من غرائب التاريخ البشريّ ومبتدعات الأمم في العصور السالفة ما كان يعرف بقانون «سكسونيا»، وهو قانون ابتدعته حاكمة مقاطعة سكسونيا، إحدى المقاطعات الألمانية القديمة في العصور الوسطى. وبموجب هذا القانون فإنّ المجرم يُعاقب بقطع رقبته إن كان من طبقة «الرّعاع» ــــ عموم أفراد الشّعب الذين لا ينتمون إلى طبقة النّبلاء ــــ أما إن كان المجرم من طبقة النبلاء فعقابه هو قطع رقبة ظلّه! بحيث يُؤتى بـ «النبيل المجرم» حين يستطيل الظّل بُعيد شروق الشمس أو قُبيل مغربها، فيقف شامخاً منتصب القامة، مبتسماً، ساخراً من الجلّاد الذي يهوي بالفأس على رقبة ظلّه، ومن جمهور «الرّعاع» الذي يصفّق فرحاً بتنفيذ «العدالة»!
وهكذا، فإنّ السّارق إذا كان من الكادحين والمغلوب على أمرهم، يُزجّ بالسّجن ويُعاقب نتيجة لقيامه بالسّرقة. أمّا سادة القوم، لو سرق أحدهم، فلا يُصاب بأيّ أذى لأنّ ظلّه هو من يُحاكم ويُزجّ بمحاكمة صوريّة وراء القضبان!
ما أشبه هذا القانون البائد بما هو سائد عندنا من قوانين، وما أعظم الفرق بين شعوب كان يحكمها قانون سكسونيا لكنّها استيقظت وناضلت للوصول إلى العدالة، وبين شعوب تجتّر التاريخ المظلم وترضى بحكم الجور عليها وعلى أجيال ستأتي بعدها.
ربما يجدني البعض متجنّياً، أو مبالغاً في تصوير الواقع وإطلاق الأحكام، وإنّي لأعذر هذا البعض المستغرق في التفاؤل، أو النّائي بنفسه عن ساحة الأحداث. ولكن بالله عليكم قولوا لي: أليس قانوناً سكسونياًّ ذاك الذي يجرّم الفقير لفقره ويتجاوز عن الغنيّ لغناه؟ أليست سكسونيا الحديثة تلك التي يكون فيها الزعماء فوق العدالة وفوق القانون وفوق الشبهات؟! أليس قضاءً سكسونياًّ ذاك الذي يسجن سارقاً دفعه العوز والجوع إلى السّرقة ويترك كبار اللصوص من دون حسيب أو رقيب ينهبون أموال الشعب؟ أليس قضاءً هشّاً وضعيفاً وتابعاً ومسيّساً ذاك الذي يعجز عن محاسبة الجناة وكفّ أيدي المعتدين؟ ألسنا نعيش في وطن سكسونيّ تُجبى فيه الضرائب حصراً من المعدمين، ويطبّق القانون على فئة دون أخرى؟
ماذا تسمى الدّولة التي يترأسها النّبلاء وأولادهم ونساؤهم، ويبنون إمبراطورياتهم الماليّة وعروشهم المخمليّة، ويستخفّون بكرامات النّاس وآمالهم وأحلامهم؟ أليست دولة سكسونيا تلك التي يحكم فيها أمراء الحرب المقامرون، تجّار المال والدّم، المتنافخون الفارغون، ويُهمش فيها المفكرون والمبدعون، ويُسجن الأحرار، وتُعتقل الحريّة، وتُشترى الصحافة، وتُباع المواقف؟
أيّ وصف يليق بدولة يُزج فيها اسم الله خلف المتاريس المذهبيّة وتُستبدل المواطنة بالطائفيّة؟
الشيخ محمد أسعد قانصو