أطلق الجزائريّون اسم «السلطة» على القوّة العسكريّة الفاعلة من وراء الستار. يأتي المدنيّون ويرحلون، والعسكر باقون. أصحاب ربطات العنق ما هم إلا دمى بأيدي أصحاب النياشين، الذين يسيرون برضى الغرب الذي زكّى بن علي. المدنيّون يتبدّلون ويرثون من دون صخب. في مصر، قد تكون الثورة المُضادة في وارد توطيد دعائم حكم العسكر لضرورة الحفاظ على معاهدة السلام المصريّة ــ الإسرائيليّة، التي اتضح أنّها توأم النفط في معادلة السياسة الخارجيّة الأميركيّة.
هناك حركتان في السياسة المصريّة الآن في عهد ما بعد مبارك: هناك الحركة السطحيّة الظاهرة للعيان، وهناك الحركة المُستترة التي لا نعلم عنها شيئاً، والتي تقرّر السياسات _ على وزن لجنة السياسات في عهد مبارك. الحركة الخفيّة هي التي تنسّق السياسة الخارجيّة والدفاع مع العدوّ الإسرائيلي ومع أميركا، من دون أخذ رأي الشعب المصري، وهي التي تقرّر قوانين اللعبة الداخليّة السياسيّة وحدودها. هي التي رحّلت عملاء الـ«موساد» المدجّجين من داخل سفارة العدوّ في القاهرة، وهي التي رحّلت المطلوبين في قضيّة منظمات المجتمع المدني. الحركة الظاهرة هي حجاب للحركة المُستترة: قد يكون الهدف من المناظرات والانتخابات صرف أنظار الرأي العام وإلهاءه، لا احترام الرأي العام المصري وطلب تأييده.
المناظرة الرئاسيّة (أو المناظرات) أخذت حيّزاً مهمّاً من الاهتمام. حدث غير مسبوق، لكنّها لم تكن الأولى من حيث المناظرات السياسيّة الحيّة في العالم العربي. موريتانيا (ماذا نعلم عنها في العالم العربي؟) هي التي شهدت أوّل مناظرة رئاسيّة حيّة على الهواء. ولكن قد يكون لبنان هو الذي شهد أوّل مناظرة سياسيّة حيّة بين سياسيّين: كان ذلك في السبعينيات من القرن الماضي عندما واجه وزير الداخليّة آنذاك، بهيج تقيّ الدين، المُعارض ريمون إدّه. خلت الشوارع من المارّة في تلك الليلة وتسمّر الناس أمام الشاشة في زمن كان التنافس بين محطتيْن تملكهما الدولة اللبنانيّة. بهيج تقي الدين الذي اشتهر بمرافعاته القضائيّة كان بليغاً وقويّ الحجّة (كما أذكر من سن الحداثة)، فيما كان ريمون إده يردّ بالقفشات والسخرية والهزء (ولم يكن خصمه يجيدها)، وكسب إدّه المناظرة بالنقاط والكاريزما (التي لم يكن تقيّ الدين يمتلك منها درهماً). لكن المناظرات تتطلّب شروطاً من حريّة نسبيّة يفتقر إليها العالم العربي برمّته.
يجب بدايةً التعليق على شروط المناظرات في مصر. ليس هناك هيئة مستقلّة في مصر (أو في أميركا حيث استولى الحزبان البارزان على عمليّة إدارة المناظرات الرئاسيّة بعدما كانت في يد لجنة مستقلّة هي «رابطة الناخبات»)، كي تدير المناظرات بصورة مستقيمة ومنصفة. وإخراج المناظرات وإدارتها جزء من عمليّة المناظرات ونتائجها السياسيّة. هناك ظاهرة الإعلام الخاص في مصر، لكنّه لا يبشّر بالخير ولا يؤذن بمرحلة من الإعلام الجريء. يسيطر أصحاب المليارات على تلك الفضائيّات في العالم العربي التي لا تملكها الدولة ولا حكّام النفط والغاز. أي إنّ إعلام الناس الناطق بمصلحة عامّة يخضع لمشيئة صاحب مليارات. تفرض الديموقراطيّة الأوروبيّة حقوقاً لإعطاء مساحة متوازية أمام المرشحين، كذلك إنّ إعلام الدولة يعطي المساحة ذاتها للمتنافسين (والمتنافسات _ لم يأت بعد زمن المتنافسات في العالم العربي المُثقل بأحكام الشريعة). هذا ما يفتقر إليه الإعلام المصري، وخصوصاً أنّ إعلام الدولة لا يُركن له؛ لأنّه لا يخضع لهيئة مُستقلّة عن السلطة الديكتاتوريّة الحاكمة (من مبارك إلى شلّة طنطاوي).
تقرّر المحطات الفضائيّة الخاصة عمليّة انتقاء المرشحين وشروط المناظرة، وهي لا تعلّق على العمليّة الاستنسابيّة في استبعاد بعض المرشحين وقبول بعضهم الآخر من قبل قضاة نظام مبارك. تُقرّر الأسئلة من دون إعلام الجمهور بما يدور خلف الجدران. ولا نعلم، أو لا نتلقّى علماً، عن طبيعة صاحب المليارات والمرشّح المُعيّن. ثم كيف تجري عمليّة الترشيح؟ من يرشّح من؟ كيف يقرر عمر سليمان أن يترشّح، قبل أن يُستبعد؟ من وراء أحمد شفيق؟ هل هناك من سأل عمرو موسى عن مكافأة نهاية الخدمة في الجامعة العربيّة التي قررها الطغاة العرب له؟
لكن تقليد إجراء المناظرات كتحضير للاقتراع الشعبي صحّي في الحياة السياسيّة العربيّة لأنّه يفرض احتراماً، لا بل استجداءً، لتأييد الرأي العام العربي _ وهو مُغيّب لعقود في عصر «طال عمرك». لم يتعوّد الرأي العام العربي إلا التقريع والأكاذيب والزهو الذاتي من قبل حكّامه. المناظرات علامة على مساحة من التعبير الأوسع، لكنّها ليست دليلاً على تقدّم ديموقراطي بحد ذاته، وهي بالتأكيد ليست الحريّة التي يصبو إليها الشعب العربي. على العكس، قد تكون المناظرات المرسومة بعناية مقصودة من المجلس الحاكم للسيطرة من وراء الستار على نتائج الصراع السياسي. وقد تكون هي أيضاً مقصودة لتحوير أنظار الرأي العام ولإلهاء الناس. إنّ تسلية الناس، أو إلهاءهم، شرط من شروط سيادة السلطة (على ما أفاد في شرحها عالم الاجتماع الماركسي، سي. رايت. ملز، في كتابه «نخبة السلطة»). إنّ وسيلة التسلية والإلهاء تفسّر التوالد المُستمرّ لمحطات الغناء والرقص والرياضة والدراما في باقة الفضائيّات العربيّة (الخاضعة في معظمها لسلطة النفط والغاز).
أما المناظرة بين موسى وأبو الفتوح فلم تكن لمصلحة موسى. موسى يجيد استخدام الإعلام، وخصوصاً أنّه كان بارعاً في الحوار الصحافي، مقارنة بمختلف أفراد سلطة مبارك عبر السنوات. لكن موسى، المُتأثّر بتقاليد الترشيح الرئاسي الأميركي وحملات الدعاية العامّة، أتى إلى المناظرة بفائض من الثقة بالنفس والزهو الطاووسي. والثقة بالنفس، وخصوصاً إذا كانت مفرطة، هي من عوامل الخسارة الانتخابيّة (كانت من أسباب خسارة فريق حزب الله للانتخابات النيابيّة في 2009، وقد برزت في خطاب نعيم قاسم قبل أيّام من الاقتراع. إنّ شروط النجاح الانتخابي تفترض ادعاء الخسارة، حتى من المُرجّح فوزه). لم يبدُ موسى متحضّراً (وهذا ما فاته في أسلوب المناظرات الرئاسيّة الأميركيّة حيث يتمرن المرشّح على المناظرة في ساعات طويلة مع شخص مُنتقى بعناية من عداد طاقم الحملة الانتخابيّة). أتى موسى إلى المناظرة واثقاً من أنّه سيفوز بالضربة القاضية على خصمه الذي كان مُستعدّاً له.
موسى استهان بخصمه، وأطلّ بلا ردود مُقنعة، ولم يكن في حوزته ما يردّ به على خطاب أبو الفتوح إلا القول إنّه كان يعارض سلطة مبارك دفاعاً عن تنظيمه لا عن مصر. وفي هذا القول ديماغوجيا فاقعة؛ لأنّه يفترض أنّ الدفاع عن الأحزاب الوطنيّة في كلّ الدول الديموقراطيّة لا ينطلق من افتراض مصلحة الوطن عند كلّ مناصري الأحزاب ومناصراتها. وظلّ موسى يُكرّر اللازمة ذاتها، وكأنّه لم يأتِ بغيرها. كذلك لم يكن موسى مُتحضّراً لأهم تهمة تُوجّه إليه: أنّه عمل لسنوات في مناصب رفيعة خلال حكم حسني مبارك، وأنّ الظهور بمظهر الثائر المُعارض لا يليق به وبماضيه. لا يستطيع موسى أن يتنصّل من التهمة بسهولة. وكلّما أثار أبو الفتوح المسألة، تعثّرت إجابات موسى، أو تكرّرت، أو لم تكن قويّة الحجّة.
أما أبو الفتوح، فقد بدا قويّاً. كان عليه أن يثبت أنّه يصلح كي يكون ندّاً في المناظرة مع رجل تمرّس في السياسة على أنواعها لعقود. أبو الفتوح كان مستعداً للمواجهة وكان قويّاً في طرحه من دون أن يخفض مستوى الحوار. كان موسى حائراً في الردّ عليه أحياناً، وخصوصاً في مسألة خدمة نظام مبارك. بدا موسى هزليّاً وهو يحاول إقناع الجمهور بأنّه كان مُعارضاً من خلال مواقعه الرفيعة في نظام مبارك. ولم يكن موسى يتوقّع أن تتعرّض خدماته في الجامعة العربيّة لنقد من أبو الفتوح، مع أنّ هذا النقد ضروري ومنطقي. إنّ الوضع المأساوي للجامعة العربيّة هو أكبر إدانة لترشيح عمرو موسى وكفاءته وأهليته. وأبو الفتوح كان واضحاً في إحراج موسى على صعيد علاقاته الدوليّة والعربيّة من خلال التشديد على القضيّة الفلسطينيّة. وعندما سُئل المرشحان عما إذا كانت إسرائيل تُعدّ عدوّة، لم يتردّد أبو الفتوح في الإجابة، فيما أجاب موسى بطريقة مُبهمة وكأنّ شعبان عبد الرحيم ساعده في الإعداد للمناظرة. لكن أبو الفتوح أدرك أنّ شبكة علاقات موسى الدوليّة لا تسمح له بالمجاهرة بمواقف قويّة ضد العدوّ الإسرائيلي، فألحّ عليه بالإجابة عن سؤال أراد أن يتجاهله كليّاً تسديداً لفواتير خارجيّة.
لكن أبو الفتوح لم يحسن الإجابة عن تكرار اتهام موسى له بخدمة الإخوان، لا خدمة مصر. كذلك إنّ إجاباته عن العلاقة مع الإخوان ظلّت ملتبسة، مما يعزّز الشكوك الحقيقيّة حول أساليب الإخوان السريّة والملتوية والمُخادعة. حاول المرشّحان التصدّي للمشاكل الاقتصاديّة، لكن الإجابات كانت معلّبة وغير مُفصّلة. وحاول الطرفان ألا يستعديا الشلّة العسكريّة الحاكمة. لكن أبو الفتوح كان أكثر مجاهرة بآراء لا تتوافق مع ثوابت المجلس العسكري، وخصوصاً بالنسبة إلى العلاقة مع العدوّ الإسرائيلي. وقد نجح أبو الفتوح في إحراج موسى في ذلك المشهد الذليل في دافوس عندما بقي موسى في مقعده إلى جانب شمعون بيريز، فيما خرج أردوغان (لأسباب خاصّة به) من القاعة محتجّاً.
لم ينجح أي من المرشحين بالضربة القاضية، لكن أبو الفتوح نجح في امتحان النديّة. سيتمرّس الشعب العربي في محاكمة المناظرات إذا تقدّمت مسيرة الانتفاح السياسي العربي لدى الشعوب المُحتجّة. لكن أساليب الثورة المضادة لا تتوقّف والإلهاء هو واحد منها. قد نكتشف أنّ عضواً في المجلس العسكري يدير التوجيه الإعلامي للفضائيّات المصريّة من وراء الستار، كما كان الأمر في عهد مبارك. إنّ إعلام الفضائيّات لا يُركن إليه: ليس كنشر المجلات والصحف، إذ إنّه يحتاج إلى مال وفير وأصحاب المليارات والدول هي التي تحتكر ملكيّته.
المناظرة شيء جديد قد يدخل في باب التسلية العربيّة التلفزيونيّة، لكن زمن التقرير العفوي الحرّ في اختيار الحاكم لم يحن بعد. الثورة المضادة جارية على قدم وساق، والشيوعيون الثوريّون في مصر على حق: يجب التمنّع عن خوض الانتخابات في مصر في ظل حكم العسكر. يجب التخلّص من حكم العسكر قبل الالتهاء بالانتخابات؛ لأنّ المجلس العسكري لا يزال يقرّر بالنيابة عن الشعب المصري، ومن دون علمه. وهناك ألغام في الترشيحات الرئاسيّة: هل عمرو موسى هو مرشّح الثورة المضادة الإضافي، فيما يكون أبو الفتوح المرشّح السرّي لتنظيم ما اعتاد إلا السريّة والتقيّة والخداع؟
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)