يحمل التصريح الأخير للحزب الشيوعي العراقي «اللجنة المركزية» حول الأزمة السياسية التي تعصف بحكم المحاصصة الطائفية في العراق، والوارد على لسان عضو مكتبه السياسي ووزيره السابق للتعليم العالي في حكومة المالكي الأولى، رائد فهمي، دلالات إيجابية يمكن أن نلمح من خلالها تغييراً طفيفاً في مواقف وسياسات وعلاقات قيادة الحزب (التي جدد لها المؤتمر الوطني الأخير التاسع في شهر أيار الماضي). تغييرات قد تنحو نحو شيء من الاستقلالية والنقدية، ودلالات أخرى سلبية تكرس النهج السياسي القديم لهذه القيادة على مرِّ ثلاثة عقود من التبعية لقيادات الأحزاب القومية الكردية.
التصريح المذكور أكد على عدّة أمور أجملها في العبارات التالية «أن الأزمة أعمق من قضية أشخاص، بل هي أزمة علاقات وحكم وأساسها المحاصصة الطائفية، وكل ما يدور حول سحب الثقة محوره هو مجرد شخص رئيس الوزراء... وأنّ عملية سحب الثقة تبدو أنها تتم بنفس الأساس السابق وهي المحاصصة، وبالتالي لا تمثل مخرجاً للأزمة ولن تقدم حلاً حقيقياً لها وهي مجرد إعادة توزيع المناصب... وأنّ الحزب ليس من صنّاع الأزمة الحالية، وهو حريص على أن تبقى الخلافات في الإطار الدستوري، وأكثر ما يخشاه هو انتقال الخلافات إلى ساحة التجييش الجماهيري واللجوء إلى وسائل لا دستورية وغير شرعية».
لا يمكن طبعاً فهم هذه العبارات كفكرة واحدة مُصَمَّتَة ولكن يمكن تفكيك مضامينها ودلالاتها إنما ضمن سياقها السياسي والتاريخي، وبعيداً عن المنطق الرغبوي الذي ينوس في خلفياتها. فالقول، مثلاً، بأنّ الأزمة السياسية والاجتماعية الراهنة أعمق من قضية أشخاص أمرٌ صحيح تماماً، أما التأكيد ذو المنحى التحليلي القائل بأنّها «أزمة علاقات وحكم وأساسها المحاصصة الطائفية وأن كل ما يدور حول سحب الثقة محوره هو مجرد شخص رئيس الوزراء»، فهو تكرار لما سبق قوله بكلمات مختلفة، لكن الجديد فيها أنّها تختلف في العمق عن موقف زعماء تحالف «أربيل/النجف» المعارض والساعي إلى سحب الثقة من المالكي بوصف هذا الأخير سبب البلاء والمصائب جميعاً، وخصوصاً مع موقف مسعود البارزاني. فهذا الأخير، ورغم أنّه يُصَنّف على اليمين القومي، تربطه بالحزب الشيوعي علاقات وثيقة تتعدى حدود التحالف إلى التبعية السياسية الشاملة طوال عدة عقود. وهي العلاقات ذاتها التي تربط قيادة هذا الحزب بالطالباني وحزبه أيضاً. وحتى هنا، يمكن أن يقرأ البعض الموقف الجديد للحزب الشيوعي بأنّه، وإنْ كان ابتعاداً عن موقف البارزاني وحلفائه الجدد، فهو يمكن أن يكون مشتقاً إلى هذه الدرجة أو تلك من موقف الطالباني الذي لم يتبنّ تماماً موقف تحالف «أربيل /النجف»، مع أنّه حضر اجتماعه الأول ولكنّه رفض التوقيع على ما صدر منه من شروط وطلبات بإعادة تقاسم المناصب والسلطات موجهة إلى المالكي. بكلمات أخرى، يمكن القول إنّ موقف الحزب الشيوعي لم يخرج تماماً من دائرة التبعية لموقف الأحزاب القومية الكردية، بل ابتعد عن شق منها «شق البارزاني» واقترب من شق آخر هو «الطالباني». لكن هذا القول يمكن أن يتهم بالخلو من الإنصاف بحق موقف الحزب الجديد، فهو في الحقيقة لم يكتف بالدعوة إلى الحوار واعتماد التسويف والمماطلة من قبل الطالباني، بل مضى عميقاً في تشخيص الأزمة، وقال بأنّها ذات طبيعة طائفية ثم، وبشكل أكثر مباشرة اعتبر «أن عملية سحب الثقة تبدو أنّها تتم بنفس الأساس السابق وهي المحاصصة، وبالتالي لا تمثل مخرجاً للأزمة ولن تقدم حلاً حقيقياً لها وهي مجرد إعادة توزيع المناصب». وهذا كلام سليم لا غبار عليه من الناحية السياسية، رغم أنّه يبدو كالفقاعة اليتيمة في مسلسل طويل من المواقف والممارسات التي كرست بعض ما يدينه البيان الآن. فالحزب الشيوعي العراقي، رغم مواقفه اللفظية التي كان يعلنها ضد حرب احتلال العراق في 2003، شارك في جميع مؤتمرات المعارضة العراقية ذات التوجهات الطائفية والعرقية التي أوصلها الاحتلال إلى الحكم، ربما باستثناء مؤتمر لندن في كانون الأول 2002. و حينها لم يكن الحزب الشيوعي الوحيد الذي لم يحضر هذا المؤتمر الذي عقد تحت إشراف الاستخبارات المركزية الأميركية وشقيقتها البريطانية، بل إن حزب الدعوة الإسلامية، والبعث اليساري «قيادة قطر العراق»، والحزب الاشتراكي تحفظوا عليه وقاطعوه. وكان اعتراض الحزب على الاجتماع يتعلق بكيفية تشكيل اللجنة التحضيرية له، ولماذا لم يتم التنسيق معه قبل الاجتماع وتحفظات أخرى لا تمس بعمق البرنامج التحضيري المطروح لاحتلال العراق ودور هذه القوى فيه. ولكن قيادة الحزب عادت والتحقت بقوى «مؤتمر لندن» بعد الغزو واحتلال بغداد وأصبحت عضواً في مجلس الحكم الذي أسسه الحاكم الأميركي بول بريمر، ثم شارك الحزب بوزيرين في حكومة المحاصصة، ولم يخرج من دواليب السلطة إلا حين فشل في الحصول على أي مقعد في الانتخابات التشريعية الأخيرة. ومع ذلك، فالحزب لم يخرج تماماً من السلطة حتى اليوم، فما يزال أحد أقطابه والذي كوفئ بعضوية مكتبه السياسي لبيد عباوي، يحتل منصب وكيل وزير الخارجية، ربما بشكل شخصي أو ضمن مناخ العلاقات العامة والمحسوبية السائدة اليوم، وربما لأسباب أخرى قد يكشف عنها المستقبل! معنى ذلك، أن الحزب لم يخرج تماماً بعد من العملية السياسية الأميركية القائمة على المحاصصة، ثم إنّه يبدو «ملكياً أكثر من الملك» خصوصاً في خشيته وخوفه على الدستور المؤسِّس للطائفية السياسية والتبعية، وفي مطالبته بأن تبقى الخلافات بين ــ زعماء القوى الطائفية والعرقية طبعاً ــ ضمن إطار الدستور والشرعية الدستورية، وكأنّه يطبق حرفياً قول أبي نؤاس: وداوني بالتي كانت هي الداء!
إنّ الملمح الذي رصدناه في تصريح الحزب الأخير، والذي احتسبناه على مسعى محدود ينحو منحى الاختلاف مع سياسات حزب البارزاني الذي بالغ كثيراً في إصراره على خلع المالكي بعد أن نجح هو وحليفه الطالباني في خلع الجعفري قبله، لا يخرج أيضاً عن التوجه العام الذي حكم الأزمة السياسية والاجتماعية الأخيرة والتي عرفت بأزمة «سحب الثقة»، إذ حدثت انشقاقات وتمردات في قائمة «العراقية» ذاتها ترفض سحب الثقة وحدثت انشقاقات وتمردات معاكسة في دولة القانون وفي التحالف الذي يضمها «الوطني». ولكن ما يميز موقف الحزب عن هذه التمردات أو الانشقاقات هو أنّه لم يرفض أو يؤيد سحب الثقة من المالكي بشكل قاطع، رغم أنّ بعض قادته لمحوا إلى قبولهم بسحب الثقة أو بإجراء انتخابات مبكرة إذا فشل هذا الخيار.
إنّ اعتبار هذه الانشقاقات والتمردات، وخصوصاً في قائمة «العراقية» و«دولة القانون» بشائر خير على بروز إرهاصات مهمة على الخيار الوطني واللاطائفي، أي ذلك الذي يتخذ من مصلحة الوطن والشعب عموماً مرجعية وهدفاً له وليس من مصلحة الطائفة والجمهور المنتخِب، أمر لا يخلو من التسرع والسطحية. إذ إنّ هؤلاء الذين انشقوا أو تمردوا على قوائمهم لم ينطلقوا من موقف وطني عام وناضج، بل يمكن تفسيره بعوامل ومواقف شخصية سلباً أو إيجاباً من المالكي، ولا يخلو من التأثيرات القومية وردود الفعل ذات النزوع القومي على تجاوزات ومبالغات البارزني وحزبه، دون أن يعني ذلك إن مواقف هؤلاء جميعاً خالية من الإرهاص الوطني، ولكنّه سيحتاج الى وقت ورجّات سياسية أخرى لكي يتبلور ويتجسد سياسياً. أما بقاء بعض الكتل البرلمانية ككتلة حزب البارزاني وكتلة التيار الصدري متماسكة لم تشهد تمرداً أو انشقاقاً وتفسيره بنوعية وطبائع هذه الكتل الشمولية واللاديموقراطية، فهو تحليل لا يخلو من وجاهة وصحة ولكنّه لا يفسر لنا الكثير من خلفيات مواقف هذه الكتل التي لم تخلو هي الأخرى من الخلافات.
بالعودة إلى تصريح الحزب الشيوعي، نلاحظ أنّه لم يقدم أي بديل بعد أن سفَّه خيار سحب الثقة واعتبره مجرد «إعادة لتوزيع المناصب والتالي فهي ليست حلاً حقيقياً». نقول إنّ الحزب لم يقل لنا ما هو الحل الحقيقي من وجهة نظره، وربما سيحيلنا البعض إلى خيار انتخابات مبكرة وهذا أقصى هدف يمكن لقيادة الحزب أن تفكر فيه. عموماً، لا يمكن لأي ديموقراطي ويساري عراقي إلا أن يرحب بأي تطور أو تغيير في سياسية أية قوة سياسية تحسب نفسها على القوى اليسار الديموقراطي، وحبذا لو ركز الحزب الشيوعي العراقي جهوده على قضية «دمقرطة» داخله التنظيمي والسياسي، والقطع مع التقاليد الشمولية البائسة التي أصبحت خارج التاريخ السياسي كإعادة انتخاب الزعيم ذاته والقيادة نفسها في كل مؤتمر عام للحزب ــ الأمر الذي يتكرر منذ عشرين عاماً ــ واعتمد، بدلاً من ذلك، سياسة يسارية وديموقراطية مستقلة قولاً وفعلاً، ومضادة للعملية السياسية الأميركية القائمة على الطائفية. وحبذا لو بذل جهداً حقيقياً ــ بعد انجاز الهدفين السابقين ــ على تأسيس وإطلاق تحالف ديموقراطي يساري بين قوى اليسار العراقي الحقيقية، وليس مع شلل ضعيفة ودكاكين سياسية رمزية لا زبائن لها، وشخصيات معينة كتلك الأطراف التي ركض وما يزال يركض وراءها منذ عشرة أعوام دون طائل سوى بعض التصفيق الشاحب الذي تجود به تلك الأطراف في احتفالاته ومؤتمراته الروتينية.
* كاتب عراقي