عندما ينفجر الوضع في طرابلس وبيروت، كما حصل في الأسابيع الماضية، وعندما تعوزنا القدرة على تفكيك التصدعات الحاصلة منطقياً، نكون قد وصلنا حتماً إلى حافة العجز عن اللحاق بالواقع. والواقع هنا في حالة سيولة مستمرة، ومن شأن الإبقاء على طبقة واحدة من تحليله أن يفاقم من عجزنا عن مجاراته. لذا وكي نفهم أكثر طبيعة هذا العجز، لا بد من معاينة جذره الفعلي أولاً (الحراك في سوريا) بدلاً من الركون هكذا ومن دون ربط منطقي إلى خلاصات تعسفية لا يبدو أنّها قادرة وحدها على تفسير ما يحصل اليوم في لبنان.
منذ بداية «التصدع العمودي» في سوريا ونحن نحذّر من استسهال ركوب الموجة الثوروية لمجرد أعتقادنا أن لها جذراً طبقياً. طبعاً الجذر الطبقي موجود وهو في صلب الأزمة منذ البداية، لكن المشكلة ليست في وجوده من عدمه، بقدر ما تكمن في دفن الوعي به تحت طبقات من النفايات الطائفية المتراكمة. ثمة ما يجعل من السوريين عديمي المناعة تجاه أمور مماثلة. هم يخوضون لأول مرة تقريباً صراعاً يختلط فيه ما هو طبقي بما هو طائفي، ومن دون أن تكون الحدود واضحة تماماً بين هذا وذاك. فما بدأ صراعاً ضد سلطة ديكتاتورية منحازة طبقياً ضد الفقراء والمعدمين في درعا وريفها، استحال اليوم (ولو جزئياً) «حصاراً» و«تهميشاً» و«طرداً» لفقراء آخرين في المناطق المختلطة التي لم تمتثل تماماً لسلطة المسلحين. عندما ينزلق الصراع ضد السلطة المافياوية إلى قعر كذاك، لا تعود صورة التضامن مع الفقراء الذين ينهضون به كما كانت بالأمس. هي لا تزال قائمة طبعاً، ولكن التعديل الذي شابها يبدو متطابقاً أكثر مع صورة انعدام المناعة التي أبداها السوريون تجاه النزاعات الأهلية المستجدة على وعيهم الجمعي. ربما لم يصل الأمر بعد في سوريا إلى مرتبة الصراع الطائفي الدموي المفتوح على كل الاحتمالات، لكن ما رشح من فصوله حتى الآن يوحي بقابلية حقيقية لدى قطاع كبير من السوريين على احتضان نزاعات مماثلة وإدماجها في بنية هوياتهم المتبلورة على ضوء الصراع ومآلاته. يبدو أنّنا نستعد فعلاً لتجرع الكأس التي ذاقها اللبنانيون في 1975. كل ما يحدث من حولنا يقول ذلك: عجز النظام بنيوياً عن «التصالح» مع الشرائح التي سحقها بالأمس ولا يزال، واستمراره في مسرحة «العملية السياسية» وردّها إلى المكون الهزلي فحسب، تبلور «هوية أيديولوجية» للبيئة الاجتماعية الحاضنة له «شبيهة تماماً» بتلك التي كانت لليمين المسيحي في لبنان إبان الحرب الأهلية، جبن المعارضة بشقيها الوطني و«العميل» وبقاؤها رهينة لرأس المال القذر النفطي والدولي، بؤس «النخب» المعارضة وتهافتها على تجذير الطابع العمودي (اقرأ: الطائفي) للانقسام بدل أن تفعل العكس (تجذير طابعه الطبقي)... الخ.
لا يعود مستغرباً، والحال كذلك، ألا يلتفت أحد إلى «إنشاءات لفظية» حاولت ما أمكنها أن تحفر عميقاً في الوعي السائد المناهض للسلطة لكي تصل إلى ما تعتقد أنّه البعد الطبقي الذي فيه. ويبدو لي أنّ كل من حاول فعل ذلك لم ينجح إلا بمقدار معين ومحدود للغاية، وما خرج به في النهاية من خلاصات لا يكفي للقول بأنّ الازدواجية أعلاه بين بعدي الصراع الطائفي والطبقي قد انتهت، أو شارفت على الانتهاء. بعض هؤلاء مثلاً وصل اليوم إلى «نتيجة» هزلية مفادها أنّ الصراع كان طائفياً منذ البداية، وأنّ البعد الطبقي الذي ينطوي عليه لا يعدو كونه تمويهاً للأصل وتقنيعاً له في دينامية سياسية مفتعلة. ثمة مشكلة دائماً مع أصحاب هذه النظرية. هم غالباً ما ينظرون إلى الخلاصات المؤقتة التي أفضى إليها الصراع، ثم يبنون عليها نظريتهم بأثر رجعي. وخلاصاتهم تقول بأنّ ما يقود الصراع اليوم هو سوسيولوجيا الجماعات فحسب. ودليلهم على ذلك هو «أعمال التطهير» التي تعرّضت لها بعض المناطق المختلطة طائفياً. لن أناقش هؤلاء كثيراً في الوقائع، لأنّ «وقائعهم» تدحضها وقائع أخرى تفيد بأنّ «التطهير» لم يكن من جانب واحد فحسب (حمص مثلاً)، وسأكتفي بتفكيك الخرافة التي ينسبونها إلى علم الاجتماع السياسي كيفما اتفق، ظناً منهم أنّهم بذلك يبددون أي إمكانية لقراءة الصراع في سوريا من منظور طبقي. لنبدأ أولاً بتوصيف النظام الذي أوقعنا في هذا المأزق وفرض على الحراك تموضعاً معيناً في مواجهته. من وجهة نظر ماركسية جذرية، يقع هذا النظام في منزلة بين منزلتين: هو تعبير فعلي عن أوليغارشيا مافياوية عابرة للطوائف من جهة، لكنّه يظهر من جهة أخرى كأنّه يمثل على نحو صاف عصبية طائفية بعينها. الشق الثاني مثلاً (وهو أقرب إلى القشرة منه إلى أي شيء آخر) يناسب القراءة «السوسيولوجية» المقلوبة التي ينظر من خلالها البعض الى الحراك، ويحددون موقفهم من الصراع في ضوئها، فيبدو الأمر كما لو كان صراعاً على الوجود بين «جماعتين طائفيتين». جماعتان لا تتحركان في مواجهة بعضهما بعضاً كما يرطن بعض الموتورين، إلا إذا كان الحراك ذاك منقطع الجذور وبلا أي سياق يذكر. والسياق هنا حتى في أكثر نظريات علم الاجتماع تطرفاً هو سياق اقتصادي ـــ اجتماعي بالدرجة الأولى. بكلمة أخرى هو سياق تحدده مصلحة الجماعة لا غريزتها، هذا إذا كان صحيحاً أصلاً أنّنا إزاء جماعات متصارعة لا إزاء «شعب» «يتمرن على السياسة» تمريناً مكلفاً وباهظ الثمن. لكن ما يطرحه علينا بعض المنظرين الموالين من أنصار «القراءة السوسيولوجية» للصراع هو بالضبط عكس ما يذهب إليه علم الاجتماع السياسي عندما يقارب الحالة السورية. فنحن هنا إزاء حالة ليست فريدة من نوعها كما قد يظن البعض، ويوجد في التاريخ المعاصر للنزاعات الأهلية ما يعزّز ذلك، وما يؤكد أنّ ما يحصل اليوم في سوريا سبق له أن حصل في مجتمعات ليست بالضرورة مماثلة للمجتمع السوري، لكن دينامية الصراع داخلها هي «ذاتها تقريباً»، وإن في سياقات جغرافية وديموغرافية مغايرة. ذلك أنّ بنية الصراع على السلطة في أي مكان من العالم هي بنية طبقية أولاً قبل أن تكون أي شيء آخر. وإذا حصل وأدمجت عوامل أخرى جزئية (طائفية وجهوية) في دينامية الصراع فسيكون ذلك من باب التلفيق وتظهير صورة غير حقيقية له ليس إلا. والصراع في سوريا لا يشذّ عن هذه القاعدة نظرياً. أصلاً لم يزعم غير ذلك إلا من يريد تقنيع هذا الأخير وتلفيقه أيديولوجياً. فهو كان منذ البداية صراع كتلة شعبية وازنة ضد سلطة مافياوية تنهبها وتقمعها. والاستثناء الذي مثّله انكفاء النظام وراء «جماعات طائفية» تحميه وترمّم شرعيته المتآكلة، يؤكد القاعدة ولا ينفيها. طبعاً لا يمكن التقليل أبداً من حجم الخسائر البشرية (وهي فظاعات حقيقية إذا ما قيست بمعيارية معينة هي معيارية «طهرانية المعارضة» التي ثبت بطلانها عملياً وليس نظرياً فقط) التي حلّت بتلك الجماعات جراء تموضعها ذاك، وانحيازها إلى نظام لم يحمها كما كانت تعتقد، ولا استطاع حتى الحفاظ على رمزية وجود «الدولة الحاضنة لها» (بالمناسبة هذه الرمزية هي آخر ما تبقى لأولئك المذعورين من اختفاء فكرة الدولة). وهو وجود أضحى في خبر كان، وخصوصاً في الأماكن التي تفكّك نسيجها الاجتماعي وباتت عملياً تحت سيطرة المسلحين. كان ممكناً أن تبقى تلك «الخسائر العرضية» في إطار الاستثناء لولا الجبن الذي أبدته بعض تيارات المعارضة اليسارية عندما تغاضت عن معاناة أفراد بعينهم لمجرد أنّهم موالون، أو لمجرد أنّهم اختاروا اصطفافاً مغايراً لقناعاتنا المسبقة عن شكل الصراع ضد النظام. ثمّة ما يمكن استخلاصه من مثال كهذا: لن يستطيع المرء أن يدافع عن مشروعية الصراع ضد النظام وضد استثنائية وجوده، إذا استمر في المنافحة عن ممارسات مسلحة ليست سيئة إلا بمقدار معيّن، هو مقدار خدمتها لسردية النظام ومنظريه «السوسيولوجيين». أضف إلى ذلك ديناميتها العكسية القادرة على تغيير وجهة الصراع، وبالتالي تغليب وجهة نظر من يقول إنّ النظام هو القاعدة والحراك هو الاستثناء، لا العكس. والعكس يفيد بأنّ صراعنا ضد النظام كان صراعاً طبقياً منذ البداية، وتطييفه الآن من جانب بعض الطائفيين السفلة في النظام وفي المعارضة لن يفعل شيئاً إلا تأخير حسمه لبعض الوقت ليس إلا. فعامل الوقت يلعب دائماً لمصلحة «الشعب». وهذا الأخير حسم خياره في «إسقاط النظام» ولو رمزياً، ولو بدا أحياناً أنّ الشعار ذاك ما عاد مجدياً إلا في حالة واحدة ودقيقة للغاية: استقطابه للشرائح التي تزعزعت ثقتها بالنظام، لكن من دون أن يعني ذلك استعدادها للتخلي عنه في الأمد المنظور. عند هذه النقطة تماماً يقف الصراع اليوم، وتقف معه إمكانية الجزم بتغليب الطابع الطبقي له، لا الطائفي والجهوي (كما يريد له التحليل السوسيولوجي المبتذل أن يكون). الصفتان الأخيرتان ليستا حقيقيتين تماماً، لكنّهما ستصبحان كذلك إذا ما استمر عجزنا عن مجاراة الواقع، وعن الحدّ من انزلاقه إلى قعر شبيه بالقعر الذي تقبع فيه طرابلس اليوم.
* كاتب سوري