بمجرد الإعلان عن سعي إقليم برقة إلى إحياء فكرة الفيدرالية في ليبيا، انطلق في العالم العربي (بين أنصار الثورات وخصومها) نقاش عقيم، يتركز جله على الطعن في نتائج الثورات العربية، التي لن توصل إلا إلى هيمنة الإسلاميين أو تفكيك البلدان الموحدة إلى دويلات وطوائف، برأي الخصوم. زاد من يقين البعض أن الثورات ليست إلا مقدمة للتفكيك والتقسيم. الظهور المفاجئ لبعض الدعوات الانفصالية كما حدث في اليمن الجنوبي، وإعلان إقليم برقة ذا حكم ذاتي بشكل منفرد، وتشكل دولة الأزواد في شمال مالي من جراء هجرة عدد كبير من الطوارق المسلحين الذين كانوا يدعمون القذافي إلى مالي
، إضافة إلى معلومات واردة من كردستان العراق الذي يفكر رئيسه مسعود البارزاني في إعلان الإقليم دولة مستقلة، وتذبذب مطالب أكراد سورية بين الحكم الذاتي في مناطق وجودهم في الشمال الشرقي أو الحصول على حقوقهم الثقافية كاملة ضمن الدولة السورية.
ورغم أن شيئاً مما سبق صحيح في بعض جوانبه، إلا أن الطريقة التي نوقشت بها فكرة الفيدرالية والتقسيم، وكأنها نتاج تلك الثورات العربية، هو تفكير عقيم ينطلق من ظواهر الأمور أكثر مما يبحث في خلفياتها وتعقيداتها، إذ ينطلق النقاش من بديهية خاطئة تقول إن الدولة كانت موحدة، وما يجري هو مخطط للتقسيم ينفذ وفق أجندة «المؤامرة». يتجاهل هذا الخطاب أنه لم يكن لدينا دولة في العالم العربي أساساً، بل سلطات مستبدة تتلاعب بمكونات المجتمع الإثنية والطائفية بغية إدامة وجودها. بناءً عليه، إن النزوح نحو فكرة الفيدرالية والتقسيم لاحقاً، ليس من نتاج الثورات، بل نتاج ما زرعته السلطات العربية المستبدة في مجتمعاتها، إذ بدل أن تعمل تلك السلطات على تكوين هوية وطنية جامعة، فعلت العكس تماماً، أي زادت الشروخ وأججتها، وخاصة في فترة ما قبل الانهيار، فرأينا تفجيرات الكنائس في مصر، واللعب على المكونات القبلية في ليبيا واليمن، والشحن الطائفي اليومي في سوريا. هذا كله يعمل فعله في مجتمع مفكك أساساً، ولم تتح له فرصة بناء ذاته، منذ خروجه من عهد الاستعمار، وليس فقط من فترة تسلّم البعث كما يروج من يبتسرون التاريخ وفق أهوائهم.
من جهة ثانية، قد لا تكون عودة الفيدرالية والتقسيم إلى فضاء العالم العربي، من نتاج انهيار الاستبداد وحسب، بل هي نتيجة تفكك المنظومات الشمولية الفكرية في أذهان الناس أيضاً، بعد تكشف نتائجها الفادحة على الأرض، وخاصة تجاه عدم اعترافها بالمكونات الاجتماعية الأخرى؛ فالخطاب القومي بشقه البعثي في سورية والعراق، لم يعترف يوماً بالأكراد والأشوريين وكل الأقليات الأخرى، بل عاملها دوماً بمنطق «المشكوك بولائه». هذا نستشفه بوضوح، بضعف وجود هؤلاء في مفاصل الدولة الحساسة، كالأمن والجيش؛ إذ كان الاعتماد أساساً على أبناء الطائفة لحماية العرش. هنا تكشف الناس عن عقم هذه القومية التي تقارب حدود الشوفينية، والتي فرضت نفسها عليهم بقوة السلطة والاستبداد.
مشكلة هذا الخطاب القومي المتضخم أنه لا يزال يرى حتى اللحظة في الأقليات غير العربية، بعداً عربياً، فتراه يصر على «عربيتها»، قاسراً إياها على الدخول في برزخ العروبة الفضفاض. يقول رئيس تحرير صحيفة السفير طلال سلمان: «الأخطر أن العروبة في سوريا مهددة، وهي التي شكلت الرابط المتين بين السوريين بمختلف أديانهم وطوائفهم، عناصرهم وأعراقهم، حتى كان يصعب على زائرها أن يميز بين المتحدر من أصول تركمانية أو أرمنية أو كردية أو سريانية، فالكل «مواطنون عرب سوريون» وباعتزاز»(1). هذا نوع من القسر القومي للأقليات، هل الأكراد الذين ذاقوا الأمرين من قومية البعثيين «يعتزون» حقاً بأنهم عرب؟ هذا نوع من الخطاب الشمولي المتضخم، الذي لا يرى في الأقليات حين يعترف بها إلا ملحقة به وبثقافته التي يعتز بها. وهذا خطاب يسهم في الكارثة حين لا يعترف اعترافاً كاملاً بوجود أقليات غير عربية بشكل كامل، أو غير إسلامية بشكل كامل، ويدفع الأقليات إلى النفور منه بدل أن يكون جاذباً لها عبر الاعتراف بتنوعها واختلافها عنه. هنا يعمل الخطاب الفكري الشمولي مع الممارسة الفعلية للسلطة على الأرض في دفع هذه الأقليات في الاتجاه الآخر بدل أن يكون جاذباً لها، للعيش في فضاء دولة واحدة تكون للجميع.
عودة الفيدرالية وصعود خطاب التقسيم، هو في أحد تجلياته نتاج انهيار هذه المنظومات الفكرية الشمولية التي أفلست حين أقصت الآخر، وكان من الممكن أن تغتني وتغني دولها وشعوبها لو فعلت العكس. وحين تفككت هذه المنظومات الفكرية برزت المكونات الأهلية للمجتمعات العربية إلى السطح (وهي بالمناسبة تفككت في أذهان الناس، حتى قبل تفكك دولة الاستبداد رسمياً، ولم يكن تفكك الاستبداد إلا الإعلان الرسمي لأفولها عن مسرح الأذهان لأنها هي أساساً غائبة عن مسرح الأحداث منذ زمن طويل، أي منذ ابتلعت لمصلحة السلطة و أركانها). ترافق الأمر مع إفلاس المشاريع الكبرى القومية واليسارية، وإذا كان إفلاس هذه المشاريع خلال العقدين السابقين، قد أسهم في صعود التيار الإسلامي لكونه الملجأ الوحيد الذي يقدم خلاصاً واهماً للناس، فإن السنة المنصرمة حملت بواكير تفكك المشروع الإسلامي، إذ فشل هؤلاء حتى قبل أن يبدأوا، نتيجة انفضاح براغماتيتهم، المتجلية في ترشيح الشاطر بعد أن أعلنوا أنهم لن يرشحوا أحداً للرئاسة في مصر، وفي إعلان الخلافة السادسة في تونس بعد أن أوهموا شركاءهم بقبولهم الدولة المدنية (رغم ابتداع المصطلح الذي لا مكان له في تاريخ الفكر السياسي)، وفي عودة الإخوان السوريين إلى السلاح بعد أن أعلنوا مراراً وتكراراً أنهم راجعوا تجربتهم السابقة، وأنهم قبلوا بالانتقال السلمي للسلطة، وكي لا يقال إننا نتجنى على الإخوان السوريين، فقد قال يزيد صايغ في تقريره الأخير في معهد كارنيغي: «عسكرة جماعة الإخوان المسلمين هذه تجعل علاقتها مع شركائها غير المسلّحين في المجلس الوطني السوري، ومع بقية أطياف المعارضة، موضع شكّ. أولاً، لأن جماعة الإخوان تتصرّف من طرف واحد، ما يبدو أنه يؤكّد مزاعم المنشقّين عن المجلس الوطني السوري... يمثّل تشكيل ألوية مستقلّة تابعة لجماعة الإخوان عقبة إضافية في طريق بناء الجيش السوري الحر كجناح عسكري موحّد للمعارضة» (2).
وكشف هذا الأمر أيضاً، رئيس المجلس العسكري العميد الركن مصطفى الشيخ، حين قال: «إن كانوا فعلاً ملتزمين الدولة المدنية والعمل تحت مظلة الجيش الحر فكيف يفسرون عمل هيئة حماية المدنيين وهي ذراعهم العسكرية في الداخل؟ يجمعون لها التبرعات ويزودونها بالإمدادات على حساب الجيش الحر، حتى أنهم اختاروا لها اسماً مضللاً؟» (3).
أسهم إفلاس المشروع الإسلامي هذا، الذي احتل الفراغ الناشئ سابقاً عن إفلاس المشاريع القومية واليسارية، في عودة الفراغ إيديولوجياً وسياسياً إلى الساحة العربية مجدداً، ولأنه لا فراغ مطلقاً في السياسة كما في الواقع، فإن هذا الفراغ سيعبّأ بما هو متاح. وهنا في الحالة العربية عموماً، التي تعاني تفتت المجتمع المدني بسبب معاول الاستبداد، لم يبقَ إلا المجتمع الأهلي بمكوناته الطائفية والإثنية الضيقة، فخرجت لتملأ هذا الفراغ.
هنا يغدو هذا الصعود المدوي لخطاب الفيدرالية نتاج الاستبداد من جهة، ونتاج انهيار المشاريع الشمولية الإقصائية من جهة أخرى، من دون أن يخرج حتى اللحظة مشروع وطني عام، يُسهم في بناء دولة المواطنين، كل المواطنين، ويقدم لتلك الأقليات الإثنية والدينية ما تريد من مواطنة تجعلها على قدم المساواة مع الجميع من دون استثناء، أي مواطنة تحقق لها ما تريد من دون حاجتها إلى الفيدرالية، وإلا فإنها ستسعى إلى تحصيل حقوقها وفق أي شكل، قد يكون حكماً ذاتياً وقد يكون انفصالاً، من دون أن يعني هذا الانفصال أو الحكم الذاتي أنه قد يقدم بالضرورة لمواطنيه ما يبغون، ها هي الصراعات ما زالت تحكم دولتي السودان وجنوبه رغم حصول الجنوبيين على دولتهم، وها هي حقوق الإنسان في كردستان العراق تعاني أسوأ حالتها، استناداً إلى تقارير منظمات دولية.
المسألة ليست في الفيدرالية أو التقسيم أو المركزية، بل في بناء دولة وطنية حقيقية تقدم لمواطنيها ما يجعلهم يصرفون النظر عن تلك الخيارات، فإن لم يتحقق ذلك فستفرض تلك الخيارات نفسها بقوة الوقائع على الأرض. وهذا ما يبدو أننا لم نتعلمه بعد؛ إذ يقابل كل خطاب من هذا النوع بالتخوين والعمالة وعرض القوة. كان أول ما فعله رئيس المجلس الانتقالي الليبي مصطفى عبد الجليل أن لوّح بالقوة لحل مشكلة إقليم برقة، مع تلميحات واضحة بالتخوين من قبل أطراف أخرى. التخوين نفسه نجده الآن يوجه نحو الأكراد السوريين حين يطرحون مطالبهم، والتخوين نفسه هو السائد حتى اللحظة، ورغم تقرير الانفصال بين السودان وجنوبه؛ إذ يتبادل الطرفان الاتهامات والتخوين والعمالة والحروب أيضاً. الحالة السودانية مثيرة للتأمل ولاستخلاص العبر، فهي من جهة تنوس بين الحقوق المشروعة لشعب الجنوب الذي أجبره الاستبداد الشمالي على الذهاب نحو خيار التقسيم، حين حرمه مصادر الثروة النفطية التي يتموضع أكثرها على أرضه (النفط في سوريا أيضاً يتموضع أكثره في المناطق الشمالية المتاخمة لأماكن وجود الأكراد، وأيضاً في إقليم برقة)، لكن أيضاً من جهة أخرى جاء هذا التقسيم تحقيقاً لأجندة غربية/ إسرائيلية واضحة، ولكن ليبقى شعب جنوب السودان رازحاً تحت ظل الفقر والاستبداد والحروب التي لم تنتهِ. والأهم أنه بات بيدقاً بيد إسرائيل وواشنطن لتحقيق أجندة تفتيت السودان والسيطرة على نفطه. هنا يتبادل الدكتاتوران (البشير وسيلفا كير) الحروب في ما بينهما، لأنها تمثل نوعاً من تصدير المشاكل إلى الخارج.
كان أول ما فعله البشير المطلوب للعدالة الدولية، أن وجه اتهامات إلى المعارضة الداخلية بالخيانة والعمالة، لأنها دعت إلى حل مسألة هجليج والمشاكل مع الجنوب عبر الحوار، لنكون أمام دكتاتورين يتبادلان الحروب لتثبيت أركان الداخل، ما يعني أن التقسيم لم يحل المشكلة، وليست إسرائيل (من دون أن يعني هذا إنكار دورها ودور الخارج عموماً في مسائل كهذه) هي سبب التقسيم، بل الاستبداد الذي لم يزل مستمراً، وما زال يسمح لتلك القوى بالنفاذ لتحقيق مصالحه، إذ دوماً يضع المستبد سلطته قبل الدولة والمواطنين، ليكون الاستبداد هو السبب المركزي الأساس، الذي يمهد الأرضية اللازمة لعمل الخارج ليفعل فعله في داخل منهك.
هنا لم يستفد البشير من كل تجاربه السابقة، فتعامل دولة السودان مع السودانيين الجنوبيي الأصل الموجودين في الشمال وفق مبدأ الرعايا الأجانب، يثبت عقم هذا الخطاب الاستبدادي الذي سيبقى سبباً لتصعيد الفيدراليات والتقسيم، فلو عمل البشير على منح هؤلاء حقوق المواطنة الكاملة، لكان قد خطا خطوة متقدمة تجاه منع تقسيم دارفور وكردفان مستقبلاً؛ إذ بات منذ اللحظة يتعامل معهم كطابور خامس تابع لدولة الجنوب، وهي الطريقة نفسها التي تعاملت بها نظم الحكم الشمولية مع الأقليات في بلدانها. ومنذ الآن يمكن التنبؤ بأن استقلال دارفور وكردفان سيكون قريباً، إن بقي البشير يمارس السياسة نفسها.
من جهة أخرى، يجب على الأقليات التي تفكر بالتقسيم أو الفيدرالية أن تطرح مطالبها وفق مبدأ الحوار، لأن العنف ومحاولة استغلال الأوضاع غير المستقرة لتحقيق مطالبها، قد يوقعها في براثن دول غربية تريد استغلال مصلحتها ضد الدولة الأم، وهذا ما سيولد حساسيات لاحقة ستدفع هذه الأقليات ثمنها، وقد تجر حروباً طويلة الأمد (جنوب السودان مثالاً). هنا يثير مثال برقة الكثير من التساؤلات، لجهة الطريقة الاستفزازية التي طرح بها، إذ أعلنها من جانب واحد، ومن دون توافر المقومات الأساسية، وهو الأمر الذي دفع بعض سكان برقة أنفسهم إلى التظاهر ضد الفيدرالية، ما يعني أن الطرح لم يكن ناضجاً بما فيه الكفاية، رغم أن ليبيا نفسها كانت فيدرالية قبل حكم القذافي. الحل الوحيد يكمن في الحوار وتشجيع تلك الأقليات على طرح كل هواجسها والسعي الحثيث، عبر السياسة وحدها بعيداً عن العنف، لإيجاد حلول على مستوى ما يحقق كرامة الإنسان قبل أي شيء آخر.
المراجع:
(1)سلمان، طلال: «سوريا المهدّدة في وحدتها الوطنية: من لاعب إلى ملعب، مجدداً؟!»، صحيفة السفير، عدد 12165، تاريخ 23/4/2012.
(2) صايغ، يزيد: «الاختبارات المقبلة للمعارضة السورية»، مركز كارنيغي للشرق الأوسط، تاريخ 19/4/2012.
(3) صحيفة الحياة: الأسعد لـ«الحياة»: سلاحنا يكفي بالكاد لحرب عصابات... وأداء «المجلس الوطني» انعكس علينا، الجمعة
30/3/2012.
* شاعر وكاتب سوري