كي نفهم ما جرى خلال حفلة التخرج التي أقامتها «الجامعة الأميركية في بيروت» في ٢٢ حزيران/ يونيو المنصرم، وما تخللها من احتجاجات علنية، من الضروري أن نعرض خلفيات تلك الحادثة، وأن نضعها في السياق العام لما يجري حالياً في هذه الجامعة التي هي بمثابة موطننا الثاني. فهي العائلة التي تربينا في أحضانها، وتبادلنا وإياها المحبة والولاء والتقدير. وهي المدرسة التي غرزت فينا حب النظر والتحليل والإصغاء إلى الرأي الآخر. وهي البيئة التي تبلورت فيها أفكارنا ومبادئنا. وهي التي جعلت مهنة التعليم محببة إلينا، وشرّفتنا بالانتماء إلى تلك المهنة. ولعلنا قد منحناها في المقابل ومن خلال تدريسنا القليل القليل مما أسدته إلينا.
إنّ حادثة ٢٢ حزيران/ يونيو كانت بحدّ ذاتها أمراً عظيم الأهمية في تاريخ جامعتنا؛ إذ كانت في غالب الظن المرة الأولى في تاريخها الطويل، التي يجري فيها اعتراض علني خلال هذه الحفلة التقليدية للمتخرجين، وخاصة على من قررت إدارة الجامعة منحهم الدكتوراه الفخرية، وبوجه أخص السيدة دونا شلالا.
حدث أمر مشابه في العام المنصرم، عندما قررت الإدارة منح الدكتوراه الفخرية لجيمس ولفنسن. ووقّع عدد ينوف على المئة من الأساتذة عريضة تدعو إلى سحب ذاك التكريم. وعندها انسحب ولفنسن كما هو معلوم، بهدوء يحمد عليه.
ولحكمة لا نزال نجهلها حتى اليوم، ونجهل الدوافع إليها ونجهل من صاغها وكيف صيغت، عمدت الإدارة إلى تكرار الأمر ذاته هذا العام، فقررت تكريم شلالا التي يمكن أياً كان الاطلاع من الإنترنت على سجلها الحافل كوزيرة للصحة في عهد بيل كلينتون، وفي فرض العقوبات غير الإنسانية على الشعب العراقي، وصولاً إلى دفاعها المستميت عن التطبيع مع الكيان الصهيوني وجامعاته، المنخرطة حتى العظم في سياسات الاحتلال العنصرية، التي نالت شلالا الدكتوراه الفخرية من ثلاثة منها.
ولكي نفهم المغزى الأعمق لاحتجاجات ٢٢ حزيران/ يونيو، يجدر بنا أن نلتفت إلى بعض التحولات البنيوية التي تشهدها الجامعة في السنوات الأخيرة والتي تتيح لنا الخروج من حيّز التركيز الحصري على قضايا التطبيع إلى قضايا أوسع تتعلق بالمحيط الحاضن للجامعة وصراعاته من أجل العدالة الاجتماعية والتحرّر.
إنّ جامعتنا، وكغيرها من الجامعات ذات الطابع الغربي، تشهد في الآونة الأخيرة تطوّرات بالغة الأهمية تسير بها إلى: أولاً التحول إلى ما يشبه الشركات التجارية المبنية على مبدأ العرض والطلب ومتطلبات السوق، وثانياً تقديم الفرد على المجتمع، أي تدريب الطلاب على مهارةٍ ما، من دون الالتفات إلى الحاجات المجتمعية الأوسع. فمن علامات التحوّل نحو نمط الشركات التجارية، ما نشهده من تضخم كبير في الجسم الإداري، مع ما يواكب ذلك من دفع معاشات لهؤلاء «الخبراء» تفوق بأضعاف مضاعفة معاشات الأساتذة والموظفين المحليين، فيما يزداد الاعتماد في التدريس على الأساتذة الذين لا يدرسون بدوام كامل أو من الذين نالوا الدكتوراه حديثاً، ولم يدخلوا بعد في السلك التعليمي المنتظم. وهؤلاء طبعاً ممن يسهل صرفهم بسهولة واستبدالهم بأمثالهم.
كذلك، نلاحظ التضخم في كلية إدارة الأعمال مثلاً، التي تفرض رسوماً باهظة على الطلاب وتدفع لأساتذتها معاشات أعلى بكثير من زملائهم، فيما أضحت دوائر العلوم الاجتماعية والإنسانيات مجرد دوائر خدماتية تخدم غيرها من الكليات. رغم أن هذه الدوائر كانت في الماضي القلب النابض للرسالة الجامعية وللبحث المعمق في شؤون المجتمع وتاريخه، وفي الفلسفة وعلم الاجتماع وغيرها من محفزات الفكر الحر.
ومن العلامات أيضاً، الحملات الدعائية الباهظة الأثمان والهادفة إلى إعادة توضيب «الماركة التجارية» للجامعة، كما حصل مثلاً مع شعار الجامعة ومع المركز الطبي الذي انتشرت حوله الملصقات الإعلانية على كافة طرقات لبنان الرئيسية. كذلك هللت الإدارة أخيراً «للإنجاز» الكبير، أي زيادة الأقساط بنسبة ٣٠٪ ابتداءً من العام المنصرم، الذي جرى من خلال الاتفاق مع البنوك على منح سلفة تعليمية للطلاب، ومن شأنه أن يجعل الطلاب رهائن للبنوك على امتداد سنوات طويلة بعد التخرج. وهذا طبعاً من شأنه أيضاً أن يوجه الطلاب إلى اختيار المهن التى تدرّ عليهم مدخولاً أكبر لكي يسددوا أقساط البنوك. فهل يسمح لهم الوقت للالتفات إلى الشأن العام؟
ومن العلامات تلزيم «الكافيتيريا» بعد أن كانت ملكاً للجامعة إلى شركات خاصة سرعان ما رفعت الأسعار. ورغم الحركة الاحتجاجية للطلبة، لم يحظ هؤلاء بأي اهتمام من جانب الإدارة، تماماً كما يحصل مع أساتذتهم. وفي هذا الإطار أيضاً، تلزيم أعمال التنظيفات لشركات خاصة، وعمالها هم من المياومين بالساعة ويتلقون أزهد المعاشات. فماذا حل يا ترى بعمّال الجامعة السابقين؟
ولا ننسى التغيير المفاجئ في روزنامة الجامعة السنوية، التي تحوّلت بدايتها، بقدرة قادر، من أواخر شهر أيلول/ سبتمبر إلى أواسطه، وصولاً كما يقال إلى أوائله مستقبلاً. فهل وصلنا أي تفسير لهذا الأمر الذي يمسّ حياتنا وحياة طلابنا؟ هل عُرض الموضوع على النقاش العام في المجتمع الجامعي؟
لا حاجة إلى القول إنّ الجسم التعليمي في الجامعة لم يُستشر في أي من تلك التحوّلات؛ إذ إن الإدارة الحالية لا تتخاطب مع أساتذتها ولا تقيم أدنى وزن لآرائهم واعتراضاتهم، بل تتعامل معهم كأنهم زمرة أطفال سذج لا يستأهلون أي تفسير لأي قرار صادر، ولو كان يمس حياتهم اليومية. ولا أبلغ في هذا الخصوص من الرسالة العلنية التي وجهها المغفور له كمال الصليبي إلى الإدارة في ٢٦ شباط/ فبراير من عام ٢٠١٠، التي جاء فيها: «أوجّه رسالتي هذه بالنيابة عن زملاء لي لا حول لهم ولا قوة، جرى ترعيبهم وتهديدهم منذ زمن ليس بالقصير، فأضحوا مستكينين خانعين من جراء سنوات من التعامل معهم بطريقة استعلائية لا تراعي مشاعرهم. لذا فقد تخلّوا، بالضرورة لا بالاختيار، عن المطالبة بحقوقهم».
كنا نحن الأساتذة الجامعيين نعتقد أنّنا انخرطنا في هذه المهنة الشريفة لخدمة الصالح العام؛ إذ لم يدخلها أحد منا لأجل الشهرة أو المال. دخلنا إليها لأننا نعلم أن التعليم الجامعي من شأنه أن يغيّر العقول ويفجر الطاقات الخلّاقة ويحرر الفكر، ويؤهل الطلاب للقيام بأي عمل كان يستلزم التحليل والتبصر والنظر. أما اليوم، فنحن لا نخدم الشأن العام بقدر ما نمكّن الفرد من الحصول على راتب أفضل. الطلاب اليوم هم مجرد سلع تضاف إليها قيمة مادية.
إنّ غياب الاهتمام بالشأن العام في جامعتنا هو السبب الأساس لهذا الاضطراب في صفوف الأساتذة والطلاب. كذلك إنّ التحوّل نحو الرأسمالية المتوحشة (كما يسميها الرئيس سليم الحص) هو ما يفسر عدم الاكتراث بالمجتمع وتطلعاته وحاجاته. فالطالب يُنظر إليه على أنّه «زبون» ينبغي تلبية حاجاته المادية من خلال تزويده بمهارات السوق.
يسيل الحبر مدراراً من إداريي الجامعة ومن مكتبها الإعلامي دفاعاً عن مهمتها وعن خدماتها للمجتمع وعن حرية أساتذتها وعن سجلها الطويل في هذا المضمار. لكن نظرة واحدة إلى ما حصل في السنوات الأربع الأخيرة تكشف عن تحول ملحوظ في الرؤية لدى إدارتها. فالشفافية في التعاطي مع الأساتذة والطلبة مفقودة بالكامل تقريباً، والإدارة تتصرف وكأنّها شركة تجارية تصدّر أوامرها إلى «المساهمين»، فلا يعلم أحد لماذا صُرف أستاذ من عمله ولماذا نال الآخر ترقية لم يُستشر فيها أحد، ولماذا يجري تجاهل رأي الدوائر الأكاديمية في التعيينات والترقيات والصرف، وبشكل شبه دائم.
وما قضية تكريم شلالا إلا مثال بسيط على الغموض الشامل الذي يكتنف عمل الإدارة في هذه الأيام. إنّ من شأن هذا الغياب للشفافية أن يولّد ما قد نسميه ثقافة الاستسلام في صفوفنا. المهم هو الحصول على الرضى والخنوع للأوامر السامية، والويل كل الويل لمن يرفع الصوت مطالباً بالشفافية؛ إذ مصيره في يومنا هذا إما التجاهل التام، كما في حالة العريضتين أعلاه، أو الصرف من الخدمة، كما في الشركات التجارية، أي بدون تبيان السبب، أو الشتم كما سيأتي أدناه. ومن الملاحظ أن صرف الأساتذة من الخدمة كثيراً ما يواكبه كلامٌ منمق من جانب الإدارة حول الحريات الأكاديمية.
قبل بضع سنوات، أي حين أتت هذه الإدارة الحالية، وصلتنا الوعود بإعادة النظر في مسألة تثبيت الأساتذة في مناصبهم، أي ما يسمى بالإنكليزية tenure. وهذا أمر مألوف في كافة الجامعات الأميركية التي لديها أدنى قدر من احترام الذات واحترام حرية الأساتذة في التعبير عن رأيهم بلا وجل وبحرية تامة. هللنا لهذه الوعود وصفقنا لها لأننا نرى في التثبيت جزءاً لا يتجزأ من حرية التعليم بحيث لا يصبح الأستاذ أو الأستاذة عرضة كل ثلاث أو سبع سنوات لتجديد العقد، فترتعد المفاصل من المصير المجهول ويكثر القيل والقال وتجتاحنا موجات الشائعات، ويزداد التملّق، ويغيب الحق في ضبابية الوسائل المعتمدة للتجديد أو عدمه. ويصبح نيل الرضى من أصحاب «الشركة» هو المقياس الحقيقي للاستمرار في الوظيفة. وغاب الحديث عن التثبيت، فلم نعد نسمع عنه، ولو بالهمس. ويسيل الحبر مدراراً كل عام حول تعيينات أساتذة جدد، لكننا لا نسمع شيئاً عن زملاء أعزاء لنا غادرونا في الآونة الأخيرة إلى الاغتراب، بعد أن نالهم ما نالهم من غضب «الشركة» أو تجاهلها التام للدوافع التي دفعتهم إلى الرحيل، ولم يُبذل أي جهد يذكر للإبقاء عليهم، وبعضهم من ألمع الأساتذة وأبرزهم في تاريخ الجامعة الطويل.... «فكأننا وكأنّهم أحلام».
قد يقال لنا إنّ هذا التصرف تجاه الأساتذة ليس بالأمر الجديد، فقد حصلت في الماضي عدة حوادث مع أسماء لامعة طُردت من الجامعة ولا مجال لذكرها هنا. وقد يقال إنّ تقييد حرية الأساتذة وإرغامهم على التزام الأوامر ليس من اختراع هذه الإدارة بالذات. هذا صحيح إلى حد ما، غير أنّ الإدارة الحالية قد تخطت كل الحدود الماضية. ففي الماضي كان الأساتذة المثبّتون يرفعون الصوت عالياً إذا رأوا ظلماً، وكانوا يجتمعون دورياً للتداول في أي أزمة تعصف بهم، ويدافعون عن حقوقهم وحقوق طلابهم وحرياتهم، ويرفعون الصوت عالياً في الشؤون العامة، ويحثون الطلبة على الانخراط في خدمة الأوطان. أما اليوم، فقد انسدل الستار وغابت الإدارة عن الأنظار وأضحى الأساتذة مجرد موظفين في «الشركة» يتلمسون طريقهم ضمن غياب تام لأي تضامن وترابط في صفوفهم؛ إذ لا يُراد لهم أن يلتفتوا إلى همومهم وهموم طلابهم أو هموم مجتمعهم. وليس لهم الحق في الدفاع عن كرامة جامعتهم ولا سؤال «الشركة» عن أسباب تصرفاتها. وإذا تجرأ البعض منهم وسأل، تنهال عليه الشتائم من الإدارة، كما حصل في العام الماضي إبان أزمة تكريم ولفنسن. وإذا أراد القارئ الكريم الاطلاع على رأي الإدارة الحقيقي بالأساتذة، فما عليه إلا أن يقرأ ما ورد في رسالة الرئيس دورمان المؤرخة في ١١ حزيران/ يونيو ٢٠١١، إلى الأساتذة بعد انسحاب ولفنسن من حفلة التكريم. فقد كشف في رسالته إلى الأساتذة يومئذ عن الحقيقة، أي ما يكنّه من احتقار لأصحاب العريضة الأولى. هذه الحملات، في رأي دورمان الصريح المعلن «fundamentally dishonest»، أي خادعة ومضللة في الجوهر، وإن موقّعي العريضة قد «جرى استلاب عقولهم»، بل وإنهم يفتقرون إلى «الاستقامة الفكرية». هل تقدم حضرته باعتذار عن هذه الشتائم للأساتذة التي لا مثيل لها في تاريخ جامعتنا وفي تاريخ الجامعات المحترمة في العالم بأسره؟ طبعاً هو لم يفعل. فهذه الذهنية الاستبدادية لدى الإدارة لا تزال هي السائدة حتى يومنا هذا. لقد كان ذلك واضحاً في الرسالة الأخيرة الموجهة من الرئيس الذي اعتبر فيها مجموعات المقاطعة لإسرائيل أنّهم بمثابة دخلاء، إذ قال «إنّ القرارات المؤسسية لا يمكن إخضاعها لمحك اختبار مطلق تفرضه مجموعات خارجية».
ختاماً، نرى أن حرصنا على جامعتنا يقتضي طرح الاقتراحات الآتية، التي نأمل أن تفتح باب النقاش، وذلك لكبح جماح هذه التحولات:
* العمل وبسرعة على إعادة نظام تثبيت الأساتذة الذي من دونه لا وجود لأساتذة يعبّرون عن آرائهم بحرية، ولا وجود للحرية الأكاديمية أصلاً.
* إعادة تشكيل رابطة الأساتذة ومنح كافة التسهيلات اللازمة لهذا الأمر كيما يستعيد الأساتذة دورهم الطبيعي في تخطيط السياسات الجامعية على اختلاف أنواعها، والأخذ بآرائهم في كافة الأمور.
* فتح الباب واسعاً أمام كل الطلبة المتفوقين وقبولهم، بغض النظر عن أحوالهم المادية الضعيفة، وإيجاد المنح لهم، ومنحهم قروضاً بلا فائدة.
* رفض كافة الهبات التي ترد إلينا من وكالة الغوث الأميركية USAID ومن الكونغرس الأميركي من أجل فك الارتباط مع كافة الهبات السياسية.
* الرجوع عن نموذج الجامعة/الشركة وخفض النفقات الإدارية إلى حدودها الدنيا.
إن جامعتنا اليوم في مأزق، وينبغي لكل محبيها وأساتذتها ومتخرجيها أن يمعنوا النظر في ما وصلت إليه في يومنا الحاضر.
* أستاذان في «الجامعة الأميركية في بيروت»