لم يكن البرلمان المصري الذي حُلّ على أثر حكم قضائي أصدرته المحكمة الدستورية، بأي صورة، برلماناً ثوريّاً أو مشاكساً للنظام الذي يقوده المجلس العسكري. كان الأداء الإعلامي لهذا البرلمان مخزيَاً، وإن كانت قد انتقلت إليه سلطة التشريع، غير أنّه لم يكن قادراً على إنفاذ ما شرّع. وفي لحظات التأزم بين تيار «الثورة» والعسكر، لم تلق منه قوى الثورة إلا الخذلان. في أشهره القليلة، لم يفتح هذا البرلمان أيّاً من الملفات التي فجرت الثورة. لذا ما الضير إن عاد هذا البرلمان بالقرار الذي اتخذه الرئيس مرسي؟ وهل يعد ذلك انتقاصاً من سلطة العسكر، أم هو نصر مؤزر لـ«الثورة» يستحق الانتشاء؟للحكم في مصر معادلات صلبة هي بالفعل نواة هذا النظام الصلبة، وقد جاء المجلس العسكري للحفاظ عليها وتحويل حالة الثورة إلى انقلاب مقنع. ورغم نجاحه النسبي في ذلك، فإنّه لم يحقق نصراً كاملاً على الثورة، مما جعله يتفاوض معه بمنطق صاحب اليد العليا. وبهذا جاء محمد مرسي إلى سدة الرئاسة وخسر أحمد شفيق، لأنّ فوزه كان انتصاراً كاملاً للمجلس، وهو ما لم يقدر عليه، بعدما ضمن أنّ الجماعة لن تغيّر من معدلات الحكم المتمثلة تحديداً في الحفاظ على النواة المعسكرة للدولة. ويشتمل ذلك على وضع المؤسسة العسكرية في بنية الدولة ومصالحها الاقتصادية، ثم عدم الاقتراب من البنية الاقتصادية والاجتماعية الواقعة أي من توزيع الثروة، وكذلك العلاقة بالخارج أي بالولايات المتحدة وإسرائيل وهو بالطبع المتن الذي أقسم الجميع على احترامه. تمثل هذه المعادلات منطقة مُحرماً الاقتراب منها، وما عدا هذا هو أمرٌ مباح. لم يتحدث مرسي ومن قبله الجماعة عن اعتزامهم الخوض في المنطقة المحرمة، أي لا صدام
قادماً.
بالفعل ينتقص قرار عودة البرلمان من حق التشريع الذي استعاده المجلس العسكري عبر حلّه في المرة الأولى، غير أنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّه انتقص من وضع المؤسسة العسكرية، وهو ما يريد المجلس الحفاظ عليه، فهو لم يعتزم أن يستأثر بحق التشريع إلى الأبد. الأهم من هذا أنّ العقلية المسيطرة على البرلمان الحالي هي عقلية محافظة يمثلها الإخوان والسلفيون، أي لن نتوقع قرارات من شأنها تغيير معادلات الحكم السابق ذكرها، أي تغيير وتبديل النظام. ويدلنا سجل البرلمان الماضي على مستقبل عمله في الفترة البسيطة التي سيُعقد فيها لحين وضع دستور جديد، ثم إجراء انتخابات مبكرة بناءً عليه تأتي ببرلمان جديد حسبما يتضمن القرار. ولهذا ليست هذه العودة انتصاراً للثورة كما يتصور البعض ممن يضعون آمالهم على تغيير ثوري يقوده الرئيس الجديد.
ربما يدرك المجلس العسكري كل هذا، ولذلك كان من الطبيعي أن يكتفي بالـ«لا تعليق» على قرارات الرئيس، لئلا يظهر بمظهر من يفرض وصايته بما قد يثير الشارع، وخاصةً أنّ القرار لن ينتقص منه شيء. ويغرق البعض في الحديث عن «ترتيب» مسبق للقرار بين المجلس والرئيس وربما الجماعة أيضاً، وهذا أمر غير مستبعد، وإن كانت لا توجد براهين عليه، لكن يكفي القول إنّ قراراً مماثلاً لم يكن ليُتخذ دون معرفة المجلس ورضاه.
ليس هذا القرار في صالح الثورة وقواها، إن لم يكن ضاراً بها، وخاصةً أنّه لم يزد انقسام قواها إلا انقساماً، لكونه قراراً جدلياً تشوبه الأسانيد القانونية والدستورية. ففي الوقت الذي اصطف فيه الإخوان والسلفيون مع حركة «6 أبريل»، انتقدت رموز محسوبة على الثورة القرار، لكونه ينقض حكماً لأعلى سلطة قانونية في الدولة، وهي المحكمة الدستورية. وقد يؤدي ذلك إلى التشكك في الأساليب التي سيمارس بها الرئيس صلاحياته، وموقع «دولة القانون» منها، وخاصة بعد القرار الذي اتخذ بتشكيل هيئة تدعى «ديوان المظالم». هيئة تستعيد باسمها حالة إسلاموية شعبوية، غير أنّها تضعف من هيبة الدولة ومؤسساتها بجهازها البيروقراطي الذي يحتاج إلى إصلاح فوري وطويل الأمد، دون إضافة هيئة أو ديوان يلتف عليها.
القرار يؤدي إلى الانقسام، وخاصة بين القوى المدنية الثورية التي سيؤدي توحدها إلى تكوين كتلة ضغط توازن علاقات التدافع بين العسكر والإخوان وبقية القوى. المثير أنّ هذه القوى لم تعِ الدرس من كل هزائمها السياسية وعلى الأرض، وهي فقط تمارس هوايتها في تضخيم الانتصارات التي لم تسهم في صنعها، وتتحدث باسم الثورة دون أن تجعلها واقعاً ضاغطاً ومتحققاً على الأرض. ومن ناحية أخرى سيكسب مرسي من وراء هذا القرار شعبية ستتناسب مع الضجة التي سيثيرها المؤيدون والمعارضون. ففي كل الحالات اكتسب هيئة الرئيس ذي الشخصية القوية، القادر على إنفاذ قرارات يصور البعض أنّها ستخصم من قوة العسكر، وأنّها ستمكّن للثورة، وهو ما لا يظهر. وقد أقسم الإخوان على أنه لا مساس بأي قرار أو فعل يغيّر من جوهر الحكم أو من لب النظام. ويبقى أمام القوى الثورية معركة سياسية قادمة، هي الانتخابات التشريعية المزمعة، لعلَّها تستجمع صفوفها، وتعي ما تتغافل عن إدراكه.
* باحث في الشؤون السياسية بوحدة الدراسات المستقبلية في مكتبة الإسكندرية