(كتبت المقالة قبل وفاة غسان تويني)

لن يُكتب تاريخ الشرق الأوسط المُعاصر من دون التطرّق إلى دور جريدة «النهار». يُكابر من ينفي دورها في لعب السياسة في لبنان، وفي صناعة الثقافة، وفي تلقين الفكر الرجعي. دور الجريدة كان محدوداً عربيّاً، لكنّه كان في الصفّ ذاته لجريدة «الحياة» التي شكّلت بوق الرجعيّة العربيّة والاستعمار البريطاني في حقبة الحرب العربيّة الباردة. «النهار» كانت خجولة مقارنة بـ«الحياة». لكن «النهار» حتى 1975، كانت _ الحق يُقال _ جريدة ذكيّة عرف صاحبها كيف يديرها، وكيف ينمّي نجاحها، وكيف يجتذب القرّاء لها، بأساليب ملتوية وغير ملتوية.

الجريدة قد تكون مجهولة لجيل جديد: هي اليوم جريدة مُحتضرة كانت قد ماتت سريريّاً بصورة رسميّة لو أنّ دعماً ماليّاً «خارجيّاً» لا يمدّها بالعون، ولو لم تتعاون معها شركة إعلانات احتكاريّة (قوّاتيّة) بأفضليّة سياسيّة ــ تجاريّة، ولو أنّ جيل الكهولة لم يعتد قراءتها من سن الحداثة.
«النهار» جزء من تاريخ لبنان (بحلوه ومرّه) المعاصر ــ لكنّه تاريخ السلطة، لا تاريخ المعارضة الشعبيّة. قد تكون الجريدة لعبت دوراً معارضاً في مفصل هناك أو هناك، لكنّها فعلت ذلك بالتناسق مع طموحات صاحبها السياسيّة والماليّة. كان غسّان تويني صريحاً جداً في كتاب «سرّ المهنة» في الحديث عن المؤثّرات السياسيّة للجريدة من خلال تبجيله لشخصيّات كميل شمعون وشارل مالك وأنطون سعادة (لكن الجريدة لم تعبّر عن شجاعة في قضيّة القمع والتنكيل اللذين لحقا بالقوميّين بعد إعدام سعادة، وبعد الانقلاب القومي في العهد الشهابي البوليسي ــ لماذا يُحاط فؤاد شهاب بهذه الهالة؟ لنا عودة ــ كما أنّ تجانس تويني مع الحزب القومي كان في نسقه اليميني في 1958 عندما كان الحزب في صفّ الرجعيّة العربيّة الهاشميّة). «النهار» كانت جريدة السلطة، بمعنى أنّها كانت تعارض وتناصر بالنيابة عن فريق في السلطة أو في المعارضة من داخل تشكيلة السلطة. عارضت المكتب الثاني في عهد شارل حلو بالنيابة عن الحلف الثلاثي الطائفي الذي سيطر في «كلّ مكان» ــ كما قال عنوان الجريدة في انتخابات 1968. جورج حاوي، في كتابه مع غسّان شربل، أصاب الحقيقة عندما قال إنّ تويني يناصر الحريّة عندما يكون خارج السلطة، وينساها عندما يكون في السلطة.
لم تصنع الجريدة خطّاً سياسيّاً. كانت تعبيراً عن وجهة نظر اليمين الطائفي في لبنان، كما أنّها كانت صوتاً للرجعيّة العربيّة في الحرب العربيّة الباردة من دون أن تذهب ضد عبد الناصر إلى الحدّ الذي ذهبت إليه «الحياة» آنذاك. قل (وقولي) إنّ «النهار» هي تعبير عن صوت البورجوازيّة التي كانت تخشى على الدولة (الطائفيّة) من الانهيار. لكن يُسجّل لغسان تويني نجاحه، في التقليد ــ لا في الابتكار.
عاش تويني سنوات دراسته في أميركا ونقل إلى العالم العربي (كما فعل الأخوان مصطفى وعلي أمين في مصر بعد سنوات دراستهما في واشنطن) نموذجاً عن الصحافة الأميركيّة الرصينة، فيما فضّل الأخوان أمين صحافة الفضائح والإثارة على طريقة صحافة «هرست». «النهار» أرادها تويني أن تكون تقليداً للصحافة البوجوازيّة في أميركا، بسيئاتها أكثر من حسناتها. في الصحافة الأميركيّة، المسافة بين الناشر والتحرير موجودة بحدود معيّنة، فيما يتدخّل (أو كان يتدخّل) غسان تويني حتى في رسم الكاريكاتور. وأدخل تويني صحافة الصورة والألوان والملاحق وعناوين الإثارة، كما أنّ للويس الحاج لمسة خاصّة في العناوين الساخرة التي لم يبزّه فيها أحد.
وكان تويني ناجحاً أكثر من أبيه القومي العربي (وغير الطائفي) في إدارة مجموعة متنافرة من العقائد والأهواء داخل غرفة التحرير: كان سرّ «النهار» في عصرها الذهبي أنّ غسّان تويني كان يعرف كيف يجتذب المواهب (مستعيناً بموارد ماليّة لا يملكها منافسوه ــ بعضها من الإعلانات وبعضها الآخر من مصادر خارجيّة)، وكيف يجمعهم في غرفة واحدة لإنتاج جريدة تألّقت لأكثر من عقدين من الزمن. ماتت الجريدة قبل أن يرثها جبران تويني الذي جعلها جريدة حزبيّة ركيكة اللغة والخطاب (كلّف غسّان تويني أديباً معروفاً كتابة مقالات جبران تويني في «النهار العربي والدولي»، لكنّه عاتبه لخلوّ مقالاته من الأخطاء النحويّة لأنّ ذلك قد يكشف اللعبة، كما أخبرني الأديب نفسه). ماتت الجريدة في يوم اندلاع الحرب الأهليّة، بعدما تشتّتت الأقلام في الصحافة النفطيّة المهاجرة، وبعدما تقلّصت مساحة التعبير بفعل الرقابة الخارجيّة (المُتعدّدة) وبفعل الرقابة الذاتيّة الجبانة (والطائفيّة غالباً). استولت أنظمة النفط والغاز على الصحافة العربيّة بعد 1975. ماتت الصحافة العربيّة مذّاك.
لكن تألّق «النهار» التجاري كان مسموماً. الغرض السياسي لم يكن مضمراً، وإن لم يكن مُعلناً بصورة مبتذلة وسوقيّة على طريقة جبران تويني (الحفيد، صاحب قَسَم «الطائفيّة إلى الأبد») ومروان حمادة. لكن السمات السياسيّة للجريدة لا لبس فيها ولقد وردت في الكتاب الشائق والصريح للويس الحاج، «من مخزون الذاكرة».
أولاً، لم تحمل الجريدة قضيّة الحريّة ولم تدافع عنها. كل ما يُقال عكس ذلك هو هراء ومن باب الدعاية الذاتيّة المجّانيّة. على العكس، فقد اعترى الجبن مسيرة الجريدة. ناصرت الحريّة عندما كانت لمصلحتها، وصمتت عندما كان القمع في مصلحتها. نظام أمين الجميّل القمعي والذي أراد فرض ثقاقة الاستسلام أمام العدوّ الإسرائيلي، وفرَض قمعاً ورقابة صارمة (قبل الانقلاب عليه من ميليشياتين فقط في 1984)، تمتّع بدعم قوي من جريدة «النهار» وخصوصاً أنّ غسان تويني لعب دوراً مهماً في الإشراف على المفاوضات مع العدوّ (ثم يقولون لك إنّ «الكل كان مع المقاومة في لبنان» قبل 2000). «النهار» كانت الناطقة الرسميّة باسم اتفاق 17 أيّار المشؤوم. وقد دبّجت الجريدة مقالات طويلة في عهد غسّان تويني، وفي عهد ابنه من بعده، في ذمّ المقاومة (الفلسطينيّة واللبنانيّة على حدّ سواء). «النهار» والت حكم سليمان فرنجيّة الفاسد، وانقلبت عليه فقط عندما حارب الأخير مصالح الجريدة الإعلانيّة، لكنها عادت ووالته عندما دخل تويني الحكومة في 1975 مرّة أخرى في ذاك العهد. والجريدة لم تكن مرّة شجاعة في معارضة (حتى لا نقول مقاومة) الاحتلال الخارجي أو سيطرة النظام السوري (كتب ميشال أبو جودة في 11 آذار 1971: «لو كان للبنان أن يشترك غداً في استفتاء الرئاسة السوريّة لانتخب الفريق حافظ الأسد»). على العكس، هي توالي القوة الخارجيّة النافذة في لبنان دائماً (باستثناء نفوذ عبد الناصر، لأنّها كانت في المعسكر الداخلي والإقليمي والعالمي المُضاد). (أخبرني الراحل جوزف سماحة أنّ تويني كان يقرّع سمير قصير لانتقاداته المبطّنة للنظام السوري). ثم، هل نشرت «النهار» مقالاً واحداً مُتضامناً مع جريدة «المُحرّر» عندما فجّرت قوّات النظام السوري مكاتبها؟ هل تضامنت «النهار» مع «السفير» عندما حاول نظام أمين الجميّل اغتيال طلال سلمان؟ هل تضامنت «النهار» مع «نيو تي في» عندما تعرّضت للقمع على أيدي الثلاثي: الحريري _ السعودي _ السوري؟ هل نشرت الجريدة تقريراً واحداً في تاريخها عن قطع الرؤوس في مملكة القمع الوهّابي؟
ثانياً، روّجت الجريدة وعلّبت وصنّعت نموذجاً عنصريّاً طائفيّاً مريضاً للقوميّة اللبنانيّة. لم تكتفِ جريدة «النهار» باعتناق العقيدة الشوفينيّة الفينيقيّة المبنيّة على خزعبلات _ لا على علم _ كما شاب اعتناقها عقدة دونيّة نحو الرجل الأبيض. كل كلمة عابرة قالها رجل أبيض عابر عن لبنان _ من باب المجاملة العاديّة أو التملّق _ تصبح عنواناً ودليلاً على: 1) تفوّق لبنان على جيرانه العرب، و2) اقتراب لبنان من الرجل الأبيض الأوروبي «المُتحضّر». والمرض العنصري في الجريدة ربّى أجيالاً على أساطير وخرافات عن لبنان. ما معنى أن تدرج الجريدة على مرّ السنوات أخباراً عن «اختراعات» و«اكتشافات» لهذا اللبناني أو ذاك لـ«الشفاء» من مرض السرطان أو «السيدا» أو الاثنين معاً؟ تحتاج الجريدة إلى الاطّلاع على كتابات أبو بكر الرازي للتمييز بين الطب والشعوذة. هناك في الشعب اللبناني من بات على اقتناع بأنّ الجين اللبناني متفوّق على الجين العربي أو السريلانكي. هذا المرض ساهمت في نشره «النهار».
ثالثاً، لم تعنِ قضيّة فلسطين شيئاً للجريدة. على العكس، فقد بثّت أفكاراً عنصريّة ضد الشعب الفلسطيني ودعمت كل حملات الجيش اللبناني على المخيّمات الفلسطينيّة. تصرّح الجريدة عن نيّاتها في 11 آذار 1971 عندما تعنون: «مجرمون يتخذون من المخيمات مخبأً» (كأنّ وطن الأرز والهوان يخلو من المجرمين). السلام والاستسلام مع العدوّ كانا السياسة الحقيقيّة الجريدة.
رابعاً، بثّت الجريدة على مرّ السنوات دعاية (مجانيّة؟) للولايات المتحدة. كانت إنجازات أميركا في حقل اكتشاف الفضاء تبرز على الصفحة الأولى وبالألوان، فيما كانت إنجازات روسيا (السبّاقة في بعض الجوانب) مُهملة. ولو أنفقت وكالة التنمية الدوليّة الأميركيّة دولاراً واحداً في لبنان، لحاز الخبر مساحة (مجانيّة؟) في الجريدة. ولم تتوقّف الجريدة عن خدمة السياسة الأميركيّة وحروبها: في حرب العراق، نشرت «النهار» صورة لجثث عراقيّة مُحترقة وكتبت تحتها: «جثث لبعثيّين في العراق». كيف حدّد المُحرّر السياسي للجريدة الهويّة السياسيّة للجثث المُتفحّمة؟
خامساً، تضمّنت الجريدة أدنى أنواع السخرية في ثقافتها وفكاهتها، وهي السخرية الفاقعة المباشرة على طريقة رسوم بيار صادق (تقارن رسومه برسوم المُبدع علي فرزات ذات المنحى الفلسفي، فترى أنّ صادق لا يمتّ بصلة إلى الفنّ ذاك). كانت رسوم صادق تسخر من سمنة شارل حلو، لا من قمع «المكتب الثاني».
سادساً، نجحت الجريدة في إنتاج ذوق «ثقافي» وتعليبه وفرضه على العامّة. فكل شعر وكتاب ومقالة من إنتاج أقارب صاحب الجريدة وجيرانه وأصدقائه (بالمعنى السياسي _ الاجتماعي) يكون فذّاً ومُبدعاً، فيما أهملت الجريدة (باستثناء قسم الملحق الثقافي) الإبداعات الفنيّة الملتزمة (بالمعنى السياسي التقدّمي المختلف). قرّرت الجريدة أنّ شعر أسعد جوان أو موريس عوّاد أهمّ من شعر أحمد شوقي. وكان الذي تُروّج له الجريدة ينجح تجاريّاً، والذي لا يحظى بتغطية ينزوي وتجهله العامّة. قرّرت الجريدة أنّ كل مسرحيّة للأخوين رحباني فذّة، وأنّ كل منحوتة للإخوة بصبوص فذّة، وأنّ كل رسم لبول غيراغوسيان فذّ. هذا هو النقد الفنّي في «النهار». (لحسن الحظّ، ما عاد للجريدة أي نفوذ في هذا الصدد، وما عاد للقسم الثقافي للجريدة تأثير على أذواق العامّة إلا لمَن كان في سنّ الكهولة، أو ما بعد الكهولة، أو ما بعد بعد الكهولة).
سابعاً، خاضت الجريدة (مجّاناً؟) بشراسة، الحرب الأميركيّة على الشيوعيّة ونشرت عبر دارها كتابات لرجعيّين ضد الشيوعيّة. وتكفي مراجعة أعداد الجريدة في الستينات لتتبيّن (وتتبيّني) مدى سخرية الجريدة ومعارضتها لكل فكر وتيّار وشخصيّة يساريّة. لم يكن تصريح واحد لكمال جنبلاط (الذي كان يُعدّ، خطأً أو صواباً، في صفّ اليسار) يمرّ دون السخرية من مضمونه في العنوان وفي متن المقالة، فيما كانت تصريحات بيار الجميّل تخضع من قبل لويس الحاج نفسه لتحسين وتجميل وتصحيح وتشذيب، باعتراف الأخير الذي صرّح عن ميوله اليمينيّة والطائفيّة في الكتاب المذكور أعلاه.
ثامناً، تضمّنت عقيدة الجريدة عبادة للثروة والجاه (وما تبجيل «الزمن الجميل» إلا تبجيل لزمن القهر الطبقي والطائفي المُعلن _ ولم يتوقّف القهر بعد الحرب وإن تغيّرت أوجهه)، كما أنّ النخبويّة سائدة في تغطية الصحيفة. جامعة هارفرد أقرب الى «النهار» من الجامعة العربيّة والجامعة اللبنانيّة لأنّ أبناء النخبة لا ينتمون إليهما.
تاسعاً، طبّعت «النهار» مع العدّو الإسرائيلي قبل أن تصبح الجريدة الرسمية لاتفاق 17 ايّار. الصراع العربي _ الإسرائيلي كان عابراً في تاريخ الجريدة. «النهار» وفؤاد شهاب والطبقة السياسيّة الحاكمة في لبنان ما قبل الحرب اخترعوا سياسة النأي بالنفس عن قضيّة فلسطين. أهملت الجريدة صعود اليسار والمقاومة الفلسطينيّة (باستثناء تغطية من الملحق الثقافي).
قد لا نحتاج إلى العناية بدراسة دور «النهار». قد يدخل هذا التعليق في باب التأريخ، لا أكثر. لكنّها فصل من فصول صناعة الثقافة (السياسيّة والشعبيّة) في لبنان. لم تعد الجريدة مُقرّرة ولا تصنع رأياً عاماً كما كانت، ويا للأسف، تفعل في الماضي. باتت جريدة من جرائد أحياء 14 آذار. «تنذكر وما تنعاد».