إلى ضمير الثقافة اللبنانية سماح إدريس لم يكن أمام السلطة السورية سوى سلاحها القديم/ الجديد لمواجهة الانتفاضة السورية التي هزت عرشها الذي ظنته آمناً، إذ لم تكد التظاهرات تبدأ على الساحة السورية الصامتة منذ عقود، حتى بدأ المونولوغ المعروف والمحفوظ عن ظهر قلب عن مؤامرة بدأت كإمارات سلفية تارة، ودعم من بندر/ الحريري تارة أخرى، لتستقر على عصابات مسلحة وقاعدة وغيرها.
هنا يغدو خطاب المؤامرة وسيلة فعالة من وسائل حماية السلطة لنفسها منذ تأسيسها، وهو أمر كل سلطة شمولية تبتلع المجتمع والحياة العامة، إذ تغدو طريقتها الوحيدة في استمرار السيطرة هي الكذب والكذب المتواصل، إلى أن يصدق الناس، وفق شعار النازي غوبلز الشهير. إذ يقوم خطاب المؤامرة على استغفال العقول وتخديرها بعيداً عن آلية التفكير، إضافة إلى محاولة نشر الخوف لأنّه عنصر من عناصر نجاح خطاب المؤامرة في أداء فعله على الجماهير، وهو ما يسفر عنه كم الأكاذيب التي تبثها أجهزة الإعلام الرسمية عن أعداء محتملين أو حقيقيين وعن قدوم برابرة (سلفيون إخوان... عراعرة... قاعدة... إسرائيل) لضرب الاستقرار الآمن، وتغيير نموذج حياة الناس عبر فرض الحجاب والنقاب وتقييد الحرية الشخصية ونهب نفط الشعب وثرواته (وكأن السلطة القائمة حافظت عليها ولم تكن أداة نهب!). ويترافق كل ما سبق مع تفجيرات هنا وهناك (بغض النظر عن فاعليها، فهي تؤدي في نهاية المطاف الهدف المرجو منها ضمن خطاب المؤامرة) لرسم حالة الخوف المثالية. حالة تجعل الناس يلزمون بيوتهم، إن لم يكن بفعل تصديقهم «المؤامرة الكونية»، فبفعل الخوف من الفوضى التي بدأت تستشري، أو الخوف من المجهول، وخاصة أن البديل ما يزال غائماً، بفعل تشويشات السلطة نفسها من جهة، وضعف آليات عمل المعارضة التقليدية التي لم تتمكن حتى اللحظة من تقديم برنامج سياسي لما بعد سقوط الاستبداد، إلا كشعارات براقة تحاكي الديموقراطية وسواها من المفاهيم.
وحقيقة الأمر أنّ خطاب المؤامرة يسمح للسلطات بالقفز عن الأسئلة المحرجة التي تواجهها، ليصار إلى إسكات الجميع، تحت حجة «مواجهة العدو» المتربص على الأبواب، ولتشريع قتلها وقمعها، والأهم حرف النقاش عن دائرته الأساسية إلى دائرة أخرى. إذ بدل أن تجيب السلطة عن أسئلة القمع العاري الذي تواجه به المتظاهرين وعن تفكيك الاستبداد وعن عدم محاكمتها حتى اللحظة أصغر مسؤول أمني، يصبح النقاش عن «مؤامرة كونية» لا بد من حشد الصفوف لمواجهتها، وعن أغراب/ عراعرة قادمون لفرض نماذج حياتهم، ليغيب خطاب الحرية والديموقراطية. وهذا الأهم بالنسبة إلى السلطة التي تقود صراعاً عملت على إطالته بغية الاستفادة من الوقت الطويل الذي يساعدها على أن تتشرب أدمغة الخائفين تعاليم المؤامرة، بحيث تؤتي فعلها على أحسن ما يكون.
والمؤامرة والنظام الشمولي عموماً (أي نظام شمولي لا على التعيين) توأمان، وكأنّ النظام الشمولي لا يأخذ صفته تلك، إلا باقترانه بخطاب المؤامرة. إن نظرة متفحصة لتاريخ أنظمة الاستبداد عموماً، وتاريخ السلطة السورية خصوصاً، بدءاً من الاستقلال (وليس من عصر البعث كما يقول محرفو التاريخ المعاصر)، ستكشف أنّ خطاب المؤامرة كان ملازماً لتلك السلطات. في «الرابع والعشرين من كانون الأول (1952) أعلن رئيس الأركان اكتشاف مؤامرة ضد نظام الحكم، وإلقاء القبض على عدد من الضباط الذين سمحوا لأنفسهم بأن يقعوا فريسة للأفكار الهدامة التي ينشرها سياسيون متطرفون معينون، وأضاف البيان إنّ المتهمين كانوا ينشرون بيانات مغرضة عن أنّ الحكومة في طريقها إلى الارتباط بمخطط دفاع الشرق الأوسط» (1). المثال السابق سنجد شبيهاً له في كل مسارات السلطة السورية منذ الاستقلال حتى اللحظة، لكنّه أخذ شكله الكامل في «سلطة البعث» التي دمرت الداخل تدريجاً. ومع كل خطوة كانت تتقدم بها السلطة تجاه تدمير الداخل، كان يتضخم خطاب المؤامرة أكثر، لحاجة السلطة إلى مزيد من الكذب للإخضاع، إلى أن وصلنا إلى حالة الموت السريري الكامل في النصف الثاني من عقد الثمانينيات حتى بداية الألفين، حيث سيجد خطاب المؤامرة صداه الواسع في عقول الجماهير التي باتت منتجة للمؤامرة في خطابها اليومي، سواء كانت مصدقة للأمر أم أنّها تتحايل على السلطة (2).
لكن من جهة أخرى، لا يمكن إرجاع فكرة المؤامرة إلى السلطة وحدها، فثمة عوامل كثيرة لا يمكن إغفالها في هذا الصدد. عوامل لها علاقة بالفضاء الذي ولد فيه الكيان السوري، إذ إن وقوع البلد تحت نير استعمارين (عثماني ثم فرنسي) أوجد فضاءً يبرر الأخطاء بالاستعمار. ثم جاءت الإيديولوجيات القومية التي يقوم قسم كبير منها (والبعث واحد منها) على تقديس «العنصر العربي» الذي يشكل أساس الأمة، وإشاعة نظرة إلى الآخر، قوامها «المحتل، الغريب، المختلط، غير النقي». هذا الآخر الذي يقف ضد تقدمنا ويحيك المؤامرات، طمعاً بثرواتنا وموقع وطننا، وسواها من المفردات التي ألفناها على مدى عقود، دون أن يعني ذلك أنّ كل ما سبق خطأ، بل بالتأكيد أنّ هذا «الآخر» في قسم كبير منه كان يقوم بكل ما سبق، ولكن حين يتم ربط تخلفنا وتبرير أخطائنا بهذا الآخر الذي يصبح مجرد شماعة للتبرير، حينها ننتقل من فضاء العلم إلى فضاء خرافة المؤامرة التي تعطل العقل. ضمن هذا الفضاء، يمكن القول إنّه ولدت بذور المؤامرة، ولم تعمد السلطات إلا إلى استغلالها وتضخيم أبعادها، لتصبح بمصاف الإيديولوجية الرسمية، التي يسخر منها المواطنون سراً وعلناً.
ولأنّ الحاضن الاجتماعي والسياسي الذي ولدت فيه السلطة، هو نفسه الذي ولدت فيه المعارضة السورية، إذ يعود الاثنان إلى جذر واحد في نهاية المطاف، لكل حزب معارض نظيره الإيديولوجي الموجود في السلطة. ويضاف إلى ذلك التشوهات الكثيرة التي لحقت بالمعارضة من جراء القمع الطويل والعمل السري والبقاء في موقع الدفاع عن النفس وإثبات الوجود، سنجد أنّ فكرة المؤامرة حاضرة، وإن بدرجة أقل في الخطاب المعارض. مقابل اتهام السلطة لكل معارض بتنفيذ أجندة خارجية وتسهيل مؤامرة الخارج، ستتهم بعض المعارضة «معارضين آخرين» بتنفيذ مؤامرة السلطة، سواء أدركوا أو لا. هكذا ستنتشر مثل النار في الهشيم عبارات تخوينية، ليس من قبل الشارع فقط، بل من قبل تجمعات سياسية وسياسيين معارضين ومثقفين يكتبون في أهم الصحف، ليغدو أي رأي سياسي لا يوافق آراءهم (حتى لو كانت آراؤهم ستقود الانتفاضة نحو الموت وليس لها رأي علمي يسندها) هو مجرد خيانة لدماء الضحايا وعمالة للسلطة، ليغدو خطاب المؤامرة مزدوج التوظيف، بين سلطة يتآمر العالم كله عليها، وبين معارضة بدأت ترى أيضاً أنّ العالم كله يتآمر عليها، إضافة إلى تآمر السلطة التي ينفذ أجندتها معارضون آخرون!
خطاب المؤامرة أداة بيد السلطة لتجعل من الأولوية الآن مواجهة الانتفاضة، وتصفية كوادرها، وهو أداة أيضاً بأيدي معارضين آخرين لتصفية خصومهم في المعارضة، حيث الأولوية الآن لإسقاط النظام دون تحديد كيف ومتى، ودون تقديم البرنامج السياسي.
هل ما سبق يعني كذب كل الخطاب المقدم في مادة المؤامرة؟ بالتأكيد لا، لأنّ الكذب لا يكون بالضرورة في مادة المؤامرة، بل في طريقة استخدامه وتوظيفه، لأنّ من المؤكد ومما لا مجال للشك فيه أيضاً، أنّ هناك أجندة خارجية ودولاً لها مصالح وتريد تصفية حسابات مع السلطة السورية ومع المعارضة أيضاً. دول لها أجندتها ومصالحها، وتهدف إلى تفكيك سوريا دولة ووطناً وجيشاً. هذا من طبيعة الصراع بين الدول التي يعمل كل منها لأجل مصالحه. لكن هذا شيء، وخطاب المؤامرة شيء آخر تماماً. وهذا هو الخطأ الذي يقع فيه مستخدمو خطاب المؤامرة من الطرف الآخر، إذ يغدو نقد خطاب مؤامرة السلطة تسفيهاً لهذه البديهية المعروفة في الصراع السياسي بين الدول. وهو خطأ يصل إلى حد الرد على خطاب مؤامرة السلطة بخطاب مؤامرة موازٍ، فيتم العمل على شيطنة إيران وروسيا والصين، مقابل أنسنة تركيا وقطر والسعودية وواشنطن وفرنسا، بينما الخطاب الآخر يشيطن الدول الأولى ويؤنسن الأخرى، لنكون أمام خطابَي مؤامرة، هما في حقيقة الأمر وجهان لعملة واحدة.
أهم ما في الانتفاضة السورية أنّها هتكت خطاب المؤامرة وأدخلته في طور الأفول، وما هذه «الترّهات» التي نراها من السلطة وبعض المعارضة إلا التشييع الأخير لخطاب المؤامرة.
* شاعر وكاتب سوري

المراجع:
1- سيل، باتريك: الصراع على سوريا، دار طلاس، دمشق، الطبعة الثامنة، 2010، ص 172.
2- يمكن الاستفادة في هذا الصدد من كتاب «السيطرة الغامضة: السياسة، الخطاب والرموز في سوريا المعاصرة» للباحثة ليزا وادين. دار الريس.