في 14 كانون الثاني 2011، خرج زين العابدين بن علي من تونس، وهذا بحد ذاته كان إنجازاً مهمّاً أطلق تسمية «ثورة الياسمين» على ما حدث، لكن بعد 15 شهراً أصبحت تونس في وضع هو الأسوأ منذ نيلها الاستقلال عن فرنسا. التوانسة، عرب بدون نفط، يترحّمون اليوم، ليس على بن علي وعائلته وحاشيته الفاسدة التي نهبت الشعب، بل على المكتسبات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي حققوها وهم يرونها تزول. والذين يعرفون تونس يؤكدون أنّها قبل 2011 كانت الدولة العربية الأكثر حداثة وعلمانية ــ من إعلام وحقوق مرأة وسينما ومسرح وفنون وحياة اجتماعية متحرّرة واقتصاد مزدهر. وأنّها البلد الذي بقي قلعة الليبرالية، فيما استطاع الإسلام الأصولي منذ السبعينيات زعزعة كل الدول العربية (حتى لبنان). صحيح أنّ انتفاضة تونس كانت عفوية (وهذه حقيقة استعملها البعض بخبث لنبذ فكرة المؤامرة ولو جزئياً عما يحصل في سوريا اليوم)، لكن الصحيح أيضاً أنّ القوى الإسلامية التونسية لعبت دوراً هامشياً في أسابيع الانتفاضة الأولى، ثم ركبت موجتها وخطفتها لاحقاً. وهذه ليست المرّة الأولى التي تأخذ فيها انتفاضة منحى كارثياً على شعبها، إذ تمثّل الثورة الإيرانية أفضل شاهد لثورة بدأت مدنية ليبرالية ثم تحوّلت خلال أشهر إلى أداة خمينية يذكرها التاريخ زوراً على أنّها «ثورة إسلامية». التوانسة الذين شاركوا في الانتفاضة يبكون تضيحاتهم لأنّها أفرزت وضعاً أسوأ بكثير من الذي سبقه، لا علاقة له بأي ديموقراطية موعودة أو بربيع يزهر. فإذا كان ما حصل في تونس، حيث شعب عربي هو أكثر اقتراباً من تحقيق الديموقراطية، فما هي يا ترى فرص نجاح الديموقراطية الغربية في مصر وليبيا واليمن؟ وأي مستقبل ينتظر سوريا التي هي الأخرى عاشت حتى مطلع العام الماضي بعض أوجه العلمانية والحداثة رغم سلطوية النظام وعيوبه وفساده؟ لم يشهد أي بلد عربي، وحتى لبنان، تقدّماً اجتماعياً كما شهدت تونس منذ الخمسينيات، حيث المرأة سافرة برغبتها وحيث تعدّد الزيجات ممنوع والجيش لا يتعاطى في السياسة بشكل صارم، وموازنة التربية والتعليم والصحة هي أضعاف نفقات الدفاع والأمن والاستخبارات. ويشابه نظام تونس قبل 2011 ذلك السائد في بعض دول آسيا الناهضة كسنغافورة وكوريا الجنوبية. قال البعض إنّ أحداث تونس سببها اقتصادي، إلا أنّ تونس لم تكن تعاني من انهيار اقتصادي، بل كان وضع الطبقة الوسطى التي تمثّل الشريحة الأكبر من السكان بحال جيّدة، ولم تؤيّد الانتفاضة. الطبقة الوسطى والبورجوازية غرقت في صمت وقلق بعد خروج بن علي، ولسان حال الناس يقول إنّ الانتفاضة كانت غلطة تاريخية، وقد أخذ الاقتصاد يسير إلى انتكاسة، وقطاع السياحة، عصب البلاد، يتدهور وحافة الفقر ترتفع خلال أشهر من 4 بالمئة إلى 25 بالمئة. لطالما اعتبر الإسلاميون تونس قبل 2011 أسوأ نموذج فساد خلقي مستورد في رأيهم من أوروبا. فحاربوا النظام السياسي من منطلق أخلاقي ديني. وكان أول عمل للحكومة الانتقالية هو إطلاق قادة الإسلاميين من السجون واستقبال المنفيين. فعمل هؤلاء على فرض حصار سلفي على بيئتهم الاجتماعية المباشرة.
في الأشهر الماضية، قمع الحكّام الجدد الفنون والكتب والمهرجانات وأقفلوا الحانات. وعندما رفعت السلطة الحظر عن الإنترنت بيّنت الأرقام أنّ الصفحات الأكثر مشاهدة كانت تلك التي تعرض أفلام البورنو، لا التي تنشر نصوصاً عن الديموقراطية أو النشرات الإخبارية، إذ لم يكن الشعب التونسي يعيش لحظة ثورية. ثم عملت السلطات على وقف القراءات الأدبية الأجنبية في المدارس، وأوقفت الدعم عن دور النشر، وانخفض مبيع الكتب لترتفع مبيعات كتب الإسلاميات.
في السابق كانت صناعة السينما هي الأرفع والأكثر تعبيراً وفناً في العالم العربي، لكن هذه الصناعة أخذت خلال شهور بالانكفاء تحت القمع الإسلامي (نذكر ما حصل في أيار 2011 مع المخرجة ناديا الفاني وفيلمها «لا الله لا سيدي» والتعرض للمخرج نوري بو زيد وطعنه بالخنجر لأنّه انتقد الإسلاميين).
صوّرت الفضائيات ووسائل الإعلام الغربي نظام تونس السابق بأنّه قمعي دموي، وصوّرت الانتفاضة الشعبية بأنّها صرخة حرية وديموقراطية. وهذه النمطية هي الجرعة التي أرادها المشاهد الغربي. ورفض الإعلام الغربي نفسه تقييم الطابع الإسلامي لهذه الانتفاضات، فمنع التطرّق إلى الجوانب المظلمة من الصعود الإسلامي، ولم يعطِ شرحاً مثلاً للصلاة المليونية التي احتفلت بالنصر في القاهرة يؤمّها القرضاوي في شباط 2011، أو معنى أن يكون المرشد الروحي للثورة الإيرانية علي خامنئي أوّل من هنّأ «الثورات» العربية لأنّها تُكمل ما بدأته ثورة إيران في 1979. ومع الأسف هناك في الأوساط السياسية والصحافية اللبنانية والعربية، مَن يريد أن يغلق أذنيه ولا يرى سوى ديموقراطية وحداثة في الكوارث التي تحدث في البلدان العربية، فينسى ما تعلّمه من حسّ نقدي، مكرّراً خطاباً سطحياً عن ربيع عربي وهمي.
الحقيقة المرّة أنّ ربيع العرب هو شتاء أصوليات تنجح في خلق سلسلة دول إسلامية تُكمل المنظومة التي كانت موجودة قبل 2011، وتتكامل مع إيران وتركيا واسرائيل في اعتمادها الرجعية الدينية أساساً.
* أستاذ جامعي لبناني ــ كندا
8 تعليق
التعليقات
-
العقل العربي المغيبللآسف انها الحقيقة ما تفضل بتحليله هنا الدكتور كمال، من منظور تراجع الحريات وفقدان الشعوب للمكتسبات الاجنماعية والاقتصادية، في البلدان التي عرفت ما يسمى ربيع، انه هنا ليس بصدد الدفاع عن الديكتاتوريات،ولكن ستندم الشعوب العربية وتترحم عليها فبصعود الاسلاميين سواء سموا سلفيين او اخوان او انتقاليين، ليس هناك ربيعاً ولا شتاءآً بل ظللام دائم سيعم المنطقة العربية وسيزيدها تخلفاً وتبعية،وانقساماً لتصبح امكنة وليست بلداناً تتناحر فيما بينها على من يقتل الآخر في البدء، فهي حرب وليست ربيع كما يتوهم البعض وارخص حرب لتدمير العنصر العربي، ليعيش العصر الاسرائلي على حقيقته. ففي البداية غاب العقل العربي،وحل مكانه العقل المحدود الذي لا يقبل بالآخر انها نهاية العرب.
-
خوف مسيحي مفهومأبان الدكتور كمال ديب في هذا المقال عن خوف مسيحي مفهوم. ركوب الإسلام السياسي لموجات التغيير في المنطقة العربية يرجع أساساً لعاملين، الأول هو الخبرة التنظيمية و بالذات تلك التي يتمتع بها الإخوان، و العامل الثاني هو أن الإسلام السياسي لم يسبق له ممارسة السلطة في المنطقة العربية، و بالتالي لم يلمس المواطن العربي دليلاً قاطعاً بعد يدفعه إلى رفض الإسلام السياسي. و عموماً المخاض طويل إلى حين التشكل النهائي، و من الاستعجال القول بفشل حركات الاحتجاج التي اجتاحت المنطقة.
-
دفاعا عن علمانية تحرريةالحقيقة أن العلمانية كما مورست في الشرق من قبل أنظمة كأتاتورك و بورقيبة و إلى درجة ما صدام - الأسد الأب و الابن و عبد الناصر , كانت عبارة عن خطاب , شعار , وجه أو قناع لديكتاتور فظ دموي و فاسد أو حتى لص حقيقي , العلمانية في أوروبا , و الإرهاصات العلمانية الأولى في الشرق : المعري , الحلاج , أبو بكر الرازي و التوحيدي و ابن الراوندي , كانت ذات رسالة تحررية للبشر من استبداد السلطة كما من استبداد المؤسسة الدينية السائدة و مؤسسات صياغة الوعي الجمعي السائد , و سقوط "علمانية" الديكتاتوريات اليوم تخت ضربات الشعوب يعيد للعلمانية العربية رسالتها التحررية التي تنكشف ضرورتها اليوم في الصراع مع محاولة قوى أصولية سلطوية و قمعية القفز على ثورات الشعوب و إفراغها من مضمونها التحرري
-
مقال غير موضوعي ج1 مع احترامي للكاتب، أجد مقاله سطحي ومليء بالمبالغات والاستنتاجات المتسرّعة وحتّى بمعلومات مغلوطة. صحيح انّ السلفيون بدووا وكأنّهم "خرجوا من تحت الارض" في تونس، وصحيح انّ الحكومة التي تهيمن عليها حركة النهضة الاسلاميّة ارتكبت أخطاء كبيرة. وانّ الاخيرة تلعب بالنار مع السلفيين وتحاول توظيفهم سياسيًا لتدعيم ركائز حكمها وانّها لا تحمل برنامجا اقتصاديا اجتماعيًا مختلفا عن خيارات بن علي... كلّ هذا صحيح. لكن ليس صحيحا بالمقابل الحديث عن انّ الطبقة الوسطى لم تكن مع الثورة في تونس (هي انقسمت كما تنقسم تقليديا الطبقة الوسطى في كلّ الثورات). وعلمانيّة تونس - النسبيّة بالمناسبة - لم يتمّ القضاء عليها بعد (مثلا النهضة اضطرّت للتراجع عن ادراج الشريعة الاسلامية في الدستور)، وليس صحيح ايضا ما يصفه الكاتب من قمع للفنانين والكتّاب والخ.
-
مقال غير موضوعي ج3 باختصار: هذا مقال يتعمّد فيه الكاتب برأيي النظر فقط للجانب المظلم من المشهد ولا يريد ان يرى ايضا ما يعرفه المجتمع التونسي من تحرّر للطاقات الكامنة ومن تجرّأ غير مسبوق على القول والتعبير... وينظر لمسار تاريخي مركبّ كما لو كان لقطة فوتوغرافيّة جامدة... أخشى انّ الهدف منه هو تبرير المقولة الاستشراقية الكريهة حول عدم أهليّة شعوبنا للديمقراطيّة، وربّما لتبرير المجازر الدموية للنظام الاجرامي في دمشق.
-
مقال غير موضوعي ج2نعم جرت انتهاكات لحرّية التعبير والابداع (محاكمة نسمة بعد عرضها فيلم بيرسيبوليس، اعتداء سلفي اثناء عرض فيلم الحداثوية السطحية نادية الفاني، حرق بعض البارات، مؤخّرا الاحداث التي تلت عرض بعض اللوحات التي زعم السلفيون انّ فيها "مسّ بالمقدّسات" وساندتهم الحكومة في ذلك... ). الأخطر من كلّ هذا برأيي هو عجز و\أو تقاعس الحكومة في اصلاح القضاء والاعلام ومحاسبة من أذنبوا في حقّ التونسيين لعقود وطبعا عدم اقتراح بديل اقتصادي جريئ يخرج البلاد من التبعيّة. لكن رغم ذلك، المشهد ليس بالقتامة التي يصوّره بها الكاتب... اذ لا أشاطره في اغلب الناس يعتبرون "الانتفاضة غلطة تاريخيّة"، رغم الاستياء الاكيد من تطوّر الأوضاع؛ غير صحيح انّ بوزيد "طُعن بخنجر" - وان تعرّض لاعتداء آثم - وغير صحيح ماقاله عن تراجع السينما ومبيعات الكتب (هذا لا ينفي طبعا ارتفاع مبيعات الكتب الاسلاميّة)...