لقد فاجأت ادارة الجامعة الأميركية في بيروت طلّابها وأساتذتها بعزمها على تكريم دونا شلالا، وهي من أصل لبناني، ورئيسة جامعة ميامي والمنضمة حديثاً الى معهد بروكينغر اليميني الصهيوني في الولايات المتحدة. وشلالا لمن لا يعرفها كانت قد خدمت لمدة ثماني سنوات في إدارة كلينتون أيام حرب الخليج الثانية، التي انتهت بعدها بغزو العراق، الذي أدى الى مقتل بين مليون ومليون نصف مليون مواطن. وشلالا تعتبر نفسها صديقة كبيرة لإسرائيل، وهي تفتخر بذلك، إذ تمّ تكريمها في جامعتين صهيونيتين، مع أنّها مشهورة بسياستها القمعية للطلاب في جامعة ميامي.
إنّها «الأميركية ــ العربية» التي تعرّف نفسها حصراً، بأنها تقيم حرباً شعواء ودائمة على كل ما له صلة بمقاطعة اسرائيل. لقد قامت ادارة الجامعة، وبعدما ألغت الدكتوراة الفخرية لولفنسون السنة الماضية، وبعد توقيع عدد كبير من الاساتذة عريضة لمنع ذلك، بتهريب تكريم شلالا هذه السنة، وذلك عبر تأخير الاسماء المعلن عنها من أجل عدم إتاحة الوقت لأيّ كان لأن يقوم بردّ فعل. لقد وعدت الادارة منذ سنتين بأنّها ستلتزم بالقوانين اللبنانية في ما يتعلّق بمقاطعة إسرائيل، وها هي الآن تنكث وعدها للمرة الثانية، وبالإتيان برمز من رموز كسر المقاطعة!
السؤال الاساسي هو: لماذا تصرّ ادارة الجامعة الاميركية على تكريم صهاينة وبشكل متكرر؟ لماذا استعمال كل الوسائل الممكنة من ترهيب وترغيب، في تقليد استعماري عريق عرفت ادارة الجامعة كيف تستعيده، وخصوصاً مع الاساتذة، وهي حتماً أمور لا علاقة لا بالحرية ولا بالأكاديميا ولا الكرامة، من أجل فرض مشيئتها هذه، وليس على الجامعة واهلها فحسب، بل على البلد نفسه وشعبه أيضاً، وهو محيط الجامعة؟ لبنان الذي عانى من اسرائيل عبر خمسة اجتياحات عسكرية. أين هو مفهوم الكرامة الذي يدور حوله الربيع العربي، وسبق أن «علّبته» الجامعة وباعته الى طلابها وأكاديمييها في محاضرات لا تنتهي السنة الفائتة؟ أليس من الاجدى حصر مهمات ادارتها الفاقعة الكولونيالية في تبرير تهم الفساد بملايين الدولارات التي نشرت عنها جريدة «الأخبار» منذ بضعة ايام، بدل استضافة صهاينة كل آخر شهر حزيران من السنة، بحجة الانجازات الاكاديمية؟ واذا كان هناك فعلاً من منجزات اكاديمية او ادارية للسيدة شلالا ــ وهذا ممكن بالطبع ــ فهل لم يبق في الكون غير صهاينة فخورين بصهيونتهم لنجعلهم يلقون خطاب التخرّج لتلامذة الأميركية؟ واضح في كل ذلك الاحتقار الكبير التي تكنّه إدارة الجامعة ليس فقط لطلابها وأساتذتها، بل أيضاً لمحيطها الحاضن وهو الشعب اللبناني العربي، الذي كان دائماً مقاتلاً لإسرائيل، وبذل الكثير من الشهداء في سبيل ذلك، ليس آخرها شهداء حرب تموز 2006.
يبقى أن نشير إلى الوجه الآخر من العملة الرائجة، وهم تجار «مقاطعة اسرائيل في لبنان»، ويمكن القول إنّهم شلّة مثقفين عموميين وأساتذة جامعات، حوّلوا مقاطعة اسرائيل الى صناعة موسمية. إنّها صناعة المقاطعة حينما يكون بيع البضاعة والتصويب سهلاً، ومن دون اخطار نسبية عليهم: فنان اجنبي غنى في اسرائيل، محل لبيع الثياب لديه فرع في اسرائيل، قهوة صاحبها «يحب اسرائيل»، وهكذا. أما حينما يكون الهدف عظيماً وكبيراً مثل دونا شلالا، فيسود بالإجمال الصمت المطبق، لأنّهم بذلك سيغضبون اصدقائهم في ادارة الجامعة الاميركية. من الواضح انّ من يجعل نفسه خليفة للمرحوم ادوارد سعيد مثلاً، لا يجد وقتاً يضيّعه على بضاعة خطرة كشلالا، فهي يمكن أن تودي بكل صناعة المقاطعة والمرتبطة عضوياً بالجامعات في لبنان. فكل تحرّك للمقاطعة مسموح به ما دام ضمن حدود، لأنه من جهة يوفّر للجامعة وادارتها المحافظة على صيتها، بكونها «الجامعة التي تؤدي دوراً في نهضة العرب» من قسطنطين زريق حتى اليوم. وذلك رأسمال رمزي لا يجوز التفريط به طبعاً، بل يجب استخدامه من اجل تمرير أمور أخطر بكثير، مثل التكريم السرّي الذي حصل للصهيوني والمحافظ الجديد توماس فريدمان (وهو حدث جرى في حلقة جداً ضيقة خلال فصل الربيع الماضي)، أو تعاون «مركز عصام فارس للأبحاث» فيها مع «معهد صابان» في «مركز بروكنغز» من أجل جمع معلومات انتربيولوجية لغايات استعمارية عن أوضاع المخيمات الفلسطينية، او فرض وضع طبقي يجعل رواتب الاساتذة الأميركيين أضعاف رواتب زملائهم اللبنانيين، الذين يخدمون الجامعة منذ عقود. وكلّ ذلك على حساب الطلاب والأساتذة. أما من جهة أخرى، فتؤمن «صناعة المقاطعة» نجومية بارزة، فايسبوكية واعلامية، فيصبح هؤلاء، في نظر البعض، ورثة الراحل جورج حبش، على سبيل المثال لا الحصر. يمكننا إذاً اليوم أن ننعى لكم «الجامعة الأميركية في بيروت». هذه الجامعة التي يفوق عمرها 180 عاماً بقليل، جرى الإجهاز عليها بعون إدارتها الكولونيالية المحدثة، ورئيسها بيتر دورمان، وفضل هذا الذي لا فضل له فيه علينا سوى في صدفة كونه حفيد «دانيال بليس» المؤسس. لذلك فمن المسموح به له أن يتنقل في سيارة يشاع أنّه اشتراها بثمن يبلغ مئات الآلاف من الدولارات. إنّه الحفيد نفسه الذي أتى بحلّاقه الشخصي من نيويورك، كأي أرستقراطي عتيد من اوروبا القرن التاسع عشر، والذي يقال إنّه صرف حوالى نصف مليون دولار على حفل تنصيبه سلطان السلاطين في الاميركية حينها. وقد قام دورمان أخيراًً، الذي يجري تناقل اخباره وقراراته في الجامعة بين أساتذة وطلاب، خوفاً وفزعاً، بنقل تمثال جده المؤسس «بليس الاكبر»، من «وست هول» الى «كولدج هول» حيث يعمل. وبالمناسبة يروى بين أروقة الاساتذة أنّ راتب الاداريين الكبار السنوي لا يقلّ عن الستة ارقام في السنة بالدولار طبعاً. اما الاكاديميون في الاميركية، الذين لم يجرؤوا حتى على انشاء نقابة تحميهم من قمع ادارتهم، فإنّ أكثريتهم الساحقة تخاف من أن «يعربش» بعضهم على جثث البعض الآخر، اذا ما رفع احد منهم صوته محتجاً. فقد نجحت الإدارة بتأديب معظم أساتذة الاميركية المشاكسين، مقسّمةً صفوف هؤلاء بترفيع البعض ومكافأة البعض الاخر. هي سياسة العصا والجزرة لاجل خلق دينامية الإضعاف الدائم للجسم التعليمي، عبر إشاعة الرعب والخوف وفقدان الثقة بين ابناء الجامعة، اساتذةً وطلاباً، وخصوصاً مع إلغاء اية نية بدأت مع الادارة السابقة للجامعة من أجل نظام تثبيت الأساتذة الاوتوماتيكي، كما يحصل في كل جامعات الولايات المتحدة الاميركية الباقية. ذلك عادة ما يكون الضمانة الحقيقية لحماية الحرية الاكاديمية في أيّ جامعة. إنّها السياسة الاستعمارية الاوروبية نفسها التي دائماً ما كانت تعمم حرّية التفكير في أوروبا، وتعدم أي محاولة في المستعمرات، فماذا بقي من الجامعة الأميركية اليوم غير تحويلها على نحو حثيث الى جثة مؤسسة، ومستعمرة ثقافية متقدّمة لإرهاب أي حرية أكاديمية فيها؟
لقد أصبحت الأمور في الاميركية مهزلة المهازل. فقد حُوّلت الادارة بموظفيها الكبار الى بلطجية. وما كان يمكن أن يكون صرحاً عريباً مهماً أصبح أداة كولونيالية وضيعة، بالرغم من كل العناصر الرائعة التي تزخر بها الجامعة. الجامعة تتحمّل سياسة هذه الادارة الكارثية، فالانقلاب حدث من فوق، أما من تحت، فبقي من يندد بأساتذتها الذين تعاملوا مع مؤسسات اسرائيلية يوماً من الايام «بشعبوية المقاطعة». لقد حوّل هواء الأميركية النقي الى سم لكل شخص، طالباً كان أو أستاذاً، لديه كرامة في زمن الكرامة الثورية. ورغم كل ذلك، فهناك الكثيرون ممن يرون ويعرفون، ويأملون المحاسبة، من كل شرفاء الاميركية في بيروت، قدامى وحاضرين. هو نداء الى كل من لديه كرامة في هذا الزمن الصعب. بقي أن تصل ثورات الكرامة العربية الى الجامعة الأميركية في بيروت.
* ناشط لبناني