هنالك مشهد لا يغيب عن بالي كلما أردت استحضار البدايات الأولى للحراك المصري: مجموعة من الشبان والشابات يتحلّقون حول رفيق لهم يشدو بأغنية «حدوتة مصرية» لمحمد منير. لا يبدي الشاب في المشهد رغبة في إتقان الغناء ونسخه ميكانيكياً عن الأصل، لذا تحديداً بدت الأغنية بصوته كما لو كانت جديدة علينا (وهي ليست كذلك). حينها لم يستوقفني كثيراً مظهر الرجل ولا الإكزوتيكية التي ترشح من وجوده «ملتحياً» إلى جانب «شابات سافرات» يرتدين الجينز (لا عجب إذاً في أنّه سلفي! يقول الإعلام المهيمن. يذكرني ذلك بسماجة العناق الدائم بين الهلال والصليب في الخطاب اللبنانوي المسيطر) بقدر ما استوقفتني قدرته على استبطان الأغنية وتمثّلها بكل جوارحه. يضاف إلى ذلك تفاعل من كنّ حوله استثنائياً مع أدائه. هذا على الأقل ما وصلني من الإعلان الذي دأبت قناة «أون تي في» المصرية النيوليبرالية على تكراره أيام ما كان ذاك التكرار قابلاً للتوظيف السياسوي الرديء. اليوم يبدو ذاك المشهد يوتوبياً أكثر مما ينبغي، وأقلّ امتثالاً للرغبة الجامحة في إضفاء مسحة «توافقية» على الميدان (ميدان التحرير طبعاً). ولو قدّر لأصحابه أن يعيدوه لما بدا عليهم الانسجام ذاته والجدّية نفسها، ولما وجدوا أصلاً شاشة تقبل «إعادة تلميع» صورة الميدان وتجريدها من «تلفيقيتها» التي أريد لها أن تختزل صورياً في أغنية. لنتفق أولاً على أنّ اللحظة لم تكن تلفيقية أبداً، بل كانت حقيقية فعلاً، ومفعمة بالأمل والرغبة في التطهّر مما اعتبره أولئك الشباب «إسهاماً منهم» سابقاً في تكريس «النظام القديم». هي إذاً لحظة تطهّرية بامتياز. ولأنّها كذلك لم يكتب لها الاستمرار طويلاً، إذ غالباً ما ينفرط «الإجماع» الذي ينبني على لحظات مماثلة بمجرد انتقاله من الحيز الرمزي إلى حيز الفعل والانخراط الجدي (لا الصوري) في السياسة. والسياسة في مصر بعد «الثورة» تقلّصت إلى حدود الميدان فحسب. هناك كانت تصنع «التوافقات» بين القوى المؤتلفة، وهناك أيضاً كانت تطبخ شعارات ذمّ المجلس العسكري و«فلول» النظام القديم. طبعاً ما يحصل هنا هو «السياسة بعينها»، لكنّها سياسة مقطوعة الجذور بعض الشيء، وليس لها امتدادات فعلية داخل المجتمع. الطرف «الميداني» الوحيد تقريباً الذي كان له «امتداد أفقي» مجتمعي هو الإخوان المسلمون (والسلفيون بدرجة أقل) نتيجة للفعل التراكمي الذي أحدثه انقطاعهم القسري عن السياسة، وانخراطهم بدلاً من ذلك في تجذير القاعدة الاجتماعية التي شكلت رافعة لعودتهم السياسية حال رفع الحظر عنهم. ومع ذلك لم يظهر أن سياسة هؤلاء كانت ناضجة كفاية، بدليل أنّ الروافع الشعبية التي أفنوا عمرهم في بنائها لم تسعفهم كثيراً في الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية. ذلك أنّ التصويت العقابي على أدائهم الهزلي والرجعي في البرلمان، قد أتى ليعطل مفاعيل تلك الروافع، وليحرمهم تالياً معظم أصوات المراكز المدينية التي هم داخلها بكثافة غالباً (الإسكندرية، السويس ...الخ)، لكن في المقابل لم يعن تصويت هذه المراكز «للتيار الراديكالي»، الذي مثّله حمدين صباحي، أنّها قد سامحت الكتلة الاحتجاجية الصلبة على ميوعتها ووقوفها جنباً إلى جنب مع اليمين الديني في مناوشاته السلطوية المستمرة للعسكر. ثمة ما يجب أن يقال هنا: كلّ ما فعله ميدان التحرير حتى الآن هو ذاك تحديداً، أي مناوشة العسكر من موقع التحالف مع الإخوان المسلمين. لم تجرؤ الكتلة «الثورية» الصلبة على بلورة سياسة فعلية تنأى بها عن المناوشات المبتذلة بين العسكريتاريا الفاشية والإسلام السياسي النيوليبرالي. وهذه ليست في حال من الأحوال دعوة إلى «النأي بالنفس» عن الصراع، بقدر ما هي رغبة في تجذيره ونقله من ضفة إلى أخرى. من ضفّة التوافق مع جناح يميني في معركته ضد جناح يميني آخر، إلى ضفّة فضّ فكرة «التوافق» مع اليمين أساساً. وإذا قدّر فعلاً لهذه الفكرة أن تجد طريقها إلى الميدان، فسيكفّ الجمع الذي يلتقي فيه كل نهار جمعة عن كونه تلفيقياً، وسيبدو الفرز الذي يحدث داخله أقرب إلى السياسة منه إلى صيغة الكرنفال، الذي يدّعي السياسة. بهذا المعنى يغدو مفهوماً ألا يكون غناء «الشاب السلفي» لأغنية محمد منير حقيقياً تماماً. هو حقيقي فعلاً، لكن «الإجماع» الذي أتى فعل الغناء في سياقه لم يكن كذلك. وما فعلته الميديا اليمينية المهيمنة في هذا الخصوص هو تأكيد المؤكد ليس إلا. فقد احتضنت ما قالت إنّه «إجماع وطني» في البداية، عندما كان يلائم مصالحها، وتخلّت عنه لاحقاً، بعدما كفّ عن قدرته على استقطاب مشاهديها وتمويل دعايتها النيوليبرالية. والميديا الوظيفية في مصر مثلها مثل الميديا العميلة لرأس المال النفطي والفرانكوفوني، في تونس والخليج واليمن استطابت فكرة التسويق «لإجماع» عابر للتموضعات الطبقية، وظنّت أنّ بيعها للخردة الثورية سيعفيها لاحقاً هي ومن يموّلها من تبعات الصراع الفعلي، ويجنّبهما «ويلاته». اليوم يكتشف هؤلاء شيئاً فشيئاً أنّ الثورة التي باعوها ملوّنة للناس، لها امتدادات طبقية على الأرض. قد ترتدي هذه الامتدادات شكلاً قبلياً كما في ليبيا (يجب ألّا نغضّ الطرف كلّ مرّة عن الطابع الاستعماري الفظّ «للتغيير» الدموي البشع في ليبيا) واليمن، وقد تأخذ «شكلاً طائفياً» كما في سوريا، لكنّها تبقى في النهاية تعبيراً عن حراك جماهيري راديكالي يتمرّن على السياسة، ولا يمانع في أخذها «طبقياً» إلى حدودها القصوى.قبل فترة كتب جمال جبران في «الأخبار» من صنعاء عن التناقض الآخذ في التبلور بين شباب ساحة التغيير في اليمن. النص طويل بعض الشيء، لكني سأحاول أن أُجمل خلاصته في عبارة نقلها الزميل جمال عن إحدى شابات الثورة اليمنية: «وفي تفسير لما يحدث الآن بين هذين الفصيلين (أي شباب الحوثيين وشباب التجمع اليمني للإصلاح)، كتبت إحدى شابات الثورة على صفحتها على «الفايسبوك»، تقول: في البدايات كانوا يتحدثون عن معجزات الساحة التي جمعت الحوثي بالإصلاحي في وئام وانسجام. وكنا نقول لهم: الساحة ليست اليمن، الإصلاحيون والحوثيون يقتلون بعضهم بعضاً في الجوف. تتحدثون عن انسجام واهم، لكنّ أحداً لم يكن يريد أن يسمع. وأضافت: كانت المرحلة تتطلب لغة زائفة. في النهايات لا شيء تغير. هي مثل البدايات. لكن بدون أوهام. وحين ينتهي الوهم تتحسّن فرص المعالجة». ثمّة في هذا الكلام ما هو أكثر من النضج السياسي. هنالك في النص الذي كتبته هذه الفتاة قطيعة فعلية مع نهج سياسوي بدا أنّ «الانتفاضات» في طريقها إلى تكريسه، لو لم يتعثّر نهجها الصوري. طبعاً لا تدعي صاحبته أنّها بصدد إعادة الاعتبار إلى الانقسامات السياسية الفعلية، أو ما يشابهها، إلا أنّ ادعاءها المعرفة في شؤون ما يحصل في اليمن ما بعد صالح هو أفضل ألف مرة من «جهل البعض» أو تجاهلهم ما يحصل في بلدانهم. وما يحصل هناك، وخصوصاً في مصر وتونس (حيث لا دماء كثيرة يجب توظيفها في تلفيق تناقضات وتوافقات وهمية)، هو أنّ الهشاشة المجتمعية لم تبلغ حداً تغدو معه مغادرة الاصطفافات المعلبة أمراً لا مفر منه. من الممكن أن يدفع الصدام المتعاظم بين السلفيين وقطاعات مجتمعية عريضة في تونس إلى انزياحات مماثلة، ومن الممكن أيضاً أن تبلور القطيعة المفتعلة بين العسكر والإخوان في مصر وعياً بدأ ينأى بنفسه عن الاثنين معاً. غير أنّ ذلك على أهميته لا ينفي قصور الحركة الاحتجاجية في البلدين عن بلوغ ربع ما بلغته تلك الشابة اليمنية عندما فضحت المستور، وأظهرت ما تواطأت كل الكتل الجديدة على إخفائه طوال عام ونصف عام من الحراك في المنطقة. وخروج كلام مماثل من اليمن لا من مصر وتونس يعني أنّ الدول التي تعرّضت لتصدعات اجتماعية فعلية هي الأكثر قدرة من غيرها على احتضان مراجعات حقيقية لطبيعة الحراك الحاصل. لنتذكّر معاً أنّ البيئات التي صدرت عنها مراجعات جدية لتجربة الحرب الأهلية في لبنان هي تلك التي طاولها التصدّع الأهلي أكثر من غيرها، بحكم تنوعها وتعدديتها وصدورها عن حساسيات طبقية وطائفية ومناطقية مختلفة. وإذا بدأ هذا التيار الجنيني بالتوسع أفقياً (لا عمودياً) في اليمن لدى الأوساط الأكثر اختلاطاً والأقل تماسكاً من الناحية الطائفية والقبلية، فذلك يعني أنّه سينقل عدواه بالتواتر إلى الكتل الشعبية التي تنشط في بلدان لا تقل تصدّعاً وانعداماً للمناعة من اليمن.
كان ممكناً في ظروف مغايرة أن تكون سوريا هي المسرح المقبل لتلك المراجعات، لكن إمعان النظام في تفتيت المساحات المشتركة بين السوريين، واستماتته في إبعاد شبح ميادين التحرير عن ساحات المدن السورية، فوّتا على السوريين فرصة مماثلة. وهي فرصة كانت ستسمح لهم بأن يتمرّنوا قليلاً على السياسة، وبأن يبتلعوا بعضاً من سموم التوافقات اللفظية و«الإجماعات» الوطنية العابرة للتموضعات الطبقية، تماماً كما حصل مع نظرائهم في مصر وتونس. ربما لو فعلوا ذلك لكانوا قد حازوا قليلاً من المناعة، ولوصلوا إلى خلاصات شبيهة بتلك التي وصلت إليها الفتاة اليمنية الشجاعة صاحبة التعليق أعلاه. حبّذا لو يصل صوتها إلى من لا يزال يعتقد أن صراخه في الميادين كاف وحده لتجاوز الاستقطاب وبناء «الإجماع»، لكن أيّ استقطاب وأيّ «إجماع»؟
* كاتب سوري