عادة ما يحمّل الإعلام الدولي رئيس الوزراء خليفة بن سلمان آل خليفة مسؤولية الفساد والديكتاتورية التي تسود البحرين، وينظر إليه باعتباره معرقلاً للتطوّر الديموقراطي المفترض، الذي يتبناه الملك حمد بن عيسى آل خليفة وابنه البكر وولي عهده الأمير سلمان. وعادة ما تركز خطابات المعارضة الرئيسية (الوفاق وشريكاتها من الجمعيات السياسية) على شعار «تنحّ يا خليفة»، وهو شعار يجد صداه لدى الغرب أيضاً، وكذلك عند الملك حمد، الذي اتخذ جملة من الإجراءات الدستورية والسياسية، بما في ذلك إعادة هيكلة النخبة الحاكمة، لتلقيص صلاحيات عمه الشيخ خليفة.من جهتها، تميل الجماعات السياسية غير المرخصة (الوفاء، حق، الأحرار)، أو ما يعرف في البحرين بقوى «الممانعة»، ومعهم الجماعات الشبابية النشطة، التي أطلقت انتفاضة ١٤ شباط/ فبراير 2011، إلى رفع شعار «يسقط حمد»، متجاوزة شعار «تنحّ يا خليفة»، الذي رفعته هذه القوى في السنوات الماضية، حين كانت الجمعيات السياسية تفضل العمل ضمن مشروع الملك حمد، الذي كان واعداً، أو على علّاته، بحسب اختلاف تبريرات الانخراط ضمن المشروع.
وتقارن أجزاء ورقة العمل المعنونة «بنية الاستبداد دراسة في «استراتيجية» انتقال السلطة في البحرين من رئيس الوزراء إلى الملك» التي تصدر قريباً عن «مركز البحرين للدراسات في لندن» بين الإجراءات التي قام بها الملك حمد، وتلك التي قام بها عمه، في محاولة لاختبار الفرضية الآتية: الملك حمد يتحمل المسؤولية التاريخية عن التدهور الحاصل في البحرين، وليس رئيس الوزراء، الذي هو شخصية ديكتاتورية، على أي حال.
وكصحافي مراقب للوضع السياسي طوال عشر سنوات مضت، وشهدت عن قرب مسار الأحداث، يمكنني الزعم بأنّ رئيس الوزراء ـــ السيئ الصيت ـــ لم يكن المسؤول عن المسار الذي سلكته البحرين في السنوات العشر الأخيرة التي تولى فيها الملك حمد مقاليد الحكم وزمام المبادرة (1) في البلاد.
هذه الصورة قد تكون غائبة عن الرأي العام، والسلك الدبلوماسي والمعنيين بالشأن البحريني خلال السنوات الأولى من حكم الملك (الجديد). وقد وجدت نفسي، طوال الأعوام المنصرمة، أمام كثير من المحاججات حين كنت أطرح فرضية أن رئيس الوزراء ليس صاحب صلاحيات تذكر في الحكم.
ولا يعرف إلى أي حد اتضحت معالم هذه الصورة، لكن يبدو أنّ أطرافاً في المعارضة، تدرك ـــ على الأغلب ـــ أنّ رئيس الوزراء بات خارج دائرة القرار الفعلي، منذ أن حط الملك رجليه في القصر الملكي، إذ صار وزير ديوانه خالد بن أحمد آل خليفة الرجل القوي في البلاد.
بيد أنّ فهم الجمعيات المعارضة لتوازنات القوى في دوائر الحكم، ولطبيعة فهمها للرؤية الإقليمية والدولية للحالة البحرينية، إضافة إلى منهجية التفكير المعارض الرسمي الذي يتصف بالحذر (2)، عموماً، هو ما يجعلها (المعارضة) تلتزم نهج المطالبة بتنحي رئيس الوزراء، رافضة شعار «يسقط حمد»، الذي قد يجعلها في مواجهة مفتوحة مع النظام.
ويجد القارئ في أجزاء ورقة العمل رصداً وتحليلاً لمجمل الخطوات والمشروعات التي نفذها الملك، أو سعى إلى تنفيذها في العقد الأول من حكمه (أو ما نسميها استراتيجية حمد) والتي أعتقد أنّها أفرزت ثورة شعبية عارمة، هي في جوهرها رفض لهذه «الاستراتيجية» الاحتكارية، الإقصائية، البندرية (نسبة إلى تقرير البندر).
لقد حكم الشيخ خليفة البحرين بيد من حديد بين عامي ١٩٧١ و١٩9٩ (3)، لكنّه تلاعب بمهارة فائقة على المصالح المختلفة لطبقات الشعب وفئاتهم، ما مكنّه من تحييد التكنوقراط والطبقة الوسطى والتجار والعوائل التقليدية من الانخراط بصرامة ضد حكمه المستبد.
بيد أن ممارسات الملك حمد «التطهيرية» تجاه المعارضة، وقطاعات واسعة من الشعب، وإصداره دستوراً منفرداً، وقيامه بعمليات تجنيس واسعة النطاق، واستهدافه كل ما يمكن أن يمثل رأياً آخر، في ظل اعتقاد راسخ لديه بأنّ «الشيعة هم الخطر الاستراتيجي على النظام»، كل ذلك ساهم في تحويل اتجاه الرأي العام من تبجيله (الملك) وحمله على الأعناق في ٢٠٠١ (4)، إلى المناداة بسقوطه في 2011.
لقد اختار الملك عقيدة «المشي على حافة الهاوية»، ومضى مخاطراً: «أنا أو المعارضة». وقد نجح في بداية مشواره في «شل» خصومه حين استخدم أسلوب «الصدمة» في ٢٠٠١، بتبنيه جملة من الإجراءات الإيجابية «التاريخية» (5)، كما وصفت حينها، أدت إلى إرباك المعارضة، وتقديمها تنازلات سريعة، و/أو قبولها الأمر الواقع ومسايرته، لكن «انكشاف» استراتيجية الملك لاحقاً، وهو الذي قد لا يتردد في قطع «شعرة معاوية» مع خصوصه، أعاد الوضع الأمني والسياسي إلى ما كانت عليه الحال في الخمسينيات من القرن الماضي، حين طالبت الحركة الوطنية بنظام ديموقراطي كامل (6).
وعلى عكس ما يعتقد، فقد ارتفع شعار «يسقط حمد» في أول يوم من أحداث ١٤ شباط/ فبراير (2011)، على لسان والدة علي مشيمع (7)، قرب بوابة مستشفى السلمانية الطبي (8)، وظل هذا الشعار متسيّداً المشهد المنتفض.
تحلل ورقة العمل أيضاً رؤى الملك لنفسه والجيش الذي يعدّه مملكته، وتقارب بعض الخطابات التي ألقاها إبان الأزمة، والتي تظهره رافضاً للديموقراطية والاعتدال والمشاركة الشعبية في القرار.
في ظل هذه التعقيدات، لعب ولي العهد (9) أدواراً متباينة، من مرحلة إلى أخرى. لكنّه ظل دائماً أميناً لنهج أبيه، الذي استخدمه في المرحلة الأولى من حكمه للنيل من عمه رئيس الوزراء، وأوكل له إدارة الملف الاقتصادي. واستعان الملك بولي العهد ـــ إبان شهري شباط/ فبراير وآذار/ مارس 2011 ـــ لامتصاص غضب المحتجين وسبر أغوارهم، تحت غطاء الحوار.
ويقوم ولي العهد منذ هدم دوار اللؤلوة في ١٨ آذار/ مارس ٢٠١١، بدور يمكن وصفه بأنّه «كبير مديري العلاقات العامة» للعائلة الحاكمة. فهو مدافع حاد عن نهج الديكتاتورية القائم، بوجه ليبرالي، بعدما فشل وليّ العهد، طوال عشر سنوات مضت، في نسج علاقات عميقة وواسعة مع القبائل والتجار، باستثناء نخبة معزولة.
إنّ إزاحة الشيخ خليفة التي باتت وشيكة، بفعل إجراء ملكي (ربما في ٢٠١٤) أو بقرار إلهي، ستظل تذكر بأنّ النظام السياسي في البحرين عصيّ على الإصلاح، وأن رئيس الوزراء ليس إلا قشرته.
لكن، مع اتضاح أنّ هدف الملك من إعلان «المشروع الإصلاحي» كان إعادة تركيز السلطة بيده، وسحبها من عمه رئيس الوزراء، وليس بهدف خلق شراكة شعبية وحياة ديموقراطية... وبالنظر إلى استراتيجيته التي أساءت إلى تجربة البحرين التاريخية كما لم يفعل أي حاكم خليفي آخر في ما أظن... وإزاء فشله في احتواء حراك «١٤ فبراير»، فإنّ سيناريو إطاحة الملك حمد لا يمكن استبعاده، إذا علمنا بأنّ حمد الأول (10) (١٨٧٢ ـ ١٩٤٢) حل مكان أبيه الشيخ عيسى بن علي (11) (1847 ـ 1932) في عشرينيات القرن الماضي، بقرار بريطاني، في أعقاب شكاوى شعبية مريرة من الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان. فيما عزلت العائلة السعودية، العقبة الكأداء للتغيير الحقيقي في البحرين، الملك الثاني للمملكة العربية السعودية سعود بن عبد العزيز آل سعود (1902 ـ 1969)، وذلك في 1969.

هوامش

(1) أن تكون حاكماً، لا يعني أن تكون متحكّماً بالقرار السياسي، كما في حالة الأمير الراحل عيسى بن سلمان آل خليفة الذي كان أميراً «شرفياً»، فيما كان أخوه رئيس الوزراء خليفة بن سلمان صاحب القرار الفعلي... في حالة الملك حمد، فإنّه ـــ والجماعة التي تأتمر بأوامره ـــ يملك القرار فعلاً.
(2) في تعبيرها عن الحالة الشعبية ومطالبها السياسية، تحرص المعارضة الرسمية، بقيادة الوفاق، على تفادي حرب مفتوحة مع النظام، وعلاقة طيبة مع الغرب، عكس الجماعات «المتشددة/ الممانعة» التي تركّز جهدها على المطلب السياسي، وقليلاً ما تأخذ بالاعتبار السياقات الأخرى المحلية والدولية.
(3) عيّن الشيخ خليفة رئيساً للوزراء في 15 أغسطس 1971، وحكم البلاد فعلياً حتى تقلد الملك حمد منصبه أميراً للبحرين في آذار/ مارس 1999.
(4) زار (الأمير) حمد جزيرة سترة ـــ التي تعدّ معقلاً رئيسياً للمعارضة ـــ في شباط/ فبراير 2001، كجزء من حملة للترويج لسياساته الجديدة حينها، واستقبل بحفاوة من قبل الأهالي، وجرت محاولات لحمل سيارته تعبيراً عن الترحيب بتوجهات الحاكم الجديد.
(5) تبييض السجون والسماح للمهجرين بالعودة، وإلغاء قانون ومحاكم أمن الدولة، والسماح بالعمل السياسي الحزبي، والوعد بعودة الحياة الديموقراطية.
(6) لمزيد من التفاصيل عن أحداث الخمسينيات من القرن الماضي، انظر: عبد الرحمن الباكر، من البحرين إلى المنفى.
(7) قتل برصاص الشوزن في ١٤ شباط/ فبراير ٢٠١١، ويعدّ أول ضحايا العنف الرسمي في الانتفاضة الأخيرة.
(8) ليس غريباً أن يتم عقاب العاملين في هذا المستشفى، لما نعلم أنّه احتضن أول شعارات سياسية ضد الملك على هذا النحو العلني والحازم.
(9) عين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ولياً للعهد في 9 آذار / مارس 1999.
(10) حكم الشيخ حمد بن عيسى بن على آل خليفة البحرين بين ١٩٢٣ ـ ١٩٤٢.
(11) الشيخ عيسى بن علي بن خليفة بن سلمان بن (أحمد الفاتح، أول حاكم من قبيلة آل خليفة للبحرين). حكم بن علي البحرين بين 1869 ـ 1923.
* صحافي وكاتب بحريني
(المقال هو مقدمة ورقة عمل بعنوان «بنية الاستبداد دراسة في «استراتيجية» انتقال السلطة في البحرين من رئيس الوزراء إلى الملك» تصدر قريباً عن «مركز البحرين للدراسات في لندن»).