بعدما انتهت الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفياتي، بدأت تركيا التفكير في إعادة النظر في دورها الاستراتيجي، بعدما كانت جزءاً أساسياً من استراتيجية الناتو في مواجهة السوفيات. في 1993، وقبيل وفاته بقليل، تحدث الرئيس التركي تورغوت أوزال عن سعي أنقرة «إلى بناء عالم تركي يمتد من بحر إيجة إلى تركمانستان الصينية» من أجل ملء الفراغ في الجمهوريات الإسلامية السوفياتية السابقة، التي تنتمي كلها، ما عدا طاجكستان الفارسية اللغة والثقافة، إلى العالم اللغوي ـــــ الثقافي التركي. وهو هدف لم يكن بعيداً عن استراتيجية واشنطن في منع طهران من تحقيق الطموح ذاته، مفضلةً أنقرة (وتل أبيب) من أجل احتواء تلك الجمهوريات التي كانت الكثير من المعطيات قد أشارت إلى أنّها ستكون المنطقة المنافسة للخليج، كمصدر رئيسي للطاقة (النفط والغاز) العالمية. ومن أجل انشاء حاجز جغرافي ــ سياسي بين الصين وروسيا، بعدما بدأت تبرز مؤشرات إلى تقاربات بينهما في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.كان أوزال من بقايا الرعيل الذي كان قد خرج من تحت عباءة عدنان مندريس، رئيس الوزراء التركي الذي أطاحه العسكر العلمانيون الأتاتوركيون في انقلاب 1960، والذي كان يجمع بين الليبرالية الاقتصادية والميل السياسي إلى الغرب مع تديّن فيه ملامح من اسلامية خفية معتدلة، ممزوجة بعداء يظهر ويختفي للعلمانية الأتاتوركية. كان أوزال ايذاناً مبكراً ببدء غروب شمس أتاتورك عن أرض الأناضول. في عامي 1996و1997، تولى الاسلامي نجم الدين أربكان رئاسة الوزراء، بعدما حصد «حزب الرفاه» الاسلامي الأصولي النزعة اغلبية مقاعد البرلمان في انتخابات كانون أول 1995، بنيله 21,3 في المئة من الأصوات. لم تتحمله واشنطن بعد خرقه استراتيجية إدارة كلينتون في «الحصار والاحتواء المزدوج» للعراق وايران من خلال دعوته إلى قمة رباعية (لم تُعقد) لرؤساء تركيا وايران والعراق وسوريا، من أجل بحث مشاكل المنطقة، ثم توقيعه في آب 1996 اتفاقية استيراد الغاز الطبيعي الايراني بقيمة 23مليار دولار على مدى 23 عاماً، وهو ما مثّل الجو الملائم للعسكر الأتاتوركيين لتنظيم انقلاب 28 شباط 1997 ضده.
لم يكن سقوط أربكان قادراً على وقف عملية غروب الأتاتوركية، التي كان واضحاً أنّ الاسلاميين هم البديل الوحيد لها في أنقرة. عند تأسيس «حزب العدالة والتنمية» في آب 2001 كان رجب طيب أردوغان واعياً لأسباب سقوط معلمه القديم أربكان: عدم تجاوز الخطوط الحمر الأميركية. عندما تجاوز حزب أردوغان (الفائز بغالبية مقاعد برلمان انتخابات تشرين ثاني 2002) هذه الخطوط من خلال رفض البرلمان التركي في 1 آذار 2003 فتح جبهة شمالية للقوات الأميركية ضد العراق، حصل ذلك من خلال تمرد نصف برلمانيي الحزب ضد إرادة زعيمهم، وبالتعاون مع نواب «حزب الشعب الجمهوري»، الأتاتوركي الهوى. لم يكن أردوغان قادراً على منع هذا التصويت طالما كان رئيس البرلمان بولنت أرينج، ورئيس الوزراء عبد الله غول، موافقين، وذلك قبل أيام من انتهاء حظر ترشح أردوغان للبرلمان (بسبب مفاعيل حكم سجن سابق في التسعينيات) وتوليه بعدها رئاسة الوزراء في 14 آذار، أي قبل خمسة أيام من بدء الغزو الأميركي للعراق، الذي جرى بالتعاون مع غريمي أنقرة في طهران وأربيل.
كانت الأردوغانية، كنزعة واعية لغروب الأتاتوركية وفشل اتجاه مصطفى كمال أتاتورك نحو أوروبا تركية، متساوقة مع دور يضع انقرة في مدارين: شرقي (القوقاز وآسيا الوسطى السوفياتية السابقة حتى تركمانستان الصينية)، وجنوبي يستعيد المدار العثماني عبر «عثمانية جديدة». في القوقاز (نقل نفط أذربيجان عبر خط تركي أو روسي، ودعم جورجيا المتصادمة منذ 2004 مع روسيا)، وآسيا الوسطى (خط غاز تركمانستان عبر تركيا لأوروبا بدلاً من روسيا)، دخل أردوغان كغريم لموسكو، وكمنافس ومحجِّم لطهران، وكحليف لواشنطن. في أعوام 2004 حتى 2006، كان تقارب أردوغان مع دمشق، الرافضة للعراق المحتل، معاكساً للتوجهات الأميركية. بنيت حسابات التقارب التركي ــ السوري عند طرفيه على مواجهة خسائرهما من تداعيات سقوط العراق: عند أنقرة التي شعرت بتعاظم قوة ايران والأكراد، وعند دمشق التي أعطتها أحداث 12 آذار 2004 في القامشلي صورة عن التداعيات السورية لتنامي نفوذ أكراد العراق في مرحلة ما بعد صدام حسين، كما أرادت دمشق تحصين نفسها بأنقرة، المتضررة من تداعيات ما فعله الأميركيون ببلاد الرافدين، من رياح المواجهة الأميركية – السورية، غير المسبوقة منذ 1970. رياح أعطت نذرها زيارة كولن باول لدمشق بعد ثلاثة أسابيع من سقوط بغداد، وهو ما تحقق في أرض الأرز مع صدور القرار 1559 في 2 أيلول 2004. منذ ذلك الوقت، كانت حسابات أردوغان جنوباً تتعلق بموازنة النفوذ الايراني الذي تعاظم في مرحلة ما بعد صدام حسين، وأراد استغلال التناقض الذي كان قائماً في الملف العراقي بين طهران (وقواها العراقية المحلية المتعاونة مع الغازي والمحتل الأميركي) ودمشق (التي دعمت المقاومة العراقية)، من أجل ضرب ذلك التحالف السوري ــ الايراني الذي كان العمود الفقري والمدخل لطهران الخمينية إلى العالم العربي منذ 1979. كذلك أراد أردوغان جعل دمشق مدخلاً (كما كانت في 1516) لبلاد الأناضول إلى العالم العربي.
انقلبت هذه اللوحة مع الانشقاق الايراني ــ الأميركي في آب 2005 إثر استئناف طهران برنامج تخصيب اليورانيوم. وقد كانت حرب 2006 تعبيراً بوكالة اسرائيلية عن هذه المواجهة الأميركية ــ الايرانية، وليقود عدم نجاح اسرائيل فيها، بخلاف دورها الوكيل في حربي1967 و1982، إلى انقلاب الموازين الاقليمية ضد واشنطن لصالح الرباعي: طهران ــ دمشق ــ حزب الله ــ حماس. هنا، أدت هذه اللوحة الاقليمية الجديدة إلى اتجاه عند واشنطن نحو تعويم الدور الاقليمي التركي لمواجهة التمدد الايراني، بعدما أدى مجيء واشنطن المباشر إلى إقليم الشرق الأوسط إلى تصادم أميركي ــ تركي. كان الاتكال الأميركي على أنقرة تعبيراً عن فشل واشنطن في «دورها الاقليمي المباشر» مع غزو العراق، وعن عودتها إلى أدوار الوكلاء، كما كانت مع شاه ايران في السبعينيات، ومع اسرائيل منذ 1964، وقد حسبت حساباً بأنّ «المخفر اليهودي» لم يعد ناجحاً كما أثبتت تجربة 2006، وبأنّ «المخفر السُني التركي» هو الأكثر فعالية في مواجهة طهران، وربما في تحقيق ما قاله كولن باول قبل غزو العراق بشأن «إعادة صياغة المنطقة».
منذ 2007، كانت الأردوغانية هي المعتمد الأميركي الأول في الإقليم الشرق أوسطي: محاولة تحجيم ايران عبر ابعاد دمشق عنها، أو عبر تشكيل توازن تركي ــ سوري أكثر اغراءً من العلاقات الايرانية ــ السورية، كما انّ محاولة أردوغان احتواء حركة حماس بعيداً عن ايران من خلال صورة جديدة لـ«العثماني الجديد» في مواجهة شمعون بيريز في دافوس بعد أيام قليلة من فشل اسرائيل في حرب غزة، كان يراد منها أيضاً اعلان تركي عن اغلاق ذلك «المخفر اليهودي» عند واشنطن. محاولة تشكيل بديل «ملائم» بعيداً عن ايران في العراق في 2010 عبر «قائمة العراقية» التي كانت في انتخابات آذار 2010 التشريعية نتاج جهد تركي ــ سوري ــ سعودي، قبل أن تنفض دمشق عنها في صيف 2010، معلنة بداية انفكاك هذا الثالوث، وهو ما أدى عملياً إلى تداعيات، منها انهيار الحكومة اللبنانية في الشهر الأول من 2011.
كان دعم العاصمة السورية لتأليف حكومة المالكي في بغداد في خريف 2010، بداية انهيار لما بناه أردوغان مع دمشق منذ 2004، قبل أن يكتمل هذا بعد ثلاثة أشهر في بيروت، لكن أيضاً بين دمشق والرياض. مع موجة ما سمي «الربيع العربي»، بدأ أردوغان استراتيجية جديدة لم يعد عمادها احتواء دمشق أو خلق حقائق سياسية جديدة ضد طهران في بغداد أو غزة، بل الانطلاق بالتساوي مع تخلي واشنطن عن حلفائها السابقين، في تونس ومصر، نحو جعل «حزب العدالة والتنمية» في أنقرة بالنسبة إلى الأحزاب الاسلامية (التي أثبتت أنّها الأكثر فعالية وقوة في الجسم الاجتماعي العربي المنتفض ضد الأنظمة القائمة) مثل الحزب الشيوعي السوفياتي بالنسبة إلى باقي الأحزاب الشيوعية. وهو أمر كان بالتساوق مع المصالحة التي ظهرت، في أكثر من عاصمة عربية، تجسداتها خلال 2011 بين «التنظيم العالمي لجماعة الاخوان المسلمين» والأميركيين.
لم يكن حصاد أردوغان مثمراً في 2011 و2012، بعدما فشلت سياساته الجنوبية بين 2004 و2011، مع نجاح نسبي لسياساته الشرقية بين 2003 و2010: بعد أسبوع من نشر رادارات الدرع الصاروخي الأميركي في الأناضول جاء الفيتو الروسي ــ الصيني المزدوج في مجلس الأمن يوم 4 تشرين الأول 2011، لكي يعلن بداية تكتل دولي أصبحت مفاعيله قوية في احتواء الجمهوريات السوفياتية الاسلامية السابقة، على حساب واشنطن وأنقرة، مع تشكيله حائط صد في وجه العاصمتين الأخيرتين في الموضوع السوري، إذ كان يبدو حتى تشرين الثاني الماضي أنّ الأتراك كانوا ينوون القيام بدور فرنسا في ليبيا إذا حصل السيناريو الليبي في سوريا، وعلى الأرجح أنّ تأليف مجلس اسطنبول في 2 تشرين الأول 2011، لم يكن ببعيد عن ذلك من أجل جعل رياض الشقفة بالنسبة إلى أنقرة في دمشق، بمثل وضعية نوري المالكي في بغداد بالنسبة إلى طهران. مع خطة كوفي عنان، التي تبناها مجلس الأمن في 21 آذار الماضي عبر بيان رئاسي ثم في قرارين بالشهر اللاحق، يبدو أنّ السيناريوهات الليبية والمصرية واليمنية مستبعدة عن دمشق. هذا يؤدي إلى ارتطام استراتيجية أردوغان، المتبناة منذ بداية الأزمة السورية في 18 آذار 2011، بالحائط، تماماً مثلما فشلت استراتيجيته السورية في أعوام 2004 ــ 2010. كذلك، يبدو أنّ ثنائية العسكر ــ الاسلاميين في القاهرة ستميل بغير المجرى الذي سارت عليه لصالح أردوغان في أنقرة بين 2003 و2011. وعلى ما يظهر من مجرى الأمور السورية والمصرية أن تكرار النموذج التركي في دمشق والقاهرة مستعصياً، وهما عاصمتان مفتاحان للمنطقة، وليستا مثل تونس أو طرابلس الغرب، فيما كان واضحاً مع انتخابات 10 أيار الماضية كم هي حدود الاستثناء الجزائري لغير صالح الاسلاميين.
* كاتب سوري