تعرفت الى «النهار» في أوائل دراستي الجامعية. «قالت «النهار» اليوم»، و«كتب مراسلها الطلابي «إدمون صعب» كذا»... ذلك ما كان يلتفت اليه مهتمون وبينهم الزميل آنذاك والشهيد الكبير لاحقاً أنور الفطايري. كنت أسمع هذا الكلام يتكرر أيضاً من قبل مسؤولين حزبيين، كان من أكثرهم متابعة، المعماري الكبير رهيف فياض، وزميلي في الجامعة الفقيد الكبير هاني عساف. دفعني ذلك طبعاً الى متابعة «النهار» على نحو شبه يومي، في صفحتها الطلابية، ثم الى متابعتها دائماً، إضافة الى صحف أخرى، حتى يومنا هذا.
ربما لهذا السبب بادرت مع زملاء لي في قيادة «الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية» إلى تنظيم مهرجان تضامني مع الأستاذ غسان تويني عندما اعتقل في 1973. كان للراحل الصديق أنور الفطايري رأي آخر لاعتبارات سياسية في صراعات اطراف السلطة آنذاك، لكننا أصررنا على قول كلمة في رفض «التوقيف الاحتياطي»، وفي التضييق على الحريات الإعلامية والسياسية والنقابية... قلنا يومها: «ما قيمة التضامن إن لم يأت اساساً من المختلف، وإن لم يخدم قضية الحرية بمعزل عن الضحية». وافق «الريس» انور بأريحيته المعهودة، ولثقة بيننا كانت تترسخ باستمرار.
مهنية «النهار» هي ما صنع تميّزها ونجاحها. ودور غسان تويني في تعزيز هذين التميّز والنجاح، كان حاسماً وواعياً ومؤثراً: لقد اخذ عن ابيه وواصل وطوّر، وكرست «النهار» نفسها رائدة في صحافة الخبر الشامل والتغطية الميدانية والإتقان الطباعي والإخراجي والحرف الواضح (نشير الى أنّ شيئاً من ذلك الإتقان كان قد اعتمده القائد الفقيد الكبير نقولا شاوي في جريدة «صوت الشعب»، في 1937ـ 1947).
لكن غسان تويني لم يكن صحافياً واعلامياً فحسب. لقد كان سياسياً دائماً. وهو في مسيرته الغنية، شغل مناصب وزارية ونيابية ودبلوماسية لم تنقطع أبداً. وفي كل ذلك بقيت «النهار» رصيده الأعظم الذي منه ينطلق واليه يعود.
إنّ «النهار» التي حاولت أن توطد دعائمها كصحيفة ذات سمعة مهنية محترمة، لم تكن محايدة غالباً. وتحوّلت بسبب ذلك في مراحل عديدة، الى ما يشبه الصحيفة الحزبية. ولقد دفع الشهيد جبران تويني هذا الاتجاه الى مداه الاقصى، لكن التأرجح ما بين المهنية والموضوعية من جهة، وتبني هذه السياسة او دعم تلك الشخصية في مواجهة ما سواها من السياسات، ومن عداها من الشخصيات من جهة ثانية، قد خضع بالدرجة الأولى لـ«ثوابت» لم يغادرها غسان تويني أبداً.
من أولى هذه الثوابت الإعجاب المفرط بـ«الصيغة اللبنانية» التي نظّر لها ميشال شيحا، وروّج لها شارل مالك وإدوار حنين، وكرس لها الأخوان رحباني بعض عبقريتهما، إشادة او نقداً. إنّ التعلق بهذه الصيغة «الفذة» وبأسسها وتوازناتها الطائفية وبالنظام الاقتصادي الحر الذي اقترن بها، هو ما جعل تويني الاعلامي والسياسي، يسهم في ترسيخ تلك الفكرة التي تربط ما بين الصيغة والنظام، وبين هذين ووجود واستمرار وجود الكيان اللبناني نفسه.
ولقد ذهب تويني بعيداً في هذا الاتجاه، حتى غدت «النهار» حارسة مكرسة وشبه رسمية للصيغة السياسية والاقتصادية للنظام السياسي الطائفي اللبناني. ويكفي في هذا السياق أن نستذكر دوره في مواكبة حركة الإمام السيد موسى الصدر. لقد كان الصراع السياسي والاجتماعي يحتدم بشكل شبه شامل. وشكلت المناطق الاكثر تضرراً من سياسات النظام اللبناني بيئة حاضنة لأكثر المطالب والتوجهات جذريةً. إنّ «مطالب الإمام» التي كانت انعكاساً لهذا الواقع، والتي كانت في اساس تحركه، قد جرى دفعها لتأخذ مكانها في المنافسة مع برنامج «الحركة الوطنية» للإصلاح السياسي والاقتصادي وليس في حركة الضغط على نظام الامتيازات والتمييز والفساد... إنّ استيعاب «حركة المحرومين» في نطاق النظام الطائفي لتعزيز مرتكزاته، ولو بتعديل بعض توازناته، هو ما حفَّز نشاط تويني في التعامل مع حركة الإمام الصدر و«المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى»...
في امتداد ذلك، عندما اندلعت الحرب في 1975، ثابر تويني السياسي والصحافي على وصفها بـ«حروب الآخرين على ارضنا». لقد رفض لشدة تعلقه بصيغة النظام المعطوفة على وجود الكيان نفسه، مجرد البحث في الأسباب السياسية والاجتماعية الداخلية للحرب، من خلال نفي وجود مثل هذه الأسباب أساساً!
إن صرخة «دعوا شعبي يعيش» في الأمم المتحدة لم تكن، في أحد جوانبها، الا تعبيراً عن هذا الاعتقاد الذي ينسب الى العامل الخارجي، دون سواه، كل اسباب الصراع في لبنان، ويضفي على «التعايش» بين اللبنانيين صفة عجائبية!
لكن غسان تويني كان مقاتلاً من اجل تحديث النظام، بمقدار ما كان متمسكاً بصيغته العامة. وهو لهذا السبب قدَّم نموذجه في «النهار»، ودخل معترك المناصب السياسية او غادرها، وارتاد السجون، وكابد القطيعة او المقاطعة...
ولا شك ان ازمة النظام العامة التي تجسدت احدى نتائجها في الحرب الاهلية المديدة، قد كانت اسوأ كوابيسه. واتذكر شخصياً حيرته عندما كان يحضر اجتماعات «اللجنة الامنية العليا». يومها كان وزيراً في حكومة المرحوم الشهيد رشيد كرامي. كنت آنذاك في عداد وفد «الحركة الوطنية» ممثلاً، مع الرفيق المرحوم جورج هبر، الحزب الشيوعي. كان صوت القذائف هو الاقوى، وكانت الازمة الداخلية تتعقد بعبء العامل الفلسطيني والسوري والتدخلات الخارجية. كان تويني شبه وحيد امام معادلات عقلانية لا يسمعها كثيرون (كذلك كان الامر بالنسبة إلى الرئيس كرامي، وحتى إلى الرئيس شمعون، الذي كان يحضر الاجتماعات شريكاً متواضعاً لحزب الكتائب).
لقد أعطى غسان تويني لبنان «التقليدي» الكثير. وهو بهذا المعنى خصوصاً، يستحق كل ما قيل فيه من إشادة وثناء، وتحديداً عندما يتعلق الأمر بمسيرته وانجازاته ومدرسته الصحافية.
لقد كان غسان تويني رجل النظام المدلل رغم بعض الغيوم العابرة. «ثورته» كانت جزئية، وتمرده بقي محدوداً. أما مأساته الكبرى، إضافة الى مآسيه العائلية المفجعة، فقد كانت في الرهان على نظام لم تعد تنفع معه «العقلانية»، بل بات يحتاج الى اصلاح جذري: لقد بات بقاء لبنان يحتاج الى زوال نظامه.