الثعلب ابلغ روبرت فيسك بالمؤامرة: الدولة العميقة اختارت مرسي. هو تنظيم «ضباط احرار جدد» أفراده ليبراليون، ويسعون الى اسقاط الجنرالات الفاسدين. فيسك وثعلبه يرددان بعضاً مما قاله «مهاويس» الثورة المضادة من مذيعين شنوا حربهم بعد فوز مرسي. الثعالب لا كروم لها، لكنها تحتار او تخطط في اتجاهات متضاربة وتعلن نتائج لا تقول سوى أمر واحد: الرئيس لم يأت بشرعية الصندوق كما تتخيلون، فقد أتى برضانا ومزاجنا، ورؤيتنا لمصالح الدولة، وبعد مفاوضات ترددت فيها اسماء اطراف اخرى مثل البرادعي ورئيس القوات الأميركية في شمال المتوسط وحتى اردوغان.
اساطير تبني صورتها (او ترممها) في مواجهة صورة الشعب المنتصر، الثائر، والمجتمع المحطم لاقفاص الاستبداد. الاسطورة تبنى الآن على ان اليد الكبيرة تلعب من الخفاء، وصنعت الفخ للرئيس لتتركه يتحرك بحريته في الفخ. ماذا يفعل الرئيس؟ هل يصبح مبارك باللحية؟ ام عبد الناصر الاخواني؟ ام النسخة المصرية من احمدي نجاد بدون دولة الملالي؟ ماذا لدى الاخوان ليقدموه في حكم مصر؟ ماذا لديهم لترميم دولة التمساح النائمة تحت بحيرة احداث سياسية ساخنة؟ وما هي خطتهم لقتل التمساح اثناء نومه؟ هل يرث الاخوان، وهم تنظيم سلطوي، دولة المماليك ويمنحونها بركة جماعة تدار بالسمع والطاعة؟
لم يعد أحد يتذكر مومياء مبارك. طقوس التنصيب تمت على بعد خطوات من مرقده في المستشفى العسكري، بينما لم يعد يهم احداً هل مات اليوم اكلينيكياً. لم يبق سوى نميمة عن اناث العائلة المسمومة التي ستتصارع على تركة ملعونة، فهل سيجعل القدر من مبارك ايقونة الاستبداد التي ترى في حياتها انهيارات دولة الرئيس الفرد؟
لم يعد احد يتذكر الرأس لكن الجسد، ورغم شيخوخته، لا يزال يحتفظ بفتوة تمكنه من مقاومة سفلية للقنص الاخواني. والاخواني ليس قناصاً، بل هو متسلل، يتسرب وينتشر، وهذا هو الفخ، إذ إنّ العسكر انسحبوا من مواقعهم ليبدو الرئيس الاخواني في مواجهة الجميع. والرئيس يظهر شجاعاً، ويحاول صنع شعبويته مداعباً نموذج امير المؤمنين العادل. لكنّه ينقل النموذج إلى زمن آخر وبدون جسور ولا ادراك بالآليات سوى الحيلة. الحكايات المأخوذة عن الثعالب تعلي من قيمة الغرف المغلقة، كما تحب الدولة العميقة ان تفعل. هي تريد أن تثبت أنّها لا تلفظ النفَس الاخير، وتريد ان تقول للشعب كله: انا الدولة. هذه الاجهزة كانت الدولة فعلاً حتى ازيح مبارك من مقعده في القصر الى سريره في المستشفى. لم تكن دولة بل هيكل فارغ لدولة تدار بمنطق العصابة. الاجهزة الامنية هي ذراع الحاكم وقبضته، اما المؤسسات فهي اقطاعيات يوزعها على مماليكه. دولة مماليك بكل اجهزتها، والبقاء فيها للاقوى، وصاحب السمع والطاعة. المماليك لا دولة لهم، بل مساحات نفوذ، والسياسة هي الصراع على هذه المساحات، والانجازات تتم وفق رغبات المنتصر في تخليد اسمه لا في اقامة دولة، ولا بناء مؤسسات محترمة.
المماليك هم حشود من عبيد دافعوا عن العروش وزادت سيطرتهم الى ان سيطروا على العروش نفسها. وهذا ما يجعل العرش او الحكم هو الهدف الاسمى الذي من اجله تشيّد الانجازات او تبذل النفقات لترويض الشعب كي لا يثور. هذه الدولة تقوم على اليأس والرعب. ينشرون اليأس بأنّ المماليك لا نهاية لهم، وليس لدى الدولة سوى مماليكها. هم اكبر من كل المؤسسات التي تبدو مباني بلا معنى. فلا البرلمان ولا القضاء ولا الرئاسة حتى يمكنها ان تبني وجودها بعيداً عن سيطرة المماليك. والرعب صنعته المذابح والجرائم التي لم يحاسب عليها احد، وتمت حماية المجرمين رغم ثبوت الجريمة. يقف الضحايا وحدهم في مواجهة دولة تعلن سطوة مماليكها. والضحايا بجسارتهم المدهشة يواجهون وقاحة المماليك وأتباعهم من منافقين وخدم وقطاع طرق.
هم ورثة مبارك، بل هم مبارك حين يُستنسخ في عشرات النسخ. كائنات صنعت من مواد الانحطاط، لا تخجل من جهلها وغلاظتها وتتفاخر بفضائحها بعد ان تجمّلها بقشور الاخلاق والقيم النبيلة. كم انت غليظ ايها المجرم الذي تبكي بسبب ضحيتك في حفل تنصيب الرئيس. كم انت حنون ايها الرئيس الذي وعد بتكريم العسكر الذين عطلوا الثورة وارتكبوا جرائم ضد الثوار. كم انت ابن عصرك وتربية مماليك يعيشون على اهانة الشخص ومحو الشخصية لتخرج من تحت اياديهم نسخ مشوهة من البشر. ليس لدى المماليك اذن الا المزيد من الوقاحة، خاصة عندما يبتعدون عن الواجهة ويتركون الرئيس مكبلاً بخيوط شفافة وباتفاقات الغرف المغلقة.
وفي المقابل ليس لدى الحالمين بزوال دولة المماليك الا الصلابة. صلابة سمعتها مرة في كلام وداد الدمرداش، احدى بطلات معركة العمال في المحلة الكبرى. شعرت بالفخر لأنّني من مدينتها نفسها، حين رأيتها تتحدث بصوت قوي عن حقوق العمال. من اين هذه القوة وسط كل تلك الرخاوة؟ من اين هذه الصلابة في ظل الاستسلام الكامل لدولة المماليك؟ وداد قوية، تنطلق من عينيها نظرة كبرياء تمنح ثقة بأنّ في هذا العالم ما يستحق ان نحلم من اجله. وداد حكت انّها تأثرت بالخطاب العاطفي لمبارك، لكنها عندما رأت الجمال تقتحم ميدان التحرير عرفت انّه مزور، وعرفت انها لن تترك احداً يستغل عاطفتها للضحك عليها. هذه القوة ولدت خارج حسابات المماليك، وأربكتهم. لم يعد الشعب قطعاناً تبحث عن لقمة العيش وترضى بالفتات، ولا ارواحاً مكسورة بالخوف والرضا بحكم الطغاة على انّه قدر. انها القوة المختبئة تحت الركام الثقيل. قوة اكتشفتها سميرة ابراهيم عندما عادت الى البيت ولم تخجل عائلتها منها او طلبت منها الانزواء في ركن العار. امها خافت عليها، لكن اباها طالبها بالحصول على حقها حتى لا يتكرر ذلك مع احد. سميرة صديقة ابيها، والثقة بينهما غريبة على مجتمع الصعيد، لكنها منحت للثورة هدية من هدايا استعادة الفرد حضوره. سميرة حكاية فرد سار في رحلة قوته، تحدت قوانين توزيع القوة في المجتمع. الفرد يلغى في مواجهة المؤسسة. والمؤسسة تحتفي بالأنانية، وتمنحها فضاء. والفرد غريب وحيد، بلا سند. اليأس من الانتصار حطم كل محاولات الحصول على الحق: من انت حتى تنتصر على مؤسسة كاملة؟ من انت حتى تتحدى دولة الاستبداد؟ من انت حتى يكون لك الحق في اسقاط رئيس؟ او تحاكم من انتهك حقوقك وجسدك وكيانك الانساني؟ المجرم تحميه مؤسسات كبيرة ودولة لا تعرف العدل، واخلاقها تسمح لها بانتهاكات ضد افراد عزّل، يقفون عارين من القانون والحماية والقيم وحدهم امام سلطة متوحشة تعرف انّها فوق القانون، ولن تحاسب. هذه معركة لا يعرف ثعالب روبرت فيسك الا اختصارها في حرب الاستخبارات او صراعات الاجنحة في الجيش. يبحث الثعالب عن اعادة للتاريخ وتنظيم يخرج من الجيش ليجدد الدماء. وهذه لحظة انتهت بعدما اصبح المجتمع بطل المشهد. المجتمع الذي تكيّف طويلاً مع انحطاط مبارك يثور على نفسه اولاً، ويتعلم السير بينما يصعد السلم، ويثور بينما يدخل حرباً ضد المماليك... وثعالبها.



مرسي الإخواني أم مرسي الرئيس؟

اللعبة بدأت باكراً. الرئيس الآن من الإخوان، وهم نتاج مرحلة الارتباك القوية التي جعلت اكبر تنظيم معارض يعيش سنوات طويلة تحت الأرض. الثورة لم يفجرها الاخوان، لكنّهم شاركوا فيها الى الحد الذي أتاح لهم فرصة اقتناص الغنيمة. الثورة ليست اخوانية اذن. وليس مرسي زعيم الثورة ولا مرشحها ولا المتحدث باسمها... لكنّه على رأس السلطة. وهذا هو جوهر اللعبة القادمة. بعدما نجح الاخوان في اللعب على المسافة بين الحظر والمنافسة الشرعية، والمسافة بين الدين والسياسة، يريدون اللعب الآن على المسافة بين السلطة والثورة. تطالب مرسي (الرئيس) بإجراءات أولية لتغيير المناخ العسكري للسلطة، وفي مقدّمتها إلغاء المحاكمات العسكرية للمدنيين والإفراج عن المعتقلين (وعددهم بين ١٢ ألفاً و ١٥ ألفاً) لكي يتحقق العدل أولاً، ولكي يمحو آثار المرحلة الكاكي وسطوتها ثانياً، فيرد عليك مرسي (الرئيس) أيضاً بأنّهم قالوا له إنّ أغلب المعتقلين بلطجية وخروجهم يهدد أمن البلاد. وبعد الخطابات يتخذ مرسي (الرئيس...) أيضاً وأيضاً قراراً بتشكيل لجنة من الجهات نفسها التي اعتقلت. لجنة لا توجد فيها جهات محايدة من المجتمع المدني، ولا من حركات ترفض المحاكمات العسكرية وتحمي حق المعتقلين، ولديها كل المعلومات الكاملة عن كل قضية. الى هنا يتصرف مرسي كرئيس لا يملك حلولاً جذرية، ولا موقفاً ينحاز الى رفض المحاكمة العسكرية للمدنيين.
والأهم أنّ مرسي لا يزال أسير السلطة وحلولها في تشكيل اللجان التي يستبعد منها المجتمع. السلطة وحدها تقرر والسلطة وحدها تعرف اكثر. كان من الممكن أن يمنح الرئيس دفعة قوية للمجتمع المدني/أو الأهلي وقوى خارج السلطة ومؤسساتها كي تصبح مؤثرة وشريكة في الحكم، لكن مرسي يسير بعقلية السلطة نفسها، التي لا تري المجتمع (المدني/او الأهلي) جزءاً من السلطة. مرسي (الرئيس) لا مانع عنده أن يتظاهر المجتمع أو من يرى فيه أنّ مطالبهم بالإفراج عن المعتقلين أو الأسرى في السجون الحربية هو أول خطوة وأسهلها. من حقهم التظاهر. وهنا يظهر مرسي (الإخواني) ممثلاً في قيادات تعتبر التظاهر مؤامرة مدبرة من الدولة العميقة لإظهار عجز الرئيس. لماذا؟ لا تجيب قيادة اخوانية مثل اسامة ياسين، وهو الأمين العام المساعد لحزب «الحرية والعدالة»، معتبراً أنّ هذا سيناريو مكرر لما حدث مع البرلمان. هل الدولة العميقة ستكون الشماعة؟ أم القيادات الإخوانية تتصوّر أنّه لا بد من الصمت تماماً على اعتبار أن الرئيس مرسي ينفذ خطة الثورة؟
أولاً التظاهر حق لا يمكن تأويله بهذه الطريقة، إلا وفق عقيدة التسلط التي تبحث عن أياد خفية او أصابع أجنبية أو متآمر خلف كل استخدام لحق التظاهر.
ثانياً لم يظهر مرسي بوادر اختلاف عن المسار المعتاد لكل رئيس جديد (لا نزال نتذكر بدايات السادات ومبارك). هو يحاول إرضاء الشعب ببالونات ملونة وهدايا العيد بدون أن يدخل في معركة تغيير جذري، أو يؤسس لبديل محترم... كل الرؤساء بدأوا عهودهم بالعلاوات والوعود البراقة.
ثالثاً ليس لدى الإخوان ولا مرسي خطة إعادة بناء، لكنْ لديهم تصور بالاستبدال، بمعنى أن وجودهم وحده في السلطة سيغيّرها أو يجعلها طيبة، أو يمنحها بركة إلهية. ولهذا مثلاً لم يتم السعي الى تغيير جذري في وضع مؤسسات الإعلام أو ملكيتها، أو تبعيّتها للسلطة. لقد وضعت «رتوش» ورموش ديموقراطية صناعية، ليتم اختيار رؤساء التحرير بالطريقة القديمة نفسها، لكن بعد أن يتقدم أشخاص بترشيح أنفسهم. وبالطبع ستكون النتيجة معروفة بعد أن تكتمل الخدعة، لأنّ رئاسة التحرير لا يمكن أن تكون بالانتخاب، لكن بالكفاءة التي تحددها المصلحة. إذاً، ليس المهم تغيير رؤساء التحرير، لكن هيكل المؤسسات.
رابعاً اذا كانت تظاهرات المطالبة بالإفراج عن المعتقلين من تدبير الدولة العميقة، فلماذا لا يستخدمها الرئيس ليلغي الطابع العسكري للسلطة لينقلب السحر على الساحر.
خامساً اذا كان الإخوان ومرسي يبحثون عن شماعة من الأسبوع الأول، فماذا سيحدث قبل مرور السنة الأولى؟ واذا اختلف المتظاهرون مع مرسي واعتبرهم الإخوان دولة عميقة، فماذا يحدث إذا طالبنا مرسي بتنفيذ وعوده بمحاكمة القتلة والمجرمين من ٢٨ يناير/كانون الثاني حتى موقعة العباسية؟
... كم من الجرائم سترتكب تحت ستار العداء معك أيتها الدولة العميقة.



فاتورة الأوجه المتعددة



الحياة أوسع من ممرات المرشد والمشير. هما من بقايا نظام انقرض، ولا يزال يمسك بأظافره الميتة كل التفاصيل. الحياة اوسع. هذا ما فعلته ثورة حطمت أسواراً، ليصبح من الممكن الخروج بلا خوف الى مغامرة خارج الروتين اليومي، خارج التوافق مع اجهزة استبداد تبدأ من سرير النوم ولا تنتهي عند باب المقبرة.
تستقبلك العائلة بكل خوفها وتعاليمها في السير بجوار الحائط، ويسلمونك الى مشايخ يفرضون سلطتهم عليك باعتبارهم وكلاء الله، وبينهما مندوبو السلطة، من الرئيس المعلق على كل جدران المصالح الحكومية، الى الموظف المقهور الذي يعيد تصدير قهره فيك شخصياً. هكذا تحاصرك اجهزة الاستبداد، والثورة حررت الجزء الحي الذي كان يمارس حريته بعيداً مع اصدقاء له، او امام شاشة الكمبيوتر، او عبر قراءة او من خلال فيلم او موسيقى، أو قصة حب تتحرر فيها من التعليمات بقوة المشاعر.
الثورة حررت الفرد من مصير القطيع، ولهذا تبدو الحياة متسعة بعيداً عن سطوة الجنرال الذي اعتاد الأوامر، والمرشد القائد، الى دروب الجنة على الارض وفي السماء. المعركة بين المرشد والمشير تدور في الأروقة، بينما الشارع يتسع، وتفتح جهاته الأربع، رغم قلة الخبرة، على صراعات مع عشاق العودة الى الروتين اليومي، ومع شعار «خراب يا دنيا، عمار يا دماغي»، وهو شعار الهروب الشهير من التفكير في ما هو ابعد من السير في قطيع العبيد، الذين يحركون ماكينة تدور من اجل صنع السلطة والثروة للعصابة الصغيرة.
التنافس اذن على من تصب عنده ماكينة العبيد، ولهذا تروّج مقولات عمّا يحمله خيرت الشاطر من استثمارات الخليج او آسيا، ليحل محل شطار نظام مبارك. الثورة بالنسبة إلى مرشد وأتباعه مجرد احلال واستبدال للنظام القديم، بينما الثورة في الشوارع تتمرد على زمن القطيع السياسي، وتغيير العلاقة بين الحاكم والشعب. ترفض تنظيمات خارج السيطرة، مثل «الأولتراس»، فرض الوصاية على متعتها في كرة القدم، والمرشد قبل المشير يتصوّر أنّ من حقه فرض الوصاية على الشعب لتحقيق مصلحته. وهذه كانت لعبة الجماعة في الانتخابات، إذ وعدت الشعب بتغيير الوصي لا انهاء الوصاية. هنا وقع التصادم وقرر المشير، الوصي الاصلي ان ينهي مسرحية المرشد الوصي البديل، ويوقفه قليلاً في حرب باردة لن تسخن الا عندما يجد المرشد أنّها خطر على التنظيم، ويرى المشير انّها المبرر النبيل للانفراد بالوصاية. والحياة ليست عند المرشد او المشير. الحياة في مكان آخر، إذ يتحرر العبيد ولا يطالبون بتحسين شروط عبوديتهم، حيث النضال من اجل حياة سعيدة ليس الا. هكذا لا يعرف مرسي ماذا يعني ان يكون رئيساً. هل سيتحرر من جماعته؟ ام يصحبها معه الى القصر؟ هل يواصل سيره في قطيع المرشد ام يحاول اللعب في المسافة بينه وبين المشير؟ اصبح رئيساً، لكنّه لا يزال لا يعرف ماذا يعني ذلك. هل معناه انّ حلم حسن البنا تحقق وانتصرت جماعته؟ لكنّه فاز عندما تراجع عن شعارات «الفرقة الناجية» و«المرشح الاسلامي» وقوة «الفتح الاسلامي الثاني» لمصر. هل فازت الجماعة بدون شعاراتها؟ هل انتصرت القدرة على التنظيم؟ هذا المعنى سياسي، وهو ما سيضع جماعة الاخوان المسلمين في مأزق: هل ستغادر اقامتها المريحة في المسافة بين «الدعوة» و«السياسة»، ام انها ستتجاهل المتغيّرات وتتعامل بمنطق ان النصر علامة قوة لا سؤال وجود. الجماعة لديها ازمة وجود فعلاً، ومرسي يمكن ان يدخل دوامتها اذا حكم بنفسية الموظف التي عاش بها في التنظيم طيلة تاريخه السياسي، لكنّه ايضاً يمكن ان يتخذ مسافة بفعل قوة المنصب، وأن يتحرر هو على الاقل من توازنات الجماعة او ارتباكات جيل اخواني تأرجح بين التعليم الحديث والتربية القديمة. جمع مرسي بين الاثنين بدون تفاعل، كما اغلب جيله في الجماعة. جيل لم تنتقل الجماعة معه خطوة خارج بناء السمع والطاعة. هل يستطيع مرسي منح فوزه بالمنصب معنى فعلياً؟ ام سيكتفي بشطارة الاخوان في اللعب على كل الخطابات ومحاولات ارضاء كل الاطراف التي لا تعني في النهاية الا رضى طرف واحد هو الجماعة؟ في السياسة لا تستطيع ان ترضي كلّ الاطراف. لا يمكن مثلاً ان ترضي الشهداء واهلهم، وترضي العسكر، لأنّ الشهداء لم يقتلوا في فيلم تلفزيوني او في لعبة افتراضية. حقهم ضاع ليس لأنّ موتهم كان بدون أدلة، بل لأنّ اجهزة الدولة الأمنية قررت حماية نفسها، اولاً بإعاقة المحاكمات، وثانياً بمحو الادلة ودائماً بالاستمرار في قتل وسحل وتعذيب المتظاهرين. كيف سترضي كل الاطراف هنا؟ كيف سترضي الجماعة مثلاً الثوار في الميدان وتهتف معهم: «يسقط حكم العسكر»، ثم في جامعة القاهرة يُسكت نواب الجماعة من يهتف الهتاف نفسه، ويحشدون لهتاف مضاد، هو «الشعب والجيش إيد واحدة».
الأوجه المتعددة لمرسي يمكن ان تربك اجهزة الدولة التي هندست حركتها في ٣٠ سنة على مقاس موظف بيروقراطي يستمتع بالملل، ويجعله شرعيته الاقوى، لكنّه ارباك مرحلي، ومحدود التأثير، وشكلي، لأنّنا في لحظة فرز قوية واستحقاق لا يمكن أن تتجاهل فيه الطلبات بهذه الشطارة الاخوانية المعتادة، ولا تدفع الثمن. هذه فاتورة الأوجه المتعددة، التي لا تخلو من مزايا، فهي قد تكون تلوّناً سريعاً، و«فهلوة»، ويمكنها ايضاً ان تؤدي دوراً في انتقال شكل السلطة من تقديس الحاكم وابوة الدولة الى شكل آخر وجديد. لا يزال مرسي مرتبكاً، يحشد شطارته وخبراته على قدر ما يستطيع، لكنّه مثقل بأحلام جماعته في التمكين، وهو ما لن يحدث بسهولة او بدون جراح عنيفة. هو مثقل بصراعات الجماعة اولاً مع قوى مدنية عفيفة وعفوية، ضعيفة في التنظيم، لكنّها قوية في التأثير. تلك القوى أسهمت في نجاح مرسي وتشعر بغربتها بعض الشيء عن احتفالات تنصيبه، إلّا أن الصراع الأقوى هو مع السلفيين، الحليف الأقرب، لكن الثقيل على حركة الشطارة الإخوانية، لأنّه لا يعترف بالحسابات ويورط الاخوان إما في الدفاع عن الموقف المائع، أو في الدفاع عن الاتهام بالتخلي عن المشروع الأصلي. هكذا فإنّ الجماعة والرئيس الذي هو منها، معرضان للتمزق بين مشروعهما الأصلي الذي يهدده السلفيون في قيادته، والوجود في دولة عصية على الاحتواء، ومجتمع يرفض الانقلاب على حياته كما اختارها.
الحيل القديمة عاجزة امام هذه المعضلة الجديدة، وخاصة أنّ المجال السياسي بعد الثورة تغيّر، وأصبح للثوار، رغم عدم التنظيم، فعالية مجموعات الضغط القوية التي تستطيع سلب الطمأنينة من المنتصرين. وهذا هو المعنى الخفي من فوز مرسي. إنّها التجربة الأخيرة لتيار سياسي عاش بالتوازي مع استبداد مبارك، وفي علاقات معقدة مع دولته الأمنية وجهازه السياسي. إنّنا أمام حصاد مبارك، ونتاج تجريفه للمجال السياسي وتدجينه لتيارات معارضة احتمت به عندما توحش التيار الإسلامي. الدولة كانت الحاضنة في مواجهة تيار انقلب عليها بالسلاح، فهزمته وأدخلته الحظيرة لتلغي به التفاعل. المعنى إذن أنّ مرسي فرصة تاريخية لهندسة طرق جديدة بعيداً عن المرشد والمشير.