كل هذه الأمثلة من التسامح، في الولايات المتحدة وفي اندونيسيا الخاضعة لوصاية الولايات المتحدة، يصبح لدى الدول ذات الأغلبية المسلمة في الواقع الكثير لتتعلمه في هذا المضمار، لا عن التسامح فحسب، بل، وأكثر من ذلك، عن عدم التسامح.
*أستاذ السياسة وتاريخ الفكر العربي الحديث في جامعة كولومبيا - نيويورك.