بعد الدعوة إلى إنشاء اتحاد بين أعضاء مجلس التعاون الخليجي، والدعوة من قبل الملك المغربي إلى عملية مماثلة مع تونس، يتساءل الكثيرون أين هو المشرق العربي من هذه الدعوات؟ في وقت يعيش فيه تشتتاً في كياناته المتنوعة، التي يعاني كل واحد منها مشاكله، التي قد تمنعه عن مجرد التفكير في هذا الطرح. المشرق العربي يمر بثلاث أزمات هي النتيجة النهائية لمشاكل مجتمعاته، أزمة الهوية، وبنية المجتمع، ومفهوم الدولة، والأزمات الثلاث مرتبطة معاً، بحيث تتأثر وتؤثر كل واحدة منها في الأخرى. إن كنا نريد أن نعطي للهوية في المشرق العربي صفة، فليس هناك أصدق من عنوان كتاب «الهويات القاتلة» للكاتب اللبناني أمين معلوف، ليكون صفة تنطبق على المنحى الذي تسير فيها «الهويات» في هذا المشرق. أزمة الهوية في عدم القدرة على صياغة «رابطة واضحة وثابتة نسبياً»، بمقدورها أن تحافظ على الروابط الأهلية وشبكة العلاقات الاجتماعية بمختلف تنوعاتها، فالمحرك الأساسي لهذه الروابط هو «الخوف والإلغاء»، حيث إنّ كل رابطة لطائفة ومذهب وقبيلة وعشيرة وغيرها يراوح سلوكها بين هذه المحركين، خوف من الآخر ينتج عنه انغلاق وهروب أو إلغاء، نتيجة عقدة الأكثرية وإنكار الآخر، وبالتالي حلقة الوصل بين الاثنين اهتزاز الثقة بين أبناء المجتمع. المجتمع في المشرق العربي بدوله المتعددة لم يسر في نحو متقدم، فوجوده في منطقة غير مستقرة لم يسمح له ببناء قاعدة مجتمعية متماسكة، هذا ما يعطي تفسيراً لمشكلة الهوية، التي لم تكن مستقرة في كيانها بسبب حالة الاضطراب التي يعيشها الكيان الإنساني التي تنشأ فيه. تبادل الأزمة بين الهوية والمجتمع ناتج من سوء إدارة التنوع الأهلي، فإما أن يكون منحى «صهر» كافة الروابط ضمن رابطة واحدة بطريقة إلغائها جميعاً مقابل هوية واحدة، وخطأ هذه الطريقة هو في محاولة إنشاء هوية مجتمعية عن طريق بناء مجتمع بالقوة. هذا الأمر لا يمكن إنشاؤه في تنوع كبير من الصعب فيه إلغاء طرف معين، أو تكون إدارة هذا التنوع بأن تحاول كل رابطة أن تنشئ بحد ذاتها مجتمعاً منفصلاً عن الآخر، وهذا الأمر أيضاً غير صائب نتيجة التداخل في الأرض والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
هذه الأمور تظهر في أماكن على نحو واضح، وفي أماكن ثانية تكون مكبوتة. في لبنان كان هناك وربما لا يزال هناك من يحاول أن يقود نحو أن تكون هناك مجتمعات لا مجتمع واحد على أساس طائفي، وفي العراق على أساس طائفي وقومي بين العرب والأكراد، الحل الأكثر ملاءمة لهذا التنوع في المجتمع هو التربية والاقتصاد. قد يعتقد البعض أن الأمرين مختلفان في بنيتهما، لكنهما في دورة الحياة الاجتماعية الاقتصادية يتكاملان في دور كل منهما، فالتربية عملها في خلق هوية من الجذور، أي تذهب نحو الإنسان مباشرة وتتعامل مع عقله وعاطفته، بعيداً عن غريزته، وتعمل على المجتمع من الداخل، لتبني مع الوقت والاستمرارية الوجدان الاجتماعي، القائم على نمو الشعور لدى المجتمع بالانتماء الواحد، وتجمع أبناءه ثقافة مشتركة ونظرة مشتركة مبنية على التنوع. وهذا الوجدان هو الأساس الأولي لبناء مفهوم المواطنة، ولكي تكون هذه المواطنة فعالة يجب توفير البيئة الحاضنة لنموها، وذلك من خلال قاعدة اقتصادية تؤمن وتلبي احتياجات المجتمع في مختلف مجالات الحياة اليومية والمعيشية، مما يعطي مساحة من الإبداع والتفكير والتحليل، وهذه العملية مستمرة نتيجة تطور وتقدم الإنسان، فالمجتمع ـــــ والدولة مطلوب منهما إعادة صياغة مراجعة دائمة لبنيتهما، هذه المساحة تبدأ من شخص الإنسان وتتوسع من عائلته ومتحده الأصغر للوصول إلى المجتمع الأكبر في دولته.
للوصول إلى هذه المرحلة يجب أن يكون هناك دولة ـــــ مؤسسات تحافظ وتصون وتحقق هذه الأهداف المختلفة، وهنا ندخل في أزمة مفهوم الدولة في المشرق العربي. أزمة الدولة تتمثّل في ثلاث نقاط، النقطة الأولى هي عدم قدرة الدول على أن تخلق التوازن بين الأمن القومي والعدل الاجتماعي، فتحت حجة الأمن والصراع غُيّب العمل على العدالة الاجتماعية، حيث إن أمن الإنسان هو أولوية وحاجة من أهم مهمات الدولة، لكن الأمن ليس فقط بالمعنى العسكري، فالداعم الخلفي له هو الأمن الاجتماعي، المبنى على توزيع عادل للثروات، وتأمين فرص العمل وبناء ثقافة ومعرفة علمية، مما يكوّن سداً يمنع استغلال بؤر الجهل والأمية والبطالة لضرب الأمن من الداخل، وهو يمثّل خطراً اكثر من استهداف المجتمع من الخارج. النقطة الثانية هي عدم وجود ثقافة أن السلطة هي قيادة وخدمة، فالمجتمع السياسي القائم على الشعب والحاكم هو من يعطي هذه السلطة ذاك التوجه، حيث يفوض الشعب الحاكم ليتولى «قيادة» إدارة حاجاته، وتقديم مساحات للتطور من خلال عدة مجالات، مثل البحث العلمي، وكون موقع الحاكم في تلبية حاجات المجتمع، فهو في طريق «الخدمة». في المجتمع السياسي القيادة والخدمة هما عبارة عن درجة بين الشعب والحاكم، تحافظ على هيبة الدولة وسلطتها، وفي نفس الوقت لا تجعل منهما في برج عاجي بعيداً عن الشعب. لكون الأمر درجة فهذا لا يعفي المجتمع بأفراده من المسؤولية، إذ إننا نهوى التهرب منها، وهي النقطة الثالثة في أزمة الدولة في إلقاء اللوم على كل شيء إلا على أنفسنا، نتيجة عدم قدرتنا وقناعتنا بأهمية التقويم والنقد الذاتي، كل ما يهم المجتمع هو المادة الجاهزة، وهذا ما يسمى مصطلح المجتمع الاستهلاكي، الذي يتحمل نتائج وصولنا إليه الشعب والحكومات. المشرق العربي في منطقة جغرافية مهمة بالنسبة إلى العالم، وخاصة أنها تصل بين البحار الأربعة، ووجود احتياطي من الثروات الباطنية من نفط وغاز يجعل منه محط أنظار بالنسبة إلى دول العالم، مع استمرارية الصراع مع العدو الإسرائيلي القاعدة المصطنعة لإعطاء المبرر الدائم كي تدخل القوى العظمى هذا الصراع، الذي يراد تحويله وتغيّبه، فيما الصراع مع اسرائيل ليس صراعاً دينياً ولا صراع حدود، كل هذا إضافة إلى التنوع الثقافي والتراثي والروحي، الذي يمكن أن يكون المشرق صلة وصل فكرية وحضارية بين الشرق والغرب، هذا ما يمثل تهديداً لمختلف القوى والجهات الإقليمية والعالمية، التي تريد أن تجعل الصراع دينياً واقتصادياً بين طرفي العالم، كل هذه العوامل تعطي صورة واضحة في أيامنا هذه عن أن الحرب العالمية الثالثة هي على أرض المشرق العربي، أدواتها تفكيك المقسم وخلق صراع بينها، مما يسهّل دخول مختلف الجهات الدولية للسيطرة عليه. المشرق العربي أمام تحدي الوجود بكل أشكاله، ولكي يصل أبناء هذا المجتمع إلى وعي أهمية هذا الوجود يبدو أنه من المحتوم عليهم أن يمروا في مراحل وخبرات وتجارب من الأفكار والنظريات والحروب، والسؤال هو هل يصل هذا المشرق إلى هذا الوعي، ويدخل في طريق طويل من محاولة التنسيق بين كياناته نحو إنشاء أي شكل من الاتحادات، أم يذهب نحو خلق كيانات داخله تنشئ مع الوقت حكماً ذاتياً لا يقتصر عليه بل يشمل العالم العربي بكامله، هل يذهب العالم العربي نحو إنشاء أمم عربية بعيداً عن الأمة العربية، أم يذهب نحو التشتت على نحو أكبر؟ الاحتمالات مفتوحة على كل الجهات والمستقبل هو الوحيد الكفيل بالإجابة عن هذه التساؤلات.
* كاتب لبناني