كَثُرَ الحديث في الوسط السياسي العراقي في الآونة الأخيرة، مع اقتراب موعد انتخابات المجالس المحلية، وصدور دعوات من بعض الأطراف السياسية لحلِّ البرلمان وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة، عن إمكانية إطلاق مشروع قائمة انتخابية ديموقراطية مستقلة وذات برنامج مناوئ للمحاصصة الطائفية والتبعية لدولة الاحتلال، أي الولايات المتحدة. تسود بهذا الخصوص نظرتان متعاكستان من حيث المضمون والاتجاه السياسي العام. الأولى، يمكن وصفها بالعدمية والمتطرفة، مفادها رفض مطلق لكل ما هو موجود في الواقع السياسي الراهن، على قاعدة أنّ الدستور والبرلمان والعملية السياسية والانتخابات التشريعية والمحلية وجميع المؤسسات التي انبثقت بعد 2003 باطلة وغير شرعية لأنها أقيمت خلال الاحتلال الأجنبي المباشر.
ينبغي بالتالي، وفق هذه النظرة، الشطب على كل شيء والانطلاق من الصفر أي من العودة إلى تاريخ 8 نيسان 2003. هذه النظرة المستحيلة نظرياً وعملياً، أخذت بالانحسار التدريجي منذ إتمام الانسحاب المعلن لقوات الاحتلال، لكنّها لا تزال تجد لها بعض المؤيدين ممن يحسبون أنفسهم على تيارات المعارضة ومناهضة الاحتلال والطائفية، مع أنّ خطابهم السياسي لا يخلو من «فيروسات» الطائفية المضادة!
النظرة الثانية، ويأخذ بها طيف واسع نسبياً من الشخصيات والقوى السياسية التي تعتبر نفسها مناوئة للمحاصصة الطائفية، ولكنّها تدافع عن مجمل الخطوط العامة للنظام القائم والعملية السياسية. من هذه الأطراف الحزب الشيوعي بزعامة حميد مجيد موسى، الذي سبق له المشاركة في فعاليات وهيئات هذه العملية منذ اليوم الأول للغزو، وارتضى أن تكون مشاركته تحت سقف المحاصصة الطائفية ذاتها، لكنّه، وبسبب فشله في إحراز أية مكاسب سياسية وانتخابية، يرفع الشعارات والمطالب السياسية والاجتماعية الجزئية والرافضة للمحاصصة الطائفية لكن لا تمس طبيعة نظام الحكم في العمق.
عدا هاتين النظرتين، ثمة وجهات نظر وأفكار أخرى تقترب أو تبتعد عما سميناه البديل الديموقراطي المطموح إليه والمناوئ للمحاصصة الطائفية والتبعية لدولة الاحتلال. لعل من أكثر هذه الأفكار جِدَّةً وجاذبية سياسية تلك التي عبر عنها أحد الأطراف السياسية العراقية من خارج العملية السياسية الأميركية، هو التيار الوطني الديموقراطي، ولسان حاله «البديل العراقي»، حين دعا إلى إطلاق قائمة انتخابية باسم «العملية السياسية الوطنية» لتكون «بديلاً للعملية السياسية الأميركية». غير أنّ هذه الفكرة ظلت معلقة في سماء السجالات السياسية والأماني والرغبات الشخصية، ولم تُجَسّد سياسياً وتوضع مفرداتها في إطار برنامجي مفصل وعملي. وبغض النظر عن الاسم المقترح للقائمة، والمثير لجملة إشكالات، وعن الفكرة الأساسية التي تنهض عليها هذه الدعوة، خصوصاً بعد استبدال الاحتلال المباشر بنوع من التبعية غير المباشرة للولايات المتحدة والتي تُنَظّم حركتُها بموجب الاتفاقية الأمنية واسمها الرسمي «اتفاقية انسحاب القوات الأجنبية» واتفاقية «الاطار الاستراتيجي». بغض النظر عن هذا كله، يمكن تسجيل الملاحظات التالية: إنّ استمرار خلو الساحة من بديل ديموقراطي حقيقي يتصدى لتحالف المحاصصة الطائفية العرقية ممثلاً بالكتل الثلاث الكبرى، التحالف الوطني، وقائمة «العراقية»، والتحالف الكردستاني، أمر مضرٌّ بقضية الديموقراطية ككل، وبآمال الشعب العراقي في إنهاء حكم المحاصصة والخراب الذي جاء به والتوجه لبناء نظام ديموقراطي.
إنّ استمرار حالة الفراغ هذه، هو الوجه الآخر للمراهنة العبثية على أطراف العملية السياسية الأميركية التي تزعم مناهضة الطائفية كقائمة «العراقية» بزعامة علاوي المعروف بماضيه وعلاقاته السياسية والأمنية، أو على قائمة «دولة القانون» بزعامة المالكي التي فشلت هي الأخرى في الخروج من جلدها الطائفي والانطلاق نحو الفضاء الوطني بسبب تحالفها مع أطراف طائفية وتنفيذها لسياسات وأجندات لا يمكن وصفها بالديموقراطية.
من ناحية أخرى، فإنّ الدعوة إلى مقاطعة العمل السياسي في داخل العراق لأسباب تأثيمية وتحريمية ذات نزوع عاطفي وذاتي لم تعد محتملة ولا مبررة، فالمشاركة في العملية الانتخابية من مطلقات مناوئة ورافضة للطائفية والتبعية أمر مختلف تماماً عن المشاركة في العملية السياسية الأميركية عبر الذوبان فيها والتحول إلى جزء من القوى الطائفية والعرقية المشاركة فيها. إنّ أقل ما يمكن أن تنجزه قائمة ديموقراطية مستقلة، حتى إذا اتحدت ضدها كل القوى في تحالف المحاصصة الحاكم، وهو ما سيحدث بكل تأكيد، وحتى إذا فشلت في تحقيق نتائج انتخابية متميزة، هو إنهاء حالة الفراغ السياسي الوطني الديموقراطي وتجسيد البديل المطموح إليه.
بخصوص الملامح العامة والأهداف التي يمكن أن تتلاءم مع مشروع هذه القائمة الانتخابية، نسمح لنفسنا باقتراح الخطوط العريضة التالية للنقاش والتفكير:
ـ إعطاء المحور الاجتماعي أولوية قصوى، فالشعب يعيش حالة كارثية من الفقر والبطالة والعوز وانتشار الأمراض الغريبة بسبب التلوث الإشعاعي الذي خلفه الاحتلال والنسب التي تعلنها الإحصائيات لمن هم دون خط الفقر وللمصابين بالأمراض السرطانية مرعبة حقاً. ويمكن العمل على هذا المحور عبر إطلاق برنامج اجتماعي عاجل، وإنشاء وزارة خاصة للتضامن الاجتماعي توكل إليها، إضافة الى مهامها التقليدية الأخرى، مهمة رعاية الأيتام والأرامل وترسيم مديرية عامة مخصصة لهذا الغرض. وتوكل إليها مهمة توزيع البطاقة التموينية بعد تحسين نوعية مفرداتها وإدارة شبكة الحماية الاجتماعية بعد تنقيتها من مظاهر الفساد ورصد ميزانية مناسبة لها.
ـ تعديل الدستور تعديلاً جذرياً وبشكل شفاف وعلني بما يضمن قيام دولة ديموقراطية اتحادية علمانية تُحَرِّم الطائفية والعنصرية وتلغي الفيتو الذي تتمتع به محافظات بعينها مع ضمان الحقوق المشروعة للمكونات القومية العراقية الكردية والتركمانية والكلدانية والآشورية وغيرها، وصولاً إلى إجراء استفتاء شعبي نزيه عليه بعد طرحه على الرأي العام لفترة مناسبة لمناقشته.
ـ مواجهة خطر تجفيف وإزالة الرافدين، دجلة والفرات، بسبب السدود التركية العملاقة والمشاريع المائية الإيرانية، عبر تبني سياسة حازمة لا تستثني شكلاً من أشكال الدفاع عن الوجود الكياني للعراق وشعبه، بهدف الوصول إلى عقد اتفاقيات عادلة لتقاسم مياه النهرين مع تركيا وإيران وسوريا.
ـ إنهاء التبعية لدولة الاحتلال «الولايات المتحدة» من خلال إلغاء الاتفاقية الأمنية معها وإلغاء الاتفاقية المتممة لها «اتفاقية الإطار الاستراتيجي»، والعمل على مقاضاة تلك الدولة ومطالبتها بتعويضات تناسب حجم التدمير الذي ألحقته بالعراق وشعبه. وإعادة النظر في العلاقات المختلة وغير المتوازنة مع إيران بما يضمن استقلال وسيادة العراق قولاً وفعلاً.
ـ إطلاق حملة وطنية شاملة لمكافحة الفساد المالي والإداري تحت شعار «من أين لك هذا؟» لا تستثني أحداً مشتبها به في الحكومات السابقة والحالية والبرلمان السابق والحالي، وفي جميع دوائر الدولة ومؤسساتها، على ان تجري هذه الحملة بشكل شفاف وعلني ومحايد قضائياً.
ـ إطلاق عملية مصالحة وطنية ومجتمعية حقيقية تقوم على أساس حلِّ مفوضية «المساءلة والعدالة» وتحويل العملية التي تديرها هذه المفوضية من اجتثاث سياسي وفكري وتنظيمي لحزب بعينه إلى عملية قضائية جنائية للمتهمين في عمليات القمع خلال عهد النظام السابق وتقديم المسؤولين الملطخة آياديهم بدماء العراقيين الى القضاء وتحريم تمجيد الديكتاتور وأركان نظامه السابق والذين تمت أو ستتم إدانتهم وحظر الترويج لأفكارهم وممارساتهم واعتبارها جريمة يعاقب عليها القانون.
بخصوص الملمح الأخير، قد يقول قائل إنّ معنى ذلك هو السماح بعودة البعث الصدامي من نافذة الانتخابات، بعدما أخرج من باب الاجتثاث، وهذه مغالطة للواقع لأنّ البعثيين الصداميين المتهمين بارتكاب تجاوزات وجرائم سيكون مكانهم المحاكم وليس المشهد السياسي. ثم إنه قول ينطوي ضمناً على الاعتراف بفكرة خطيرة وغير صحيحة مفادها أن الشعب يرغب بعودة البعث عبر الانتخابات إلى الحكم وهو ربما يفضله على مجموعة الأحزاب الناشطة في العملية السياسية اليوم.
أما القول بأن الاجتثاث وحلّ الأحزاب الشمولية لم يعد إجراءً عراقياً بحتاً بعد أن أخذت به الأنظمة الجديدة التي جاء بها الربيع العربي كما هي الحال في مصر وتونس فنرد عليه بالوقائع التالية: إنّ الخلط بين البعث بشكل عام وتجربة نظام صدام حسين هو هدف الصداميين قبل غيرهم. وثانياً هناك بعثيون قاوموا هذا النظام وقاتلوه لعقود وكانوا جزءاً من المعارضة العراقية كحزب «البعث اليساري/ قيادة قطر العراق» بقيادة محمد رشاد الشيخ راضي. وهناك بعثيون وقفوا ضد ديكتاتورية صدام حسين فأعدم منهم العشرات في يوم واحد، كمجموعة وزير الصناعة السابق محمد عايش ومُنَظِّر الحزب عبد الخالق السامرائي، فما ذنب هؤلاء وأولئك ليعاقبوا بجريرة الصداميين؟ وثالثاً، فإنّ ما هو لا ديموقراطي في العراق سيبقى لا ديموقراطياً أينما كان، والاجتثاث الفكري والسياسي أمر لا ديموقراطي ومستحيل عملياً. نُذَكّر هنا، بمحاولة بعض فصائل اليمين المتشدد في تشيكوسلوفاكيا قبل تقسيمها حظر واجتثاث الحزب الشيوعي بعد انهيار النظام الاشتراكي هناك، وكيف رُفِضَت هذه المحاولة وأجهضت خلال بضعة أيام وتضامنت غالبية الأحزاب بما فيها اليمينية مع الحزب الشيوعي التشيكوسلوفاكي.
وعلى أية حال، فالبعث نفسه، وبعد أن صار مجموعة أحزاب وقيادات، يتحمل جزءاً كبيراً، بل الأكبر، من مسؤولية ما حدث ويحدث له بسبب إصراره على عدم الاعتذار للشعب عما ارتكبه خلال فترة حكمه، بل ومن خلال تمجيد بعض أجنحته للديكتاتور ونظامه واعتبار مجازره بحق الشعب انتصارات. فلا يزال أغلب قادتهم وأدبياتهم تصرُّ مثلاً على تسمية انتفاضة ربيع 1991 الشعبية باسم «صفحة الغدر والخيانة»، ويصفون ملايين العراقيين المشاركين فيها بالغوغاء ويعتبرون قمعها وإغراقها بالدماء انتصاراً مجيداً، إضافة إلى رفضهم إجراء أية مراجعة نقدية لتجربتهم السلطوية كما فعلت سائر الأحزاب التي حكمت زمناً ثم أطيحت.
إنّ هذه الأهداف والملامح البرنامجية العامة المقترحة للنقاش لا تهدف في الدرجة الأولى إلا إلى إعطاء النقاش حول ضرورة إطلاق قائمة انتخابية ديموقراطية ومستقلة تتصدى لتحالف المحاصصة وعمليته السياسية الفاشلة بُعْداً عملياً وأرضية برنامجية ملموسة.
*كاتب عراقي