لم أدّع يوماً أنّي ناقد أدبي، ولن أدعي ذلك مستقبلاً، مع أنّه يمكنني القول إنّي قادر على تذوق طعم الأدب، بمختلف تصنيفاته، وعطره، وتمييز الغث منه من السمين. ولأني أحب الأدب، الحقيقي، وليس النفايات اللغوية التي تقصفنا بها مختلف وسائل إعلام التكفيريين التضليلية، أحرص على قراءة ما تجود به أقلام كبار أدبائنا وأدمغتهم، وفي مقدمة ذلك كتابات أنسي الحاج، مع حفظ الألقاب.
مع أني أحاول الابتعاد عن قراءة كل ما يمكن أن يثير المزيد من غضبنا وآلامنا، وما قد يمنعني من رؤية كل شجرة في الغابة، بل ورؤية غصون وأوراق كل منها، بدلاً من النظر إليها على أنّها منحوتة بلا تفاصيل، أجد من واجبي متابعة ما لا يشبهني، وربما ما يمكن أن يشبهني. ولذلك قرأت مقالة أنسي الحاج «إلى الخائفين» («الأخبار»، العدد 1722، السبت 2 حزيران 2012) عن مجزرتي الحولة وتل دو، فشعرت بأنّها تعكس ما أراه في المرآة كلما سمعت أو قرأت عما لا يجب أن لا يحدث، فحركت فيّ من الألم والأحاسيس مما لم تمت بعد. لغة أنسي الحاج لها مذاق خاص، فهي تصوغ ببساطة ذكية عمق الفكرة، والفكرة البسيطة تصوغها لغته الفلسفية
الراقية.
لم أقرأ عن هذه المأساة ما يتفوق عليها.
ما يميز الأديب، قاصاً كان أو روائياً أو شاعراً، من غيره من الكتّاب، المبالغة في صوره اللغوية، لكن بهدف تعميق مفعول قوله البليغ، وهنا تكمن إحدى ميزات الكتابة الأدبية الراقية. يبالغ الكاتب كي يهز أعماق أعماقنا، وخصوصاً عندما يتعلق الأمر بجريمة لا تحوي كل لغات الأرض مفردات يمكنها وصف هولها.
قال أنسي الحاج: لا ثورة تستحق قتل طفل ولا سلطة تستحق قتل أحد؛ نعم سيدي، أكرر هذا، بلا شروط (هنا أذكِّر بما كتبتُه أنا سابقاً في صفحات أخرى: ليس ثمة من هدف يسوغ اللجوء إلى السلاح وقتل الآخر كائناً من كان، إلا إذا اضطر الإنسان إلى ذلك بعد إخفاق كل محاولات استعادة الحق سلمياً). لم أكتب هذا منتحلاً صفة ليست لي، بل كباحث في التاريخ ومشارك سابق في «مشروع ثورة استحال أكذوبة فلسطينية كبرى»، بالأقلام إياها المستكتبة في وسائل التضليل التكفيرية، رأى سقوط المئات من البشر، كثيرون منهم أصدقاء عمر، في صراعات عبثية.
وقلتَ عزيزي أنسي الحاج: هذا الدم ليس برسم محاكم القضاة المرتهنين وأكاذيب المحامين، ولا برسم الصحافة العوراء والإعلام الفاسد [أكيد تعني: التضليل]، ولا برسم المؤرخين السطحيين والفلاسفة السذج... فنِعْمَ ما كتبت عزيزي.
لكنك كتبتَ أيضاً: لن نصدق بعد اليوم أنّ إسرائيل أكثر بربرية منا (بل قلت في الأمر أكثر من هذا). هنا علي التوقف والاعتراض، ليس على صاحب الكلمات، بل على الفكرة غير الصويبة، التي أقحمت في غير محلها. سيدي، أحيلكَ على ما كتبتَ أنت في المقال، كما ورد في الفقرة الأسبق. لا، نحن لسنا هم، ولم نكن يوماً مثلهم.
ولا أفهم ولا أقبل أيّ مسوغ لاستحضار ذكر العدو الغاصب أرضنا، الذي لم تخلق بعد النعوت التي يستحقها، كي نجلد أنفسنا، وكي نقيم خيم العزاء لماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. هذا يذكرني بناشري الفكرة المضللة في وسائل تضليل التكفيريين، بأن انتفاضاتنا ستجعلنا نشبه «إسرائيل»!
نحن لسنا هم، والتاريخ يكتبه المتخصصون فيه سيدي الفاضل. تاريخنا لا يختصر في جملة شاعرية وناقصة المعنى. تاريخنا يكتبه حاضرنا، حتى بما يحويه من أحزان وشوائب. هم يشبهون إسرائيل، وليس نحن.
دعني أسهب عزيزي الأديب الكبير: بلادنا، سيدي، من أدناها إلى أدناها، موزاييك نادر، صغناه بأيدينا طوعاً، ولو كان فرض فرضاً ما دام. فرنسا (الكاثوليكية الحرة) لم تتحمل البروتستانت فصنعت لهم «ليلة برثلميوس»، ومن نجا من المذبحة الكبرى فر إلى بروسيا (البروتستانتية). تاريخهم القديم، كما الحديث، شاهد دائم على حقيقتهم.
أوروبا، شرقية وغربية، المنتصرة في الحرب لم تتحمل وجود ألمان في الأراضي التي اقتطعها المنتصر منها لنفسه، فطرد نحو خمسة ملايين مدني من أرضيه، لكن بعدما أجبروا على العبور في مضائق المذابح القسري.
وابحثوا في الأندلس، فردوس القرون الثمانية، وفي صقلية وفي إيطاليا عن بقايا جامع أو مسجد... ابحثوا عن أحمد لم يجبر على أن يستحيل أمادو، وعن المظفر الذي لم يضح ألمودافار، وعن الوادي الكبير الذي لم يتغير إلى الفاديلكفير...
وندلوس لم تتغير، لم يختلق لها العرب اسماً مصطنعاً من خارج التاريخ ومن عمق الأساطير والخرافات، فاستحالت الأندلس، فيها المسيحيون واليهود والوثنيون، إلى جانب المسلمين. أين القرون الثمانية تلك من تاريخ تلك البلاد اليوم!.
في بلادنا أقدم كنيسة وأقدم كنيس، لم تمسسهما أيد مدمرة حاقدة، لكن أين الثمانمئة عام من تاريخ عطر، رغم كل ما يشوب كل التواريخ الإنسانية من شوائب، تنحط أحياناً إلى مرتبة الفظائع.
أين الخمسمئة ونيف من القرى الفلسطينية في بلادنا! أين أسماء سهولنا وجبالنا وأوديتنا! كلها يحاول العدو المغتصب محوها من الذاكرة الفردية والجمعية. يحاول إلغاء التاريخ الحقيقي لفرض خرافات عنصرية على كتب التاريخ. هم، كما قال تميم البرغوتي في ملحمته عن القدس:
«سياح من الإفرنج شقرٌ لا يرون القدس إطلاقاً
تراهم يأخذون لبعضهم صوراً مع امرأة تبيع الفجل في الساحات طول اليوم.
فالقدس تقبل كل من أتاها كافراً أو مؤمناً
أمرر بها واقرأ شواهدها بكل لغات الأرض
فيها الزنج والإفرنج والقفجاق والصقلاب والبشناق والتتار والأتراك، أهل الله والهلاك، والفقراء والمُلاّك، والفجار والنساك، فيها كل من وطئ الثرى».
لا، نحن لا نشبههم.
لو كنا، نحن أمة بلاد العرب، بكل مكوناتنا الإثنية والثقافية والدينية والمذهبية . . الحقيقة والوهمية، نباريهم في الوحشية، لما بقي، من كل هذا الموزاييك الديني والثقافي، فرد ليخبر بما حدث لمن غُيِّب.
لولا تسامحنا، منذ ما قبل الفتوحات الإسلامية الأولى، من أيام أذينة وزنوبيا وما قبلهما، ولو كنا بوحشيتهم، لما بقي يهود ومسيحيون بطوائفهم الألف ألف، ودروز وإسماعيليون وصابئة في وسط هذه «الأغلبية الساحقة»، يعيشون حيواتهم كما يريدونها، وليس كما يفعل الغرب الاستعماري الآن مع العرب والمسلمين حيث كل منا مشتبه به ومذنب، حتى لو ثبتت براءته.
لا، نحن لسنا مثلهم ولا نشبههم. فقط القتلة يشبهونهم. من أراد أن يتشبه بالمغتصب فليفعل، إصالة عن نفسه ونيابة عمن يشبهه، ولكن ليس باسمنا.
عجبي من اختصار التاريخ في جريمة أو اثنتين في بلادنا. وأعجب من قارئ تاريخ لَحَنَ.
الألم واجب وحق، والبكاء والذهول وكل المشاعر الإنسانية ضرورية، ومهم أن يعبر عنها بمختلف الأنماط اللغوية، لكن كل ما حدث ويحدث وسيحدث لا يسوغ تحريف التاريخ ومحاولة إعادة صياغته، عن غير وجه حق، ليجعلنا مرآة عدونا المغتصِب ليس فقط أراضينا وأوطاننا ومدننا وقرانا وسهولنا وجبالنا وشواطئنا وصحارينا وأطفالنا ونساءنا وأطفالنا ورجالنا.
التاريخ ليس من اختصاص الأدب، وهو في الوقت نفسه ليس وصياً عليه.
* كاتب فلسطيني