«زعران» باب التبّانة

منذ أيام طالعتنا «الأخبار» بمقالة تحت عنوان «الزعران يسيطرون على طرابلس»، أعادتنا إلى ما كان يرويه أصدقاء من أحياء أكثر رقيّاً من محلتنا «باب التبانة»، من أنه كلما قام أحدهم بشقاوة نهره الأكبر سنّاً قائلين: «يا أزعر باب التبانة». لم نكن نعرف أننا زعران. كنّا نعيش في أحيائنا، لا نعرف معنى أن نزعج غيرنا. فنحن لم نتربَّ في مدارس الإرساليات، ولا حتى في المدارس الرسمية، لسبب واحد هو غيابها عن أحيائنا. لم نرَ الملاعب والحدائق إلا في الصور، وعلى شاشات التلفزيون الأبيض والأسود. ما نعرفه أن أحياءنا أنتجت مَن يقاوم الظلم والقهر والسلطة السياسية والاجتماعية، ولا يهاب عقاباً لأنه لم يكن لديه ما يخسره.
نحن مَن يعرفون بأولاد الشارع. كنّا نرى شباباً ينتفضون على السلطة، أمثال علي عكاوي وأترابه. هؤلاء، بفطرتهم، شاركوا في مقاومة المستعمر خلف جمال عبد الناصر، ودعماً للمقاومة الفلسطينية، ودفاعاً عن فلاحي السهل العكاري بطيفيه السني والعلوي. كان أهم سلاحهم سكيناً يقال لها «الموسى». لم يكونوا «زعراناً» فحسب، بل سارقين أو «حرامية». سرقوا، ليلاً، من نوافذ الصيدليات والمستشفيات لقاحات الشلل ليقدموها لأطفال الحي الذين لم تكن حملات السلطات في الأحياء البرجوازية ضد الأمراض تصلهم.
تربّت أجيالنا على التمرد الفطري لأنها لم تكن تنتمي إلى مناطق القانون وأحيائه، وما يتوجّب منها عليه ومنه عليها. إذاً، نحن «زعران» بامتياز دون عناء تعليم أو دراسة.
في خضمّ الحرب، تحولت «الزعرنة» إلى نضال وطني. انخرطنا في صفوف المقاتلين دفاعاً عن «الوطن». لم نكن نعرف أننا قد نكون أدوات. كثيرون منّا قتلوا، وتربّى أبناؤهم وأولاد جيرانهم على بطولاتهم، فكانت البطولة تتجدد عبر الأجيال، ويستمر بهم نسل «الجدعنة».
في خضمّ الحرب، انقسمت أحياء الهموم المشتركة، والمتضامنة على تمايز بين المذاهب، ودخلنا في صراع كانت نتائجه كارثية. مات منّا كثيرون، ودخل كثيرون السجون، ونُكّل بكثيرين. فرّ مَن فرّ الى أمكنة مشابهة له، ولحيّه، ولعالمه. كثيرون حملوا الجريمة التي قد يكونون ارتكبوها، أو قد تكون ارتكبت بهم وبأهاليهم، ويمّموا وجوههم شطر النضال في مكان آخر.
اليوم تحتشد في المدينة مجموعات من الشباب، منهم الباقي في حيّه، ومنهم العائد من ساح النضال المنسي، استحضرتهم زعامات مستهترة، ليجدوا أن محلّتهم ازدادت تخلّفاً وتهميشاً، وازداد أهلهم عوزاً، فوقع كثيرون فرائس المشاريع الواهمة القائمة بأكداس الأموال.
مع هؤلاء الشباب، لم يبقَ للمدينة سوى قبضايات الماضي المتجدّد، طالما غاب زعماء الحاضر.
سمير الحسن