قامت مؤسّسة كنسيّة منذ أيّام بالضغط على الدولة كي تمنع عرض فيلم «تنّورة ماكسي» في صالات السينما (ثم عادت وسمحت به بعد إزالة بعض مشاهده). من وجهة نظر اجتماعيّة، إنّ منع بثّ فيلم أو عرض عمل مسرحيّ أو فنّي، بحجّة أنّه يسيء إلى أحد، أو إلى مجموعة من الناس، أمر لا بدّ أن يعطّل أيّ نقد ونقاش وحتّى سرد، لأيّ واقع، لأنّ كلّ نقد نقاش وسرد لا بدّ أن يصطدم برأي، وبمشاعر، مجموعة من الناس. لكن ما من تقدّم ممكن لمجتمع دون حرّية التعبير عن الرأي والخلق والإبداع، التي تسمح بنقد ما هو قائم، وفضح ممارساته الملتوية، سعياً إلى تغيير الواقع. قيمة رأي أو فكر معيّن، والحكم على هذه القيمة، هما شأن كل إنسان، وخاصّة أصحاب الاختصاص في المجال المعيّن، ولكلّ إنسان أن يرى في عمل ما جمالاً أو قبحاً، وفائدة أو مضيعة للوقت.
بالطبع ذلك لا يعني أنّ المنع غير مقبول من حيث المبدأ. فكلّ المجتمعات تعاقب على أمور كثيرة ــ وبالتالي تمنعها قانوناً ــ كالجريمة، والتحريض على القتل، والخطاب الذي يثير الكراهية، والعنصريّة، إلخ. ومن حقّ أيّ إنسان أن يُعارض فكرة معيّنة، وأن يحاول إفشال تحقيقها، أو يحدّ من أثرها. لكن شتّان ما بين المواجهات المدنيّة التي تسعى إلى نشر الفكر والإقناع، وجمع أكبر عدد من المناصرين من أجل القيام بضغط شعبيّ مسالم لأجل تحقيق هدف معيّن (مقاطعة مثلاً)، وبين أن تقوم مجموعة من الناس المتحكّمين في وسائل العنف المعنويّ والمادّي، بمنع عمل فكريّ أو فنّي ما. فحين يستعمل أصحاب رأي معيّن وسائلَ القوّة (والقانونُ قوّة) لا وسائل الفكر والنقاش، لمنع رأي وفكر آخر مُسالم، فإنّ ذلك يعني أَمرَين: الأمر الأوّل هو أنّه لم يجرِ تقديم أيّ فكر مقابل الفكر القائم، ولم يجرِ أيّ نقاش وحوار مع الفكر الآخر، وبالتالي خسر الجميع فرصة أيّ تقدّم، وهذا مدخلٌ لتخلّف كلّ مجتمع ولتحنيط كلّ رأي قائم، مستريح بامتلاكه وسائل القوّة المعنويّة والمادّية. أمّا الأمر الثاني، وهو الأسوأ معنويّاً وإيمانيّاً، فهو أنّ الذي يفرض رأيه بالقوّة، خوفاً على «أخلاق» الآخرين و«إيمانهم»، يفترضُ أمراً خياليّاً، ومَرَضِيّاً، ألا وهو أنّه يرى نفسه أكثرَ فهماً لمصلحة الناس منهم، وأكثر أخلاقيّةً، أو إيماناً بالله، منهم. أصحاب هذا التصرّف ينصّبون أناهُم ــ الفرديّة أو الجماعيّة ــ وصيّة على البشر، جاعلين منها مرجعاً للحقيقة والإيمان والأخلاق، أي تصير ذاتهم صنماً يتعبّد له أصحابُها دون أن يدروا، لكنْ، إيمانيّاً، في الله وحده تكمن «الحقيقة الكاملة» وله وحده العبادة تجوز، ونحن كلّنا نحاول في هذه الحياة أن نفهم أشياء من هذه الحقيقة فحسب؛ وكي يجري هذا الفهم، علينا أن نمرّ بمراحل بحث وتجريب وخطأ وصواب، وحوار، وأن يؤمن بعدها مَنْ يشاء، مع من يشاء، بما يشاء طالما أنّ ما يشاؤه ليس دعوة إلى قتل وتنكيل وسحق وقمع للإنسان الآخر.
نعم، يمكن اللجوء مع الحوار الفكريّ والفنّي، إلى محاولة منع تصرّفات أو خطابات إنْ كانت معادية لحقوق الإنسان، كمحاولة منع خطاب أو دعوة عنصريّة مثلاً، لكن يجب أن يصدر المنعُ عن قانون، والقانون يجب أن يكون ممثّلاً لإرادة معظم الناس في إطار مجتمع عادل حرّ، بعد أن تكون قد دُرست المعلومات المتوافرة، ونوقشت المشكلة والقانون علنيّاً. أمّا إن لم يكن الأمر كذلك، فلا يكون القانون عندها سوى أداة تسلّط بيد مجموعة ما على الشعب، ويؤدّي لا محالة إلى الانزلاق إلى الصنميّة التي أشرنا إليها، وعندها يصير السعي إلى تغيير القانون واجباً روحيّاً قبل أن يكون واجباً وطنيّاً، وذلك دفاعاً عن كرامة وحرّية الإنسان (صورة الله كما تراه المسيحيّة). ورغم ذلك، فإنّ الأكثريّة في بلد عادل وديموقراطيّ قد تقرّ قانوناً ظالماً، فالديموقراطيّة هي وسيلة لا معنى؛ وعندها على الناشطين في المجتمع محاولة تغيير القانون الجائر، شاهدين بحركتهم لما يرونه من حقّ. وهذا يعني أنّ الأكثريّة قد تكون على خطأ والأقلّية على صواب، لكن حركة الأقلّية تمثّل شهادتها للحقّ الذي تحمل، إلى أن تتغيّر القوانين. إنّ التراث الكنسيّ نفسه يحمل شهادات من هذا القبيل، فنرى في التاريخ الكنسيّ أشخاصاً كانوا أقلّية وكانوا هم على الحقّ (مكسيموس المعترف مثلاً)، ومجمع سُمّي في التاريخ الكنسيّ حرفيّاً «مجمع لصوصيّ» (مجمع أفسس 449 م.). لقد كان من الأجدى أن يلتفت المسؤولون الكنسيّون إلى عملهم الرعائيّ ليسهموا في نقل الإيمان الحرّ المنفتح، الواثق بمسيرته، والمناقش والمحاور، والقادر على المواجهة الحضاريّة للفكر بالفكر، وللفنّ بالفنّ، عوض أن يقدّموا إلى المؤمنات والمؤمنين مثالاً سلبيّاً في الخوف، وانعدام الثقة بالذات، والقمع الفكريّ، ومثالاً مناقضاً للإيمان ومخيفاً عن وضع الذات الفرديّة والجماعيّة في موقع فوقيٍّ تجاه الأخوات والإخوة في الإيمان، هذا عدا الضرب بعرض الحائط احترام وجود كلّ مؤمن، أو غير مؤمن، لا يشاطرهم الرأي. أو يكون المسؤولون الكنسيّون قد نسوا أنّ المسيح حرّر الناس كي ينعموا بهذه الحرّية، وكي لا «يصيروا عبيداً لإنسان»؛ أو يكونون قد نسوا أنّ المسيح «واقف على الباب يقرع»، يخاطب قلب الإنسان وعقله ولا يكسرهما؟
* أستاذ جامعي
8 تعليق
التعليقات
-
لكل من استفزه هذا المقالحضرة الأخ الغيور، والآخرين ممن استفزهم هذا المقال، يبدو جلياً أنك لا تعرف الحركة ولا الفكر الحركي فهي تقدس الحرية التي تعتبرها ابهى تجلي لصورة الله في الانسان. فعندما الله، الخالق نفسه، يحترم حرية الانسان فلا يقتحمه ولا يجبره ان يؤمن به بل حتى يبقى على محبته له، يأتي من يريد ان يقمع ويمنع ويُلغي باسم الله. الحرية تحترم وتعمل على الاصلاح بمحبة ولكنها لا تُلغي. اقترح عليك ان تعيد قراءة النص بروية، فالكاتب لم يدافع عن الفيلم ابداً، بل اقترح المدافعة والاعتراض وحتى المقاطعة. هو مع اساليب الاعتراض المسالمة في التعبير ولكنه ضد اسلوب المنع والقمع والالغاء الذي يذكرنا بمحاكم التفتيش والاساليب العنفية الأخرى التي تمارس بشكل خلاّق في بلادنا. فرأيه واضح أيضاً في الجملة الأخيرة " أنّ المسيح «واقف على الباب يقرع»، يخاطب قلب الإنسان وعقله ولا يكسرهما" اذاً لكل منا قلب وعقل فليحكمهما.. ولكن ليس الحل في الالغاء. اليوم نوافق على الغاء فكر معين بدل مناقشته وغداً نشرّع من جديد الغاء الآخر... فهو مختلف لا بل يتجرأ ويتعرض لمقدساتنا.... في النهاية لا تخف على الحركة، فهي مازالت وستبقى شابة بنعمة الروح الذي يجددها أبداً، والكاتب خير مثال على ذلك.
-
لا لبوليس الدينيشكراً للكاتب على هذا المقال القيم . نحن بحاجة ماسة إلى أصوات منفتحة و معتدلة بوجه هذا الجهل والهذيان اللاهوتي الذي يتحفنا به مصف من رجال الجهل على المنابر الاعلامية . حذار على لبنان أن يسقط في براثن البوليس الديني . تحية تعاطف مع الفنان المخرج جو بوعيد
-
تنورة ماكسي...الفن الحقيقي يحث على السمو في الأخلاقيات والتقدم الاجتماعي والمجتمعي بعيدا ً عن العنف والشذوذ الفكري وغيره .ومن واجب رجال الدين أجمعين اعادة تصويب المسارات بالكلمة والقانون لأن واجبهم حماية الناس والمؤمنين من الأفكار المريضة التي تلبس طفلا ً وأكرر طفلا ً عباءة تخيلات وايحاءات بعيدة عن البراءة والطفولة في أطر قدسية . كفى متاجرة .
-
حين ينسى ...الفن هو ابداع والحث على الابداع لا يقوم على تشويه واختلاقات يمجها ويرفضها العقل والمنطق .الفن يقدم للانسان التقدم والسمو الى الاخلاق والترفع عن الموبقات ، لا يدخل ضمنه تشويهات ورأي مريض بالعنف او بالانحراف . وحسب هذا الفيلم كيف يمكن أن يتخيل طفل وأكرر طفل أمور وايحاءات ملتوية ضمن اطر قدسية ، فالتخيل المريض هذا هو من تخيل اناس كبار السن لا اطفال لأن الفكرة المستترة وراء هذه المشاهد هي تدميرية والطفولة والاطفال لا يمكن أن يكونوا بعيدين عن البراءة . كفى متاجرة . ومن واجب رجال الدين اجمعين بالكلمة والقانون تصويب مسارات المتفلتين من عقال الانسانية والأخلاق واحترام المقدسات هذا واجبهم تجاه الناس والمؤمنين .
-
كن انت مثال للاخرين بدلا منكن انت مثال للاخرين بدلا من ان تطلب من الرعاة ان يكونوا مثالا .قوم بعملك الحقيقي كونك حركي فلا تعلل بعلل الخطايا ، قانوك هو الفلتان باسم او قانون هو تقوله كنيستك الارثوذكسية التي انت منتمي اليها كونك مؤتمن على حماية وحفاظ صفاء ونقاء المسيحية مثل عمل به مكسيموس المعترف كن مكسيما ولا تكن اكسيما. عزز الثقة في محيطك وفي وسط الشياب في كنيستك ومسيحيتك حتى لا يتزعزع ايمانهم ولا تتشوه صورة الحقيقة لديه عن المسيح وعن رجالات الكنيسة . الكنيسة تتحرم الملحد وغير الملحد وتقدس ارائهم ولكن لا تتقبل باي شخص او فرد بان يسيء اليها ويعمل على تهديمها الكنيسة تتعرف بالاخر وحتى اذا كان هذا الاخر ملحد تحبه وتتحضنه وتحاوره ولكن هناك خطوط لا يمكن تجاوزها من اي شخص كان حتى لو كان من اهل البيت
-
يا حضرة الاستاذ الجامعييا حضرة الاستاذ الجامعي المرموق بسعة علمه ومعرفته هل تقبل ان يهين احد علمك وثقافتك من باب الحرية وان يشتم ثقافتك ويعنفك. الوقاحة هي الحرية؟ هل التعدي على الشعائر المقدسة هي الحرية هل حريتك هي بان لا تحافظ علة نقاء وصفاء ديانتك المسيحية مع كونك عضو فعال في احدى الحركات الدينية او بالاحرى الحركة اليتيمة والوحيدة التي اصبحت عجوزا( حركة الشبيبة الارثوذكسية)هل تسمح او تشجع للقارئ المجلة التي تكب فيها تجلياتك بان يشاهد الايحاءات الجنسية من خلال بعض صور عن وفي داخل الكنائس هذا هو الدور التربوي التبشيري الذي تقومون به لاستنارة شباب كنيستكم وتوعيتهم من خطر، هذا هو التزامك الكنسي والحركي بان تكون شمعة مضيئةوايقونة في العالم كما اوصاكم معلمعكم ومؤسسة حركتكم المعلم الكبير المطران جورج خضر ، لما لا تذهب انت وافراد اسرتك من الشبايب واخوتك واطفالك لتحضروا هكذا فيلم بماذا تجاوبهم .الحرية مقيدة دينيا بالطاعة ليسوع المسيح واجتماعيا بالاحترام القوانين والانظمة ، الحرية هي الحرية ضمن الدين والاخلاق والاداب العامة، الحرية لا تعمل القبيحة والفلتان الاخلاقي .
-
ألف شكر"أصحاب هذا التصرّف ينصّبون أناهُم ــ الفرديّة أو الجماعيّة ــ وصيّة على البشر، جاعلين منها مرجعاً للحقيقة والإيمان والأخلاق، أي تصير ذاتهم صنماً يتعبّد له أصحابُها دون أن يدروا،..." شكراً خريستو المر، شكراً بيار أبي صعب، ولكل فكر حرّ، منفتح، في هذه البقعة التي أسموها بلداً!