يوحي الحراك الشعبي العربي الذي يؤلف بين جنباته بواعث التمرد على الطغيان والحرمان، فضلاً عن تداعيات الصخب الحاصل من انكفاء الحضور الغربي اليوم، بشيء من الحيرة والذهول، وخاصة من حيث سعة الانتشار والامتداد، وإن كان لا يخفي بطبيعة الحال، حيثيات إقليمية ودولية تعمل على صياغة توازنات جديدة. فنحن أمام انتشار وامتداد يلامسان أنظمة ودولاً حرّم فيها التظاهر والتعبير، فظلت تعاني غياب دستور وقوانين واستفتاء وحقوق مواطن. فهل نحن أمام استحضار للديموقراطية أم غزو لمفاهيم الحداثة وعقلانيتها؟
أم أنّنا نستحضر حروباً متوارية؟ لم تكن الانتفاضات العربية من فعل مجهول، من دون استبعاد المؤامرات، فهي من شيم الدول العظمى. لتنطلق شرارة التحرك من التواصلات الحاسوبية والهواتف المحمولة مستشفين منها إبداعاً وابتكاراً في آليات الاعتراض السياسي، أدى إلى انهيار معاقل مهمة موالية للغرب متخمة بالفساد والاستبداد. هكذا تبدلت المعادلات وأفشت بشرّ متطاير طاول مصالح الدول الغربية، بعد انكفاء الكيان الإسرائيلي وظهور هشاشة قوته الردعية، حتى لم يبق للغرب «الديموقراطي» إلا أن يباشر حضوراً مادياً من خلف الكواليس أو في العلن، مرتئياً تعميم الفوضى، وإدخال الدول في حروب أهلية تقوض قدرتها على التأثير والتصدي للكيان الإسرائيلي والغرب. لذلك عمد الغرب، وإن بلبوس المطالب الديموقراطية، إلى إذكاء فتن مذهبية وطائفية تضرب جذورها في التاريخ، فتن أخفقت الدول والمؤسسات في لجم نوازعها. إضافة إلى عمله على تطويق الحلف الصيني ــ الروسي ــ الإيراني المتنامي في سياق نزاعه على قواعد النفط وخطوط إمداداته.
أما الديموقراطية فحديث آخر، ذلك أنّها مدركَة مستحضرة، أو يشبّه لنا، فقد شاعت وانتشرت في مجتمعات متطورة شهدت تحوّلات اجتماعية كبرى وحروباً متعددة، ما جعلها ميزة من مميزات الغرب وأطره السياسية. لكن والحق يقال، لم تعدم المجتمعات الأخرى من ممارسات سياسية تحت مسميات العدل والمساواة والمؤاخاة والحقوق والواجبات، لتساهم في إنتاج المعرفة والعلم. فالمدركات والمعارف لا تخلق من عدم، بل تنمو وتتطور وتستنبط من التجارب السالفة والآنية.
تعرّف الديموقراطية بما هي وسيلة سلمية لتداول السلطة تتوسل الإقناع منهجاً والمجادلة الحرة مسلكاً لتحقيق الوئام والوفاق الاجتماعيين، وتنوّعاً في حيثياتها وتفاوتاً ثقافياً وأخلاقياً بحسب المجتمعات. وإذا كانت الديموقراطية تحدد أطر الاختيار الحرّ، فإنّها لا تدلنا على هوية الأفراد وولاءاتهم ومصادر خياراتهم، إذ تظل أهواؤهم ملكاً لهم.
إنّ استحضار الديموقراطية إلى مجتمعات لم تنضج فيها شروطها، هو أشبه بدعوة المكونات الاجتماعية إلى التقاتل والتناحر، لا التفاكر؛ فعندما تقودنا الثورات إلى تقويض الدولة ومؤسساتها، فإنّها تردنا إلى العصبيات الدينية والاجتماعية على أنواعها. هنا تكمن مخاطر الانتقال بمجتمعات لم تعرف الدمج والتجانس والنضج الديموقراطي. لذلك لا بد للقوى السياسية المطالبة بالتغيير من العمل على التسويات السلمية بالقضم المرحلي والمستمر حتى تحقيق مطالبها في ظل انعدام البدائل الواضحة. إنّ الديموقراطية لا تكون بالمحاباة والتقليد أو النسخ الذي يتعامى عن الظروف والمعطيات المحلية ــ من هنا ضرورة المواءمة من خلال استحضار المفهوم من الخارج وتشبيكه مع البيئة التي يقول فيها إيليا حريق إنّها «ابتكار آليات سياسية تتلاءم في الصيغة مع اوضاعنا الاجتماعية والحضارية دون ان نضحي بالجوهر» (انظر الديموقراطية وتحديات الحداثة بين الشرق والغرب ــ إيليا حريق ــ دار الساقي 2001 – ص 17).
ليست المواءمة إذاً ترفاً فكرياً، بقدر ما هي ضرورة معرفية ثقافية سياسية، فهي تقرّ معرفياً بوجود ثقافتين في حالة تناظر وتفاعل، يؤديان إلى التفاكر والتبادل المعرفيين فيجعلان التهجين اقتناعاً ورغبة وقبولاً.
إنّ كل الثقافات على تنوع بنياتها واختلافها هي علمية بالمعنى الحصري للكلمة؛ إذ إنها ترتبط بحقل إدراكي خاص بالجماعات والأفراد داخل بيئتهم، وكلّها تتطابق مع واقعها بطريقة أو بأخرى، وإلا استحالت الحياة. كذلك إنّ الإدراك لسيرورة علمية فردي بامتياز، فلا يمكنك أن تدرك عني أو عن دماغي، ما يجعل المفاضلة بين الثقافات فعلاً محصوراً بقيم الاستحسان الأخلاقي. فالقياس القيمي هو مرآة الرغبة والقبول، لذلك لا تُحاكم الثقافة إلا من داخلها ومن داخل معاييرها الأخلاقية والعقلية التي تعود إلى حاكمية حقلها الإدراكي نفسه. لذلك رأى ماتورانا «... أنّ تعددية الثقافات هي شرعية بامتياز من الناحية الموضوعية، وان احترامها يؤول إلى انّها تمثل حقولاً معرفية انسانية اياً تكن قناعاتنا بها او عدمها» (Le scerveau humain – ed. Du seuil . paris. 1974 المجلد رقم 2 – ص 170/171).
بناءً عليه، إنّ علمية ثقافة ما أو عدمها، مسألة نسبية تخضع لقبولنا بالاحتكام الطوعي إلى منظومات معرفية قيمية، وليس إخضاعنا لحكم تراتبي استعلائي، يصنف الثقافات ويبوبها ضمن ادعاء علمي وهو في الحقيقة اخلاقي. فهل يمكننا استنباط ثقافة انسانية عالمية، تقوم فوق الحضارات والمجتمعات وعابرة للتاريخ والأزمنة؟ إنّ هذه الثقافة ممكنة، وإن تكن أشبه بالمنطق الرياضي او الاستدلال العقلي (مع أنّ هذا الأخير لا ينأى هو الآخر عن الزمن والحيز الادراكي للثقافة). أما المسلمات العقلية على بداهتها، فهي أيضاً خاضعة للتفنيد والتعليل بحسب ظروف نشأتها ومقيّدات ثقافتها، فهي في نهاية المطاف استبطان عقلي ــ فكري لما يبدو لنا كأنّه علاقات ثابتة بين الموضوعات الخارجية، أي وفاقاً لزاوية النظر إليها.
نخلص إلى أنّ الثقافة العالمية التي يمكننا الاحتكام إليها لضبط صحة أفكارنا وآرائنا وثقافتنا، هي ثقافة القواسم المشتركة، والتي لا تستقيم إلا على القبول والرضى والاقتناع والحوار. وإنّنا نعتقد في هذا السياق بأنّ العنصرية هي بمعنى ما، تدنيس ثقافة الآخر، وتبخيس قيمتها المعرفية وشيطنتها، فلقد ثبت لنا أنّ لكل معرفة حضارية وعلمية، اساطيرها وخرافاتها.
فالإنسان كائن متعدد الأبعاد، يكتنز التناقضات المتنوعة. إذاً، لا بد لنا من مثاقفة حرة، أي استحضار ثقافة أخرى ومجادلتها والتفاعل معها لكي يصبح المحصّل عملية استيعاب وتكيّف. وبما أنّ كل ثقافة تشتمل على بعد عقلي واخلاقي، فإنّ استبطانها لا يمكنه ان يكون الا بالقبول والاستحسان، والا تحوّلت إلى قهر واستبداد واملاء من خارج.
إنّ الثقافة الغربية (كحال اي ثقافة) تتضمن بعدين: أولهما تقني وثانيهما أخلاقي. فالتقني ضوابطه علمية وعقلية وجدواه تؤكده التجربة، أما الأخلاقي (الفلسفي) فذاك شأن آخر، لأنّه يقارب الأهواء والأمزجة البشرية والرؤى الفلسفية، لذلك كانت محاكاته عرضة للنقاش والتأويل والتفكيك والتفنيد.
إذ كيف نفسر لمجتمعاتنا ذلك الانفصال والقطع بين المستوى السياسي والحاكمية الأخلاقية ــ الفكرية لكل ممارسات الانظمة الغربية ومقالاتها؟ وكيف يعقل ان تكون مجتمعات ديموقراطية في الداخل واستبدادية مع الخارج بل وعنصرية؟ وهل الحاكمية الحقيقية هي القوة والغلبة؟
لم يبق لنا والحال هذه، الا الاختيار الحرّ والطوعي، اي ان ننتقي من الثقافة الغربية ما يناسبنا ويحلو لنا، وما ينسجم مع منظوماتنا المعرفية والاخلاقية. فالمعيار الوحيد الذي يسدد مرامينا ويحدد خياراتنا، هو مدى قرب هذه الثقافة او بعدها عن تقريرنا الاخلاقي والانساني والمعرفي، وقناعاتنا بجدواها ومكاسبنا التقنية منها.
وهنا بإمكاننا الاستعانة بالنموذج الإيراني، مدخلاً لتوكيد نظرية المثاقفة. فقد اكتسبت الجمهورية الإسلامية في ايران مكانة مرموقة بين الدول من حيث اصالة تجربتها السياسية والفكرية، اذ استنبطت نموذجاً يحتذى به بين الدول النامية وبين البيئتين العربية والاسلامية. لذلك، فقد نظر الغرب عامة إلى هذه التجربة بشيء من الريبة والخوف، لما تحمله من إمكانيات التصدير إلى دول اخرى نفطية او غير نفطية. وسواء وافقنا أو لا، فإن هذا النموذج ماثل امامنا بشكل صريح: من الاستقلال ومناهضة الغرب وسيطرته، إلى التنمية الذاتية التقنية والعلمية والتحكم بالمواد الاولية الذاتية، ثم مقاومة اسرائيل وصولاً إلى ثقافة محلية محدثة.
استطاعت التجربة الايرانية كشف مسائل فكرية اساسية، منها انّ تطور المجتمعات لا يخضع بالضرورة لحتمية تاريخية مفترضة، وما النمط الغربي الرأسمالي الا وجه ممكن من وجوه تطور المجتمعات.
كذلك إنّ قانون التفاعلات السياسية والاجتماعية، ليس ذا طابع فيزيائي رياضي، بل يخضع لتداخل عناصر متعددة وعوامل متوقعة ظرفية وعشوائية، كذلك إنّ التفاعلات هذه، هي ذات مرتكزات ثقافية وايديولوجية واقتصادية. وكذلك الأمر بالنسبة إلى المخيلة الانسانية، فهي تعمل على دمج المعطى المادي الموضوعي بالثقافة والتراث والمعتقد الديني، لتبتكر حلولاً لبناء المجتمعات. أما التطوّر التقني فقد اثبت النموذج الايراني امكانية استنساخه او دراسته وتهذيبه بطريقة علمية تناسب وتنسجم مع الغطاء الايديولوجي، وكذلك الثقافة التي يمكن تلقيحها او تهجينها بطريقة توصل إلى صياغة معادلات فلسفية فكرية ابداعية.
انّ كل المجتمعات يمكنها ان تشهد ابداعات ذاتية في منظوماتها السياسية، والفكرية العملية، فالمثال الياباني كان مثلاً دمجاً وتوليفاً للثقافة المحلية مع التطور الرأسمالي الوافد اليه.
انّ الهاجس الاميركي الغربي ــ العربي هو من امتداد النموذج التنموي الايراني إلى الواقع العربي والاقليمي، ذلك انّه بعكس النموذج التركي يلامس جوهر بناء الانظمة العربية ومدى ارتباطها بالغرب، اي انّه يعيد وصل ما انقطع بين المستويين السياسي والاخلاقي ــ الايديولوجي، على ما لاحظه ميشال فوكو في حديثه عن روحنة السياسة في المثال الايراني.
لقد اثبتت التجربة الايرانية قدرة الشعوب المستقلة على البناء الذاتي. أي سلك مسالك التنمية والنهضة العامة ومقاومة السيطرة الغربية في آن واحد. كذلك والفت بين المصالح السياسية والاقتصادية وبين المضمون الاخلاقي والايديولوجي، ما اضفى طابعاً خلاقاً على مفهوم الاستقلالية.
اضف إلى ذلك أنّ النموذج الايراني اسهم في تحديث ذكي ومركب، يمفصل التقنية مع المفاهيم العامة للحريات وتداول السلطات والتنمية الاجتماعية، ويشبكها بالحاكمية الثقافية والمعتقد الديني، كل هذا في سياق المحافظة على العدالة والمساواة وحرية التعبير، وتمثيل الاقليات العرقية والدينية في المؤسسات الرسمية. لقد افلح هذا النموذج ايضاً، في تبئير الحداثة بحيث استنبط من مناهجها العامة كحقوق الانسان والديموقراطية اطراً جديدة تتقاطع مع المبادئ الدينية واخلاقيتها، ما دفع كل الفئات الشعبية، ومن ضمنها غير الإسلامية، إلى الالتفاف حول النظام العام ودعمه، وإن كان الأخير بعيداً من الكمال.
لا يهم في هذا المقام التعرض لمضمون المعتقد الديني نفسه والثقافة بحد ذاتها، فقد نوافق أو نعارض، إلا أنّ القول الفصل هو للشعب الإيراني الذي يملك وحده تعديلاً في المضمون أو تغييراً أو تأويلاً. أوليست هذه هي الحريات وحقوق الإنسان؟
لم يكن «الربيع العربي» إلا لحظة تمرد عام، وقع بفعل متغيّرات عميقة الجذور تطاول كل استراتيجية المنطقة العربية من الناحية السياسية. أما المقاومة العربية والاسلامية، فقد تعاظم نفوذها والالتفاف الشعبي حولها، وهو ساعد ولا يزال في تهميش تناقضات كثيرة، مؤلفاً بين جماعات وفئات وطوائف، كانت حتى وقت قريب تتنازع وتتحارب في الخفاء. أدى «الربيع العربي» إلى استنفاد الانظمة العربية التابعة للغرب والمشروع الاميركي كل امكاناتها في لجم تطلعات شعوبها، فلم تعد تتمتع بقاعدة سياسية ترجى، حتى بات من الضروري تغييرها واستبدالها. وكذلك الامر في ما يخص الولايات المتحدة الاميركية التي انهزمت في العراق، فلم تجد بداً من انسحابها، ليتبعها انكشاف الكيان الاسرائيلي الفاقد لقوته الردعية، إلى أن أضحى هذا مهووساً بمسألة ومبرر بقائه. أما الحلف الصيني ــ الروسي والمحور الإيراني ــ السوري ــ حزب الله وحماس، فقد تنامى نفوذه حتى بات مهدداً لانظمة الخليج، وقواعد الغرب الثابتة والمتنقلة فيه.
إنّ الولايات المتحدة الاميركية خبيرة بوضع الاستراتيجيات السياسية والاقتصادية، فهي تحقق الدراسات الانسانية والاجتماعية في منطقة الشرق الاوسط وغيرها. إلا أنّ لحظة ظهور «الربيع العربي»، يبدو أنّها تقاطعت مع محاولات الالتفاف الأميركي على التسويات والمتغيّرات الجديدة، فعمدت إلى تشجيع الإسلام السلفي في سعيه للوصول إلى السلطة بديلاً من الانظمة المتهالكة، وهي الرؤية التي روّج لها جيفري فيلتمان، في تشجيعه محوراً سعودياً ــ قطرياً لا تمانعه اسرائيل، وترعاه جامعة عربية استيقظت فجأة من سباتها. والجدير بالذكر، أنّ هذا الاتجاه الذي يرعاه فيلتمان، لم يخرج من العدم، بل يتماسك ويستمد قوته من معطيات اجتماعية ودينية وسياسية. فهو يضع المكونات الاجتماعية والمذهبية في حالة تنافر واستنفار وتعبئة يناط بها تفعيل صراعاتها ونزاعاتها عميقة الجذور، في التاريخ والجغرافيا، وان كانت ترهص باحتمالات الافول والتهميش، فلقد أُنعشت عبر المناظرات والندوات والشعائر وتغذية الاتجاهات المتطرفة لفرض وجهة سير واحدة للتاريخ تقوم على الحروب الاهلية؛ إذ مقابل الجهادية الشيعية، كما يعرّف عنها وهي تشمل المحور السوري ــ الإيراني ــ الفلسطيني، المعادي للغرب واسرائيل، سوف تقابل بمحور مستجد سلفي تكفيري مطعم بنخب هامشية يسارية الاصل شديدة التغريب، وان لم يكن المحور الممانع الغربي قد تنبه إلى فصول الفتنة القادمة، فعمل على اخماد نارها وهمش فوارقها الفقهية او ارجأ الحديث عنها، مشدداً على الابعاد السياسية والتوحيدية، رغم الأخطاء وهنا وهناك.
ويبدو انّ النظام السوري قد تمكن من استيعاب الصدمة العنيفة وعمل على امتصاص ارتداداتها، لأنّ الغرق فيها لن يؤدي الا إلى حروب طاحنة طائفية وفوضى خلاقة وعبثية إلى أقرب الاجلين: الموت السريع او الموت البطيء.
اننا نعتقد يقيناً بأنّ هناك قوى سياسية صاعدة متعددة الانتماءات والاطياف، ذات مصلحة في احداث اصلاحات في النظام السياسي السوري، لأن فكرة الممانعة لا بد لها من قوى تتمسك بها امام غرب يملك من القوة والقدرة ما لا تستطيع انظمة هشة ان تقاومه وتجوف انيابه ومخالبه.
* كاتب لبناني