«أين مهدي؟سيأتي ليَجْبلَ طيناً بدَمْ
وسيأخذُ عظماً ويكسرُهُ فوقَ ركبتِهِ
ليُرينا البياضَ الأهمّ»
حسن عبدالله


يثير الصراع العنيف الدائر في سوريا منذ ربيع 2011، أزمة أخلاقية لدى المثقفين الجادين. فالعنف الوحشي من كلا طرفي الصراع، لا يترك للمثقف سوى فرصة النأي بالذات عن السياسة، للتفجّع على الدم. وسيبدو هذا الموقف الانسحابي أفضل الحلول الأخلاقية، إنما تكمن مشكلته الجوهرية في كون صدقيته تقوم على نبذ أيّ روابط بين ـــــ ذاتية، بينما هو، وحالما يجري التعبير العلني عنه، يمثّل اقتراحاً يتجاوز الذات، أيّ إنّه ينخرط تواً في السياسة، حيث الانسحاب تورّط صريح في موقف سياسي.

في السياسة، هناك أزمة أخرى. فقضية نظام الرئيس بشار الأسد واضحة من حيث إنّها قضية الدفاع عن سوريا موحدة علمانية معادية لإسرائيل، في مواجهة قوى إقليمية ودولية تسعى إلى تفكيك البلد باستخدام عناصر طائفية ورجعية وإرهابية، لكن قضية النظام مشوّشة من حيث أنّه، وليس سواه، من فتح الثغرة لمتلازمة النيوليبرالية والفساد والاستبداد، تلك التي فككت المجتمع السوري، وفجرت الاحتجاجات الشعبية أصلاً. لذلك، يبدو الصراع، من هذه الوجهة، بلا معنى. فالحرب المشتعلة اليوم ضد سوريا هي تصعيد لسياسات تبناها النظام نفسه، كاللبرلة الاقتصادية، وإفساح المجال، وبقرار سياسي، لتعظيم مكاسب الفئات الكمبرادورية من وكلاء المصالح الأجنبية (وخصوصاً التركية) على حساب المنتجين المحليين، وتجميع عناصر النفوذ السياسي والاقتصادي في شبكة واحدة، والتركيز على القطاعين العقاري والمالي، وتالياً، تهميش الريف وإفقار جماهير الكادحين.
ولم يتوقف النظام السوري لحظة لمراجعة حقيقة أنّ القوى الإقليمية التي تخوض اليوم الحرب الضروس ضده، هي نفسها القوى التي عمل على تطوير العلاقات الخاصة معها، وعلى رأسها تركيا ـــــ الطامعة في الهيمنة على سوريا. وقد واتتها الفرصة مرتين، مرة بحرارة الحب ومرة بحرارة الحرب. وبالنسبة إلى قَطر، سيكون مدهشاً ألا تكون دمشق مطلّةً، خلال شهر العسل الطويل مع الدوحة، على صلاتها الإسرائيلية العميقة. يمكننا القول، بكثير من الثقة، إنّ دمشق هي التي اختارت المآل الكارثي الحالي بنفسها، مراكمةً الأوهام حول إمكان جمع التناقضات وإخضاعها.
بالمقابل، فإنّ قضية المعارضة السورية واضحة وبسيطة للغاية من حيث أنّها تريد إطاحة نظام مستبد وعنفي في سياق الموجة «الديموقراطية» في العالم العربي، لكن، كل ما عدا ذلك يتسم بالغموض الشديد. بطبيعة الحال، هناك نصوص معارضة تتحدث عن «دولة مدنية وديموقراطية»، بل إنّ بعضها يلامس المشكلات الاقتصادية الاجتماعية من منظور شعبي، لكن قوى المعارضة المحاربة الرئيسية، وبسبب عجزها الداخلي وافتقارها إلى رؤية وطنية اجتماعية مضادّة، لا يعود أمامها سوى التحشيد الطائفي، وسوى السلاح والإرهاب. وهنا، تتحوّل، موضوعياً، إلى أداة للقوى الإقليمية والدولية الداعمة، وتغدو، شاءت أم أبت، متحالفة أو أقله، متسامحة مع المتحالفين منها مع إسرائيل. ببساطة، لا يستطيع المرء ألا يرى أنّ المعارضة السورية، في ثقلها الرئيسي، قد تحوّلت إلى قوة معادية لسوريا لا للنظام السوري. وهو ما يمنح الأخير، موضوعياً، موقع ـ وشرف ـ الدفاع عن الوطنية السورية.
ستؤدي هذه المعادلة التي نشأت، برغم أطرافها، إلى تعقيد استثنائي في القضية السورية، بحيث لا يمكن استنساخ النموذج المصري أو اليمني فيها. الجيش السوري يقاتل دفاعاً عن البلد، لا عن نظام فقد شعبيته. أما تنحّي الرئيس الأسد، فلن يكون، هنا، مأثرة «ديموقراطية» منه ولا مدخلاً للتسوية الداخلية، بل سيكون، ببساطة، خيانة صريحة للجمهورية العربية السورية، ولن يقود إلى سلام، بل إلى حرب أهلية مشبعة بالأطراف الثالثة من الإرهاب الأعمى. كأنّها عقدة من التراجيديا الإغريقية؛ فأقدار الصراع لا تسمح مطلقاً للأسد بأن يكون رئيساً سابقاً يحظى بـ«ممر آمن» أو بـ«محاكمة عادلة»، بل سيكون رئيساً خائناً. التنحي، في النموذج السوري الراهن، أصبح يساوي الخيانة وتوقيع قرار انفراط البلد. وبهذه المفارقة القَدريّة، يتضح للرائي أنّه لا تسوية في سوريا إلا بالرئيس الأسد، لكن بوجوده، لن يُكتب النجاح، ولو جزئياً، لاستراتيجية القوى الإقليمية والدولية المعادية، وستخسر المعارضة السورية، المعركة، نهائياً، وتُطوى صفحتها في ملف الجاسوسية. لذلك، لا توجد أسس للتسوية في سوريا، والصراع سيستمرّ بلا حل في المدى المنظور.
يدرك الروس هذا التعقيد بدقة وعمق، ولذلك فإنّهم، في كلّ مساعيهم التسووية للصراع في سوريا، يرفضون مناقشة تنحّي الأسد، لكنّهم يصرون، بالمقابل، على المثابرة على استكشاف فرص التسوية. وهو موقف مسؤول، لكن لا أظنه واهماً، وإنما هو يمثل الشكل الدبلوماسي الملائم لإدارة المعركة على المستوى الدولي.
هنا، نكون قد وصلنا إلى التعقيد الكبير؛ فالصراع في سوريا ليس فحسب صراعاً متقاطعاً مع خطوط الصراع الدولي، وإنما هو محور هذا الصراع المتصاعد الآن. سوريا ليست مجرد حليف لموسكو، بل هي قضية أمن قومي لروسيا، وأكثر من ذلك هي قضية المكانة والدور اللذين يخطط الروس لاحتلالهما، بوصفهما ضرورة حياة لوحدة روسيا ونهضتها، في نظام دولي جديد يتشكّل. وفي مضامين تشكّله واتجاهاته، ستتبدى ملامح القرن الحادي والعشرين.
التصريحات الصادرة عن وزارات الخارجية، تدور عادة وبطبيعة المهنة، حول السياسة اليومية، لكن وزارة الخارجية الروسية، فاجأتنا، في سياق انعقاد قمة بوتين ـ أوباما، في لوس كابوس بالمكسيك الأسبوع الماضي، بتصريح هو أقرب إلى رؤية محلل استراتيجي: مضمون التسوية في سوريا سيحدّد مضمون النظام الدولي الجديد. نحن، هنا، بإزاء حادثة استثنائية في الخطاب السياسي. فبالنسبة إلى الروس لم تعد هناك مسافة بين اليومي والاستراتيجي. اليومي أصبح استراتيجيا بامتياز، ونقطة التقاطع الرئيسية بينهما إنما تقع في سوريا.
لا يساورنّ أحد الوهم بأنّ موسكو سوف تتخلى عن الرئيس الأسد ونظامه، ولن يكون هناك قرار أممي ضده لا تحت الفصل السابع ولا تحت سواه، ولن يكون هناك عدوان أطلسي ضد سوريا، ليس لأنه سيجرّ إلى حرب عالمية، وإنما لأنّه، قبل ذلك بكثير، سينسف تفاهمات دولية في مجالات شتى، أهمها الاقتصادية والمالية، لا تستطيع الولايات المتحدة وأوروبا، المنهكتان حدّ الإعياء، احتمال نتائجها. وقد تظهّر ميزان القوى العالمي الجديد هذا في تفاهم بوتين ـ أوباما حول «الاتفاق على الاختلاف»، أي على الاعتراف المتبادل بالمصالح والسياسات وحدود الصدام.
كيف سيتبدى ذلك في لقاء مجموعة الاتصال الدولية حول سوريا في الثلاثين من حزيران الحالي؟ هل هناك فرصة غير «الاتفاق على الاختلاف» مرة أخرى؟
مع اقتراب موعد ذلك اللقاء، عمد التحالف الغربي الخليجي التركي إلى التصعيد: أولاً، بتكثيف تحركات الدعم العسكري والمالي والأمني للمعارضة السورية المسلحة. فوفقاً لتقارير صحفية غربية، تزايدت وتائر التسليح الفعال لما يسمى «الجيش الحر»، وقررت السعودية صرف رواتب عناصره بالدولار، وأقامت تركيا مكتباً عسكرياً له في إسطنبول، وتكثفت لقاءات قياداته بممثلي الاستخبارات الأميركية، وثانياً، بالعودة إلى ممارسة الضغوط الخارجية والداخلية على عمان لتوريطها في التدخل في الشأن السوري. فبعد ساعات من نداءات أميركية للضباط السوريين بالانشقاق، هبطت (الخميس 21 حزيران 2012) طائرة ميغ 21 سوريا في قاعدة جوية أردنية، واضطرت الحكومة الأردنية إلى منح قائدها حق اللجوء السياسي، بينما تتجه إلى إعادة الطائرة المخطوفة إلى السوريين رغم «نصائح» واشنطن والرياض.
يأمل الأميركيون أن تكون الميغ 21 الهاربة، الأولى من بين موجة فرار وانشقاقات في سلاح الجوّ السوري. وقد حدث، السبت (23 حزيران الحالي) أن تسلل ثلاثة طيارين سوريين سيراً على الأقدام إلى الأردن عبر الحدود. ولعل واشنطن، بترتيب هروب الطيّار المرتبط مسبقاً بالجهات الاستخبارية الأميركية، أرادت أن تعطي الإشارة إلى اعتماد جهة فرار وتجمّع في القاعدة الجوية الأردنية في محافظة المفرق المحاذية لسوريا والمفتوحة نحوها، والتي يسعى الإخوان المسلمون، منذ صيف 2011، إلى تحويلها إلى حديقة خلفية للمعارضة السورية المسلحة. ولا يمكن للمرء أن يتجاهل العلاقة بين هذا التطوّر وإقدام «الإخوان» على تناسي الشأن المحلي في نشاطهم المركزي يوم الجمعة 22 حزيران 2012، وتكريسه لعقد مهرجان استفزازي أمام السفارة السورية بعمان.
ومحور التصعيد الثالث، جاء من تركيا، متزامناً مع جمعة استنصار «الشعوب» ضد الرئيس الأسد، بمحاولة استباحة المجال الجوي السوري. وهي محاولة باءت بالفشل تواً حين ردت دمشق بإسقاط المقاتلة التركية المعادية، تاركةً أنقرة تتلعثم وتستعين بالسوريين للبحث عن الطيارين التركيين المفقودين، بينما يتواقح قادتها بالوعيد الفارغ. وسوريا تردّ، من جهتها، بتصعيد نوعي، أمنياً وعسكرياً وسياسياً:
التصعيد الأمني الراهن واسع وفعّال، ويعوّض أشهراً من التباطؤ في معركة الحسم مع أوكار الإرهاب، لكن لا يزال ينقصه الحزم والدقة وإتقان العمليات الجراحية في تطهير المناطق المبتلاة بالإرهابيين. ولا يزال ينقصه، خصوصاً، الرد خارج الأسوار، ليس في تركيا عبر حزب العمال الكردستاني فقط، وإنما في قلب السعودية والخليج؛ فلا مناص من تأديب شيوخ النفط الوهابيين في عقر ديارهم.
ويقع إسقاط الدفاعات الجوية السورية لطائرة الـ«إف 4» التركية في مكان وسط بين الرد العسكري والرسالة السياسية. سوريا تستطيع تقنياً، ولديها القرار بالرد على أدنى سلوك عسكري عدواني من قبل تركيا.
التصعيد السياسي ـ وهو الأهمّ ـ يتمثل في تشكيل الحكومة السورية الجديدة. فعلى الضد من اتجاه الربيع العربي الخليجي الأميركي لاستكمال اللبرلة الاقتصادية ونزع الوطنية وفرض الأسلمة الوهابية في البلدان العربية، أحلت دمشق، شيوعياً متماسكاً منادياً بالاشتراكية هو قدري جميل، محلّ النيوليبراليين، في قيادة الاقتصاد الوطني، واعترفت بأطروحة الحزب السوري القومي الاجتماعي لإعادة تأسيس وعي المجتمع السوري بنفسه كمجتمع قومي مشرقي، من خلال تولية رئيس الحزب، علي حيدر، شؤون المصالحة الوطنية. سوريا الدولة، سوريا الممانعة والمقاومة، عانت وتعاني ثغرتين، أولاهما غياب النهج الاقتصادي الوطني الاجتماعي، وثانيتهما غياب الأيديولوجيا الوطنية اللاحمة للأطراف السورية. فلا ممانعة ولا استقلال مع سيطرة النيوليبرالية والكمبرادور، ولا لحمة وطنية مع سيطرة أيديولوجيا تتخطى الحدود القُطرية في محيط عربي يتصلب على خصوصياته. وإذا كانت سوريا لا تستطيع اعتماد وطنية ضيقة بسبب مركزيتها الإقليمية، فإنّ الأطروحة السورية القومية تبدو حلاً وسطاً مطابقاً للاحتياجات المحلية في مداها الإقليمي المشرقي معاً.
قدري جميل، المتخصص الضليع في شؤون الأزمة المتفاقمة للرأسمالية العالمية، ليست لديه أوهام حول الاستثمارات الخارجية وحرية السوق الخ، ويدرك بعمق النتائج الكارثية لحرية التجارة على المنتجين والعمال المحليين، والآثار المخربة للتركز الرأسمالي في قطاعي العقار والمال، وخصوصاً في تهميش الريف. وهو يقف، بطبيعة الحال، في صف القطاع العام والتعاونيات والفئات الشعبية والمتوسطة، وفي صف الزراعة والصناعة والتنمية الوطنية المستقلة.
وتوزير قائد شيوعي بهذه الصفات، وفي موقع قيادي بالنسبة إلى الشؤون الاقتصادية، يعني أنّ القيادة السورية قد حسمت أمرها أخيراً وقررت التراجع عن النهج النيوليبرالي الذي استمر حوالى العقد في سوريا، وأدى إلى تشقق المجتمع السوري.
ليست لدي أوهام بالطبع، وأعرف أنّه أمام الرفيق قدري جميل الآن صعوبات شتى، أهمها أنّه سيقوم بمهماته في ظل حرب إرهابية تدميرية تشنها قوى الاستعمار والرجعية على سوريا، وثانيتها أنّ حجم الخراب اللاحق بالاقتصاد السوري، كبير، وثالثتها أنّ الإصلاحات التقدمية المطلوب إجراؤها اليوم سوف تصطدم بشبكة من رجال الأعمال المتنفذين والفاسدين، وخصوصاً أولئك المحسوبين على النظام السوري نفسه.
لكن، رغم كل ذلك، فإن وضع الشأن الاقتصاد السوري تحت قيادة شيوعي عفي من الفيروس الليبرالي، له دلالة سياسية لا تخطئها العين؛ إنّ الرئيس الأسد يسير في الاتجاه الصحيح، ويعرب عن إدراك أعمق وأعمق بأنّ كسب الحرب ضد التدخل الإمبريالي الرجعي في الخارج، يتوقف على شن الحرب الداخلية ضد الكمبرادور والفساد الكبير، ومن أجل اقتلاع النيوليبرالية، العدوّ الداخلي الأخطر على سوريا.
وليست لدي أوهام أيضاً بشأن مصاعب الانتقال الأيديولوجي في سوريا نحو اعتماد اللحمة السورية والمشرقية، لكن توزير القائد القومي الاجتماعي، علي حيدر، ليس توزيراً لقائد سياسي يتمتع بالصدقية فحسب، وإنما أيضاً هو اعتراف بالحاجة إلى المصالحة الوطنية، وبالمنهجية التي اقترحها القوميون الاجتماعيون لإجراء المصالحات بين الفئات السورية المنزلقة إلى الصدامات والثارات، بالحوار الميداني واجراء التفاهمات والتسامح في ظل الولاء لسوريا، الوطن والهوية، وفي ظل العلمانية. عناصر المشهد السوري اليوم هي كالتالي: ستاتيكو ناجم عن توازن القوى الدولي يحول دون الغزو الخارجي، لكنّه يحول أيضاً دون الحسم السريع والنهائي للتمرد الرجعي الإرهابي. وداخل هذا الستاتيكو، سوف تتواصل حرب المواقع، أمنياً وسياسياً وإعلامياً.
لن ينتهي التصعيد بعد جنيف بالطبع. فما هو قيد التفاهم الدولي ليس التسوية المستحيلة، بل تحديد أُطر التصعيد الممكنة وضمان عدم تجاوزها. سوف يستمر الروس في تقديم كل أشكال الدعم للنظام السوري، وسوف يستمر الحلف المعادي في تعضيد المعارضة وتسهيل تسلّل الإرهاب إلى سوريا. المعركة مستمرة ولن يحسمها غير الدم، الكثير من الدم المقدَّر له أن يسيل كما في تراجيديا إغريقية.
لستُ بلا قلب، وضميري يقظ تماماً، وأنا أدرك جيداً عمق المعضلة الأخلاقية التي تبهظ روح المثقف الجادّ المستقل، إزاء العنف المتبادل في سوريا، لكنني مضطر، هنا، إلى الانحياز إلى جانب سوريا الدولة، ليس تحت ضغط التخندق السياسي اليومي، بل لأنّ ذلك الانحياز يمثّل، اليوم، المعنى الوحيد الممكن للمثقفية المسؤولة إزاء التاريخ وإزاء القيم وإزاء الدم.
لن أقف على الحياد بين عملية تاريخية صاعدة لبناء عالم متعدد القطبية باحتمالاته الخصبة لإنقاذ البشرية من البربرية الغربية واستعادة التوازن الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي على المستوى الكوني، وبين محاولات القوى الإمبريالية والرجعية المتوحشة والظلامية لاستمرار تحكمها البشع في العالم والشعوب والكادحين والمثقفين والمبدعين.
لن أقف على الحياد بين قيم الحضارة السورية التي قد يضغطها الاستبداد حيناً من الدهر ويمضي، وبين قيم الصحراء المولّدة للاستبداد الشامل والموت واللاحضارة على طول الخط.
لن أقف على الحياد بين بشار الأسد وقدري جميل وعلي حيدر، وحمد بن جاسم وأردوغان والعرعور وبسمة قضماني...
لن أقف على الحياد بين سوريا... وإسرائيل.
لن أقف على الحياد بين دم الجيش العربي السوري ودم الإرهابيين والمرتزقة، وإنْ تكن دماء الأبرياء تحرق قلبي، لكن، لأنّها تحرق قلبي، أريد حسم المعركة في أقرب وقت لصالح سوريا الدولة، لئلا تظل الدماء تلطّخ خرائب سوريا مفككة بائسة، جيلاً كاملاً... وربما أكثر.

شرق الأردن: حفريّة أولى في المجال السوسيو ــ ثقافي



يسعى النص التالي إلى القيام بحفرية أولى استكشافية في المجال السوسيو ــ ثقافي الخاص بشرق الأردن. وللحفرية، بحد ذاتها، شرعية ولذّة، لكنّني لا أخفي أن القصد من ورائها هو خطوة في فض التباسات الهوية المحلية التي تمثل إشكالية راهنة في السياسة الأردنية.
كلّ مناحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع الأردني التقليدي، نصف البدوي ـ نصف الفلاحي، يمكن تكثيفها في ميثولوجيا الضيافة. فالضيف ليس هو الشخص الزائر، وإنما هو تجسيد لزيارة المطلق إلى المطلق في المطلق. الضيف هو «ضيف الله»، والضيافة ضرب من عبادة.
الضيافة، كما لاحظ جاك دريدا، هي «قانون إنساني مطلق وغير مشروط ويتسم بالغلوّ؛ أنْ نعطي للقادم كل مأواه وذاته وخصوصيته وخصوصيتنا من غير أن نطلب منه لا اسمه ولا مقابلاً»، إنما في «تناقض (مستمر ومستحيل) مع قوانين الضيافة ذاتها» التي تجعلها مشروطة بتفصيلات معقدة.
في هذا التناقض تنكشف الضيافة (نصف البدوية ـ نصف الفلاحية) لا عن أعراف كرم نبيل فقط، وإنما عن شبكة علاقات تنغرس ماديتها بصلابة في مجمل عملية إنتاج الحياة نصف البدوية ـ نصف الفلاحية، وإعادة إنتاجها، لكن الإنسان، بالطبع، يهرب من ثقل الشروط المادية إلى رهافة المطلق وتلاوين الثقافة الروحية.
من سوء حظ دريدا أنّه لم يتمكن من أن يطلع على غنى التجربة الإنسانية للضيافة، كما تجلت في مجتمع عربي عشائري غير منقسم طبقياً ومهجّن بين البداوة والفلاحة. لكانت تلك التجربة قد أسهمت في تعميق أسئلته الفلسفية بشأن الضيافة. البدوي ـ الكامل البداوة ـ ليس مضيفاً إلا في شروط محددة. إنّه مقاتل بالدرجة الأولى. وجمله ليس وسيلة إنتاج، بل وسيلة نقل يمكنها أن تحمله وتمنحه السوائل داخل الصحراء التي تحميه من مطاردة الجند. البداوة علاقة سياسية تؤمن مستلزمات حياة البدوي. وضيافة البدوي يمكن فهمها في سياق هذه العلاقة فحسب؛ أي كنظام من الشروط المرافقة واللازمة للعلاقة السياسية داخل البداوة نفسها، وليس خارجها، حيث الخارج (الفلاحين والدولة) هو الجهة التي تتنازل للبدوي عن قسم من الثروة المنتجة أو المحصّلة من المنتجين، لقاء تلافي الحرب.
الفلاح هو الآخر ليس مضيفاً بالمعنى المطلق. إنّ مبلغ كدحه، المهدد من الطبيعة والدولة والبداوة باستمرار، لقاء حياة من الكفاف، يدفعه إلى الحرص. الحرص هو أساس الثقافة الإنتاجية للفلاح الكادح الحذر المتشكك الذي لا يضمن له شقاؤه في العمل المضني، نتائج أكيدة، بل محتملة ومعرّضة للخطر.
لكن، ماذا إذا استقرّ البدوي في مرتفعات وأودية زراعية على سيف الصحراء، كما هي حال شرق الأردن؟ سوف يتخلى عن الجمل ويفلح الأرض ويرعى الغنم، لكنّه لن يتحوّل إلى فلاح أبداً. فطالما أنّه مهدد من الصحراء المحاذية باستمرار، سيحتفظ بسلاحه وبعضوية المنظمة السياسية ـ المقاتلة التي هي العشيرة القائمة على نسيج معقد من قرابة الدم والنسب والتحالفات. وبقدر ما يحتاج إلى عضوية العشيرة، سيخضع لشروطها؛ فلا مُلْكية فردية خاصة للأرض التي تظل مُلْكاً جماعياً، ولا تحلّل من التزامات العلاقة السياسية مع القريب والحليف، ولا تخلّيَ عن ثقافة القتال، ولا خضوع فردياً للدولة، ولا خوف على الذات والعائلة من الفشل والجوع في ظل نظام تضامني.
النسبة الغالبة من الأردنيين هم ذلك البدوي الذي تحوّل منتجاً فلاحياً، وبقي عضواً في عشيرة. إنّه نصف بدوي ـ نصف فلاح، متحرر من الاشتراطات البدوية والفلاحية معاً. وهكذا، سيكون لدينا المضيف المنسجم مع قانون الضيافة المطلق. رجل حر يملك غذاءه وشرابه، يغادر مستقرّه القروي إلى عزب ناء عن بيته الدائم، في حقل لزرعه أو كرم لدواليه وتينه أو مرعى لغنمه. هنا، حيث يقيم في مصفوفة من الحجارة الغشيمة يدعوه « قصراً» أو في كهف أو في خيمة، وحيداً عَزَباً، سوف تمرّ به لتلقى الضيافة. الضيافة، في هذه الحالة، ليست خياره. إنّها واجبه المحتوم المؤكد الذي لا فكاك منه، إزاء الغريب. إنّه، وقد تموضع في عزب للعمل وأعدّ عدّة الإقامة في الخلاء، موئلاً ومأكلاً ومشرباً، منذورٌ كلياً لكي يكون مضيفاً. ليس بمستطاعه ألا يكون مضيفاً، وليس على الغريب المارّ أن يسأله الضيافة، أو حتى أن يخطر في باله أن لا يلقى الترحاب الأكيد من مضيف مطلق، يد الله هي التي صاغته كمضيف ليس له خيار. ليس كريماً، بل هو موجود، هنا والآن، لكي يستضيف الغريب المارّ في خلاء لا يتركه الله بلا مستراح أو نار أو طعام أو شراب، لدى مضيف هو المسمى المعزّب ـ المعزبين.
المعزّب ـ المكرَّس للعمل في العزب ـ لا يُعرَّف بعمله أو بشروط عمله، لكنّه يتماهى مع كونه المضيف الخاضع لاشتراطات وظيفة مطلقة لا يعاندها، والكلّي الجود، الرّحب المراح والصدر، والمُلهَم بكرم اللسان، بالبِشر يطفح من وجه مأمور بتلقّي عيون الضيف بعبودية الضيافة. «وإني لعبدُ الضيف...» هذا ما يُسمّى «الملاقاة».
تغدو هذه الوضعية مطلقة، بالانتقال من العزب إلى المستقرّ. فالمضيف، في منزله الدائم، هو معزّب أيضاً. وحالما يحلّ الضيوف يصبح أهل البيت معزّبين، بل تنتقل الوضعية إلى الزوجة، فهي معزّبة لزوجها. وفي ذلك معنيان، أنّ بيت الزوجية هو بيت الزوجة، وأنّ زوجها مكرّمٌ في جنباته كضيف، وله، إضافة إلى حقوق الزوج، حقوق الضيف أيضاً! لكن المرأة التي ترافق الرعاة أو الحراثين، في العزب، لتطهو طعامهم، تدعى عزبيّة وجمعها عزبيات.
لكن، لمَ يكون المعزّب ـ المضيف، رابحاً، بل ربّاحاً؟ هو كذلك لأنّه أولاً، يستجيب للواجب المطلق، يربح الضيف ويربح كرامته الإنسانية في مجتمع يلتئم على الضيافة. ثم إنّه يربح، ثانياً، التكريم المعنوي، وثالثاً، التكريم الفعلي حين ينقلب بدوره إلى ضيف، ليس على أمل السداد، لكن في سياق مطلق أيضاً.
على مستوى عملي، يربح المعزّب، إطعام أهل بيته وعزوته وجيرته. فالضيافة هي إحدى المناسبات المعدودة التي يجري فيها ذبح الخراف في اقتصاد انتاجي يتعامل مع الحلال كوسيلة لإنتاج الحليب ومشتقاته من جميد وسمن (وأيضاً الصوف والشعر) وكسلعة نقدية، لا كموضع استهلاك. الأرادنة ليسوا آكلي لحوم، ومائدتهم تقوم على الحليب والقمح. ولذلك، فإنّ ذبيحة الضيف، تعدّ مغنماً للمعزّبين ومَن هم حولهم بوصفها احتفالاً بأكل اللحم المطهو باللبن الجميد مع جريش القمح المفلفل بمرق اللحم والسمن (المنسف).
لا يزال المنسف سيّد المائدة الأردنية، والأكلة الألذ لدى الأرادنة، والطعام المعتمد في الأعراس والمآتم واللقاءات العشائرية والسياسية. ورغم أنّه تحوّل إلى طبق يُقدّم في مطاعم عامة أو يُطهى لغداء العائلة أو عشاء الأصدقاء، فإنّه لم يفقد هالته الأسطورية في الثقافة الشعبية الأردنية، ولا موقعه كعلامة سياسية.
ليس المنسف مجرد طبق، بل هو تكثيف ثقافي لشخصية شرق الأردن الاقتصادية والاجتماعية. ففي هذا الطبق ـ المبجّل، تقليدياً، كطعام ذي رمزية ثقافية ـ يتحد عالمان، عالم البداوة المستقرة (ومنه لحم الضأن ومريس اللبن الجميد والسمن) وعالم الفلاحة البعلية (ومنه طحين عويص الشراك وجريش القمح أو البرغل أو الفريكة).
والمنسف ليس طبقاً بدوياً بالتأكيد. فلا لبن الإبل صالح للخض والجميد والطبخ، ولا لحم النياق صالح ليطهى في اللبن لأنّه، في هذه الحالة، يشدّ ويقسو ولا يؤكَل. وإنما يطبَخ لحم النياق بالماء، ويُسكَب مرقه على فتيت الخبز الشراك، ويوضَع فوقه اللحم المسلوق. وهذا هو الثريد المشهور عند العرب. على أنّ هنالك مَن يتهرّب من قانون الضيافة المطلق، فيسقط أخلاقياً واجتماعياً، ويسمى «عدوماً» ـ من العدم، فكأنّه غير موجود ـ ويغدو مضرباً للمثل السيّئ الذي يتحاشاه الرجل الغانم:
ما هو اللي للمَرَه يقول حيذور/ لا تذكريني لن كان طارش لفانا
أي ليس ذلك الذي يقول لزوجته أنكري وجودي إذا جاءنا ضيف عابر. ولفى: حل ضيفاً، والملفى المنزل والإقامة. وبينهما، كما هو واضح، رابط يتعلق بالضيافة. فالمنزل للضيوف. وللضيوف حقوق أساسية، معنوية ومادية، حتى لو كانوا على خصومة أو عداوة مع المعزّب. ومن حقوق الضيوف: التهلّي والترحيب، وربط الخيل، وتقديم العلف لها، وبسط الفراش، وتقديم القهوة، وتقديم الطعام، والإكرام، والمساواة بين الضيوف في الإعزاز، وتلبية الطلب، وقبول الاستجارة والدخالة والطنابة. يقدّم المعزّب، القهوة للضيف حالما يحلّ، ثم الطعام بغض النظر عن ساعة حضوره، ويكون من حواضر البيت، على أن يذبح له ويولم ويدعو الأهل والجيران لمشاركة الضيف، طعام المنسف.
وللمعزّب إزاء الآخرين ما يسمى «حق الملحة»، أي الاعتراف المعنوي بالحماية الشاملة التي يسبغها المعزّب على ضيفه، فلا يُهان الأخير ولا يُطلب ولا يُؤذى، طالما هو في ضيافة المعزّب. ومالح يمالح ـ رغم أنّها تشير، في الأصل، إلى الحليب، وهو من معاني الملح ـ هو مَن أكل لقمة أو شرب لبناً أو ماءً في بيت، فيملك، عندها، حق الحماية من قبل صاحب البيت. ولا ينتهي هذا الحق إلا حينما يمالح الضيف بيتاً آخر. لكن البيوت لا تتبارى في الضيافة. فالمناصاة في الكرم مذمومة، لأنّها تمسّ مبدأ المساواة.
والمؤاكلة إعلان للأخوّة. ولذلك، لا يؤاكل الرجل زوجته، فهي تصبح، بذلك، أختاً له لا تحل له زوجة. وليس ذلك من قبيل التمييز ضد المرأة، فالرجل يؤاكل أخته، لكنّه يدلّ على عقيدة ميثولوجية قديمة في أخوّة المشاركة في الأكل.
المعزّب لا يأكل، وإنما يخدم. وقبل ذلك وبعده، هو ملزمٌ بالأدب المرافق للضيافة، فيحدّث الضيف بما تميل إليه نفسه، ولا يشكو الزمن في حضرته، ولا الفقر ولا المرض، ولا ينعس ولا يتثاءب أو يغضب لشأن من الشؤون.
ومن حقوق الضيف، المبيت، إلا إذا كان رجل البيت غائباً. فللضيف على المرأة حقوق الإكرام والطعام، القهوة والذبيحة والمنسف، دون حق المبيت.