على رغم مرور أكثر من أربعة عقود على نكسة حزيران، فإنّ نتائجها لا تزال ماثلة أمام أعيننا حتى الآن. فالضفة الغربية وغزة، لا تزالان تحت الاحتلال الصهيوني، وكذلك الجولان السورية. أما بالنسبة إلى سيناء المصرية، فقد كان شرط إسرائيل للتخلي عنها، هو التطبيع معها، وتخلي مصر عن دورها في الصراع العربي الصهيوني، وتكبيلها بمجموعة من الاتفاقيات والمعاهدات السياسية والاقتصادية وغير ذلك، الأمر الذي يجعلنا نقول، إنّ إسرائيل قد خرجت من الباب لتعود من الشباك.
أسباب كثيرة، تفسر فشل الأنظمة العربية، ولا سيما بلدان الطوق، في معالجة آثار نكسة حزيران، لكن أهمها، هو الطبيعة المستبدة لتلك الأنظمة التي نهبت بلدانها، وبددت ثرواتها، وكمت أفواه شعوبها، وأفسدت جيوشها، ودمرت عقيدتها الوطنية، ورضخت لإسرائيل وحلفائها، مقابل ضمان استمرارها في الحكم. وبناءً عليه، فإنّ المدخل الحقيقي لمعالجة نتائج نكسة حزيران وتداعياتها، هو تغيير هذه الأنظمة واستبدالها بأنظمة وطنية ديموقراطية. من هنا، تأتي أهمية ثورات الربيع العربي. ولا سيما منها، الثورتين المصرية والسورية، لكن الحديث عن نكسة حزيران لا ينفصل عن الحديث عن نكبة أيار 1948، التي تصادفت ذكراها هذا العام، مع نجاح شعوب بعض الدول العربية، في التخلص من أنظمتها المستبدة، والبدء في مسيرة بناء الدولة المدنية الديموقراطية. ولأنّ الفارق ليس كبيراً بين عمر الأنظمة العربية التي سقطت، وعمر الدولة الصهيونية، ولأن القضية الفلسطينية، لا تقل عدالة عن القضايا التي فجرت ثورات الربيع العربي، فإنّ حلم التخلص من الدولة الصهيونية ونظامها العنصري، وبناء الدولة الديموقراطية الواحدة لجميع مواطنيها، هو حلم مشروع وواقعي. يمكن الزعم، أنّ العمل من أجل تحقيق ذلك الحلم، يبدأ من التفكير الجدي في إعادة صياغة المشروع الوطني الفلسطيني، على أسس جديدة، تنطلق من وحدة الأرض والشعب والمصير، وتتمسك بتحقيق العدالة، واستعادة الحقوق، وتستلهم قيم الحرية وحقوق الإنسان.
في هذا السياق، تبدو ضروريةً إعادة التفكير في أساليب المقاومة التي اتبعها الفلسطينيون في صراعهم مع الدولة الصهيونية. يرتبط اختيار أسلوب المقاومة، بعلاقة جدلية، مع ظروف المرحلة التي تمر بها، وطبيعة العدو، وموازين القوى، وغيرها من العوامل التي لا بد أن ينعكس تبدل أي منها على الأسلوب المتبع. من هنا نقول إن كان هناك من قداسة فهي لمبدأ المقاومة، لا لأسلوبها. فما يصح في ظروف معينة لا يصح في ظروف أخرى. في ظلّ وصول التسوية إلى طريق مسدود، ونتيجة للتغيّرات التي أحدثتها إسرائيل على الأرض خلال السنوات الماضية، وبما أنّ المقاومة المسلحة لم تعط أكلها، وعلى ضوء المتغيّرات العربية والدولية، فإنّنا نؤكد مرة أخرى على أنّ الخيار السياسي الذي يجب العمل من أجله هو الوصول إلى الدولة الواحدة الديموقراطية العلمانية. أما عن وسائل تحقيق هذا الحل، فإننا نميل، إلى الظن، بأنّ هناك مروحة عريضة من الخيارات، ربما تقف على رأسها المقاومة السلمية اللاعنفية. إنّ أحد أهم أسباب نجاح المقاومة السلمية هو امتلاكها عنصر التفوق الأخلاقي على الخصم، الذي هو هنا العدو الصهيوني العنصري. لذلك لا بد من الحذر من سياساته واستفزازاته، وتجنب الانجرار إلى ردود فعل عنفية تتناقض مع طبيعة المقاومة السلمية. فنجاح هذا النوع من المقاومة، يتطلب القناعة الراسخة بها وبجدواها، وعدم التعاطي معها على أنّها مقاومة ثانوية أو مساعدة لأشكال المقاومة الأخرى. من هنا، تأتي ضرورة وضع الاستراتيجيات المناسبة وخطط العمل المدروسة، وإطلاق المبادرات الخلاقة، والتنسيق والتشبيك بين جميع القوى والمؤسسات والهيئات، التي تتبنى المقاومة السلمية، داخل فلسطين وخارجها. كذلك أيضاً، لا بد من الاستفادة من دروس الماضي من أجل وضع سياسة جديدة للتحالفات. فلطالما حمّل الفلسطينيون، وهم على حق، الأنظمة العربية وتخاذلها، المسؤولية عن نكبتهم، ولطالما تجرعوا منها كأس المرارة والمآسي. نعم، لا بد من التذكير، بأنّ عدم تمكن الفلسطينيين من المضي في انتفاضاتهم، ولا سيما انتفاضتي 1987 و2000، حتى نهاياتها السعيدة التي يتمنون، كان مرده خلل في القيادة الفلسطينية وتكتيكاتها، وتواطؤ النظام الدولي، وضعف النظام الرسمي العربي، الذي ارتبط بقاؤه بعدم فتح صراع حقيقي مع إسرائيل، أو بتجميد هذا الصراع، سواء من خلال توقيع اتفاقيات سلام، كما كانت حال مصر والأردن، أو استمرار حالة اللا سلم واللا حرب، كما هي حال سوريا. بناءً على ما سبق، وعلى ضوء ثورات الربيع العربي، فإنّ سياسة التحالفات الفلسطينية يجب أن تنطلق من فكرة بقاء الشعوب وزوال الأنظمة. وبمقدار ما تنجح الشعوب العربية في إقامة أنظمة ديموقراطية حقيقية، بمقدار ما يقترب الفلسطينيون ومعهم كلّ العرب، من تحويل النكبة والنكسة من واقع ملموس إلى مجرد ذكرى.
* كاتب فلسطيني