في خطاب ألقاه في مؤتمر هرتسيليا الأمني في 2003، قال رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو «إذا كانت هناك مشكلة ديموغرافية تواجه إسرائيل، فهي بالفعل تلك المشكلة التي مع العرب الإسرائيليين المتمتعين بالجنسية الإسرائيلية، لأنّه إذا فاقت نسبة العرب حملة الجواز الإسرائيلي عن 20%، فلا يمكن لإسرائيل أن تحافظ على أغلبية ديموغرافية يهودية».وفي المؤتمر الأمني نفسه الذي جمع كبار المسؤولين الإسرائيليين واليهود من دول العالم، اقترح وزير الخارجية الإسرائيلي الحالي المولديفي الأصل والذي عمل سابقاً حارساً في ملهى ليلي، أفيغدور ليبرمان، مبادلة العرب الفلسطينيين في الداخل مع المستوطنين في الضفة الغربية من أجل أن يحافظ الكيان الصهيوني على هويته اليهودية. وكأنّها وصفة مأخوذة من أحد الكتب النازية، اقترح الدكتور الصهيوني اسحق رافيد، وهو مسؤول حكومي في فترة التسعينيات، محاربة ارتفاع نسبة الخصوبة ونسبة المواليد لدى الفلسطينيين العرب في مناطق الـ 48 من خلال تطبيق سياسة صارمة وحازمة تحدد النسل لديهم.
ومن المعروف أنّه لا يمكن الحفاظ على أغلبية عرقية لعرق ما على حساب عرق آخر، إلا من خلال الكبت والظلم الجماعي للعرق الآخر، وهذا ما ولد لدى إسرائيل هاجساً كبيراً للمحافظة على العرق اليهودي. ويعتبر هذا الهاجس مصدراً أساسياً للسياسات الأمنية العنصرية التي تمارسها إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني، وتجلت لاحقاً بهوس ورهاب أمني أنتج جدار الفصل العنصري، والاحتلال العسكري، ومحاولة إسرائيل الدائمة لتطوير ترسانة أسلحتها، كي تتفوق أمنياً وعسكرياً على جميع دول الجوار والمنطقة. أدى ذلك إلى تعثر وخروج مسيرة السلام في منطقة الشرق الأوسط عن مسارها المرسوم لها.
ولحسن الحظ أنّ جميع المشاريع العنصرية السابقة تكللت بالفشل، كتجربة ألمانيا وجنوب أفريقيا وغيرها من البلدان، إلا أنّ المشروع الألماني الهتلري أنتج لنا قبل انهياره مذبحة المحرقة اليهودية «هولوكوست»، وأنتج لنا المشروع العنصري الصهيوني الحالي النكبة والتطهير العرقي للشعب الفلسطيني في 15 أيار 1948.
ومنذ ذلك الحين، وفي التاريخ نفسه، يواظب الفلسطينيون على إحياء ذكرى نكبتهم الأليمة التي حلّت بهم بسبب احتلال أرضهم والترحيل الجماعي القسري لهم تحت تهديد السلاح، وارتكاب المجازر وتهجيرهم من بيوتهم وقراهم ومدنهم التاريخية التي ولدوا على أرضها. إنّ الهوس الأمني الذي يرافق الفكر الصهيوني لم يكن وليد اللحظة، بل كان شعوراً غامراً لديه قبل ولادة إسرائيل بزمن بعيد، أي منذ ولادة الحركة الصهيونية في أواخر عام 1800 بهدف إثارة الرأي العام الدولي وتهيئته للمساهمة بإقامة دولة ذات طابع يهودي على أي بقعة من العالم، قبل أن يرسو الاختيار على أرض فلسطين، لأهميتها الجغرافية والتاريخية.
ففي 1896، أنبأ مؤسس الحركة الصهيونية تيودور هيرتسل أنّ الدولة اليهودية القادمة سوف تقوم بطرد السكان الأصليين خارج موطنهم الأصلي بطريقة مبرمجة وذكية، دونما أن يشعر بهم أحداً.
وبعد تصويت الأمم المتحدة على قرار تقسيم فلسطين في تشرين الثاني/ نوفمبر 1947 بين سكانها الفلسطينيين الأصليين والمهاجرين اليهود القادمين من أوروبا، أعلن مؤسس دولة إسرائيل الجديدة ديفيد بن غوريون في خطاب له أمام حزب العمل الإسرائيلي في كانون الأول/ ديسمبر 194 أنّه بناءً على قرار التقسيم، فإنّ العدد السكاني للدولة اليهودية عند تأسيسها سوف يصل إلى مليون نسمة، يتضمن تقريباً 40% من غير اليهود، مضيفاً إنّ هذه التركيبة السكانية لا تضمن الاستمرارية للدولة اليهودية، منوهاً بأنّه لا يمكن إقامة دولة يهودية قوية ما دام عدد السكان اليهود لا يتعدى 60%.
وما خرج من الأرشيف السري عن فترة مراحل إقامة دولة إسرائيل يؤكد أنّ سياسة الحركة الصهيونية كانت مبرمجة من أجل إقامة دولة يهودية مبنية على النقاء العرقي اليهودي. ومن أجل تحقيق هذا النقاء العرقي، شنت التنظيمات الصهيونية العسكرية مذابح إرهابية منظمة بقيادة ما تسمى في حينه «هيئة الترحيل»، التي كانت بقيادة بن غوريون شخصياً. وبقصدٍ أو عن غير قصد، أطلقت تلك الهيئة أسماء على حملاتها العسكرية بحق الفلسطينيين مضمونها يشير بكل وضوح إلى سياسة التطهر العرقي، مثل عملية مكنسة، وعملية التطهير، وعملية التمشيط، وغيرها من العمليات الإجرامية. وهذا ما كتب عنه في مذكراته يوزيف فايتز (Yosef Weitz) الذي كان يرأس دائرة الأراضي والتشجير في «الصندوق القومي اليهودي»، في الأربعينيات، الذي قال فيها: «يجب أن لا نبقي هناك أي قرية أو قبيلة، فالترحيل يجب أن يكون باتجاه العراق وسوريا أو حتى باتجاه الأردن».
وجاء المؤرخ الإسرائيلي إيلان بابيه ليؤكد هذه السياسة المبرمجة في بحث أصدره في كتاب أطلق عليه اسم «التطهير العرقي في فلسطين»، مقتبساً فقرة من مذكرات بن غوريون حينما كتب فيها «نحن بحاجة إلى ضربهم بدون رحمة وهوادة وبدون تمييز بين نساء أو أطفال أو شيوخ، وما عدا ذلك فلن يكون مؤثراً أو ذا فائدة. وأثناء هذه العملية، يجب أن لا نميّز بين المذنب وغير المذنب».
إنّ إنشاء دولة إسرائيل في 1948 توّج بالترحيل والتهجير القسري لأكثر من 800 ألف فلسطيني، وبتدمير 531 قرية وبالاستيلاء على 92% من الأراضي الفلسطينية، وما تبقى من السكان في مناطق الـ 48 من الفلسطينيين هم 150 ألف فلسطيني أجبروا قسراً على حمل الجنسية الإسرائيلية. واعتبرت إسرائيل من لم يتسجل لديها في تلك الفترة ويحصل على الجواز بأنّه مقيم بطريقة غير قانونية. ومن أشهر هؤلاء الذين اعتبرتهم إسرائيل لا يتمتعون بالصفة القانونية في دولتهم الوليدة، الشاعر الفلسطيني الكبير المرحوم محمود درويش، عندما واجه درويش القاضي اليهودي المهاجر الذي اتهمه بأنّه غير قانوني في البلاد، وقال له: «الله خلقني على هذه الأرض قبل أن تخلق دولتكم في الأمم المتحدة».
ومن الجدير بالذكر أنّ أكثر من 50% من الفلسطينيين الذين هجروا من ديارهم وأصبحوا لاجئين تم ترحيلهم من بيوتهم عندما كانت فلسطين تحت حماية الاستعمار البريطاني. وتوقعت دراسة لوزارة الخارجية الإسرائيلية حول وضع اللاجئين الفلسطينيين بعد حرب الـ 48 أنّ اللاجئين سوف يكونون قادرين على التأقلم في بلاد الشتات ضمن المعطيات الجديدة، فمنهم من سيموت، ومنهم من سيندمج كجزء من طبقات المجتمع العربي الأكثر فقراً، على حد تعبيرهم.
اليوم صمود الشعب الفلسطيني الذي استمر طوال الـ 64 سنة الماضية، أفشل النظرية الصهيونية وأثبت بطلانها بشكل يقطع الشك باليقين. حتى إنّ الإسرائيليين أنفسهم أصبحوا يعترفون بهذا الصمود، ووصل هذا الاعتراف إلى حد دعا الكاتب الإسرائيلي داني روبنشتاين إلى وصف الفلسطينيين في كتابه، قائلاً: « كل شعوب العالم تعيش في داخل أوطانها إلا الفلسطيني، فإنّ الوطن يعيش في داخله».
* كاتب فلسطيني